تطغى أخبارُ المطربين والعازفين على جلسات أهل حلب وأحاديثهم. فإذا روى أحدُهم سالفةً عن أحد الموسيقيين الحلبيين، ابتسم الحلبيّون الحاضرون مظهرين معرفتَهم بها؛ فكأنّهم أتوْا بهذه القصص من مدرسةٍ واحدة أو معلّمٍ واحد، أو كأنّهم عايشوا الحالة نفسَها. وهم بذلك يضعون المستمعَ إلى قصصهم في موقفٍ يتراوح بين الدهشة وعدم التصديق؛ ما يُظهر موسيقى حلب أشبهَ بمجموعة من السيَر و"الأساطير."
بعد أن أحيا موسيقيّون حلبيّون مخضرمون ــ ممّن صاحبوا أشهرَ مطربي حلب في أسفارهم الفنيّة حول العالم كما في حفلاتهم المحلّيّة ــ ليلةً موسيقيّةً حلبيّةً في بيروت، يجلسون لتناول العشاء معًا بعد انقطاعٍ طويل فرضه النزوحُ عن حاضنتهم جرّاءَ الحرب. وكيفما تكلّموا حضرتْ حلب وحفلاتُها الطوال وقصصُ أشهر مغنّيها.
يروي أحدُ الموسيقيين الحلبيين عن مغنٍّ حلبيّ مشهور يتعمّد الوصولَ باكرًا إلى مكان حفلته ــ وعادةً ما تكون في مطعمٍ ــ لتذوّق المازات والأطباق الأساسيّة التي سيتناولها الجمهور خلال الاستماع إليه، فيطلب من الطبّاخ تعديلها بما يتناسب وجودةَ الموسيقى التي سيقدّمها خلال الحفل. يبدو الأمر طرفةً للوهلة الأولى؛ ولكنّ الموضوع يأخذ منحًى أكثرَ جدّيّةً وعمقًا من خلال توصيف الحلبيين لأهميّة تناول الطعام أثناء الاستماع إلى الموسيقى؛ فتذوّق الحلبيّ للطعام مرتبطٌ بشكلٍ كبيرٍ بتذوّقه للموسيقى وبطريقة تلقّيها، خصوصًا أنّ حفلات حلب تمتدّ ساعاتٍ طويلةً: فإذا بدأتْ عند التاسعة مساءً استمرّت حتّى الرابعة فجرًا.
يُخبر موسيقيّ ثانٍ في أحد المطاعم البيروتيّة عن التمارين الموسيقيّة الدوريّة في فرقة أحد المطربين الحلبيّين. فقد يستمرّ التمرين سبعَ ساعاتٍ أو أكثر، ويقوم أعضاءُ الفرقة والمغنّي بتأدية الوصلات على مقاماتٍ معيّنة، ويحضّرون الموشّحاتِ والأدوارَ والقدود. ولكنّ هذا التمرين ــ على طوله ــ لا يعني تحديدَ برنامج الحفلة في حلب؛ فقبل ابتداء الحفلة بلحظاتٍ يتحسّس المغنّي طاقة المكان والزمان، ويعاين مَن وصل من الجمهور إلى الصالة وبدأ بتناول الطعام، فينتقي المقامَ "المناسب للجوّ،" وهو غالبًا ما يكون مغايرًا للمقام الذي تدرّبت الفرقةُ عليه أصلًا، ثمّ يُبلغ هذه الفرقة بالمقام الذي ستبدأ به الوصلة، فتَدخل هذه الفرقةُ أمام الجمهور، وتعزف استهلالًا موسيقيًّا تهيّئ به مزاجَه، قبل أن يلتحقَ المغنّي بها ويبدأَ الغناء. يضحك الموسيقيّ في المطعم وهو يصف ذلك التناغمَ بين المطرب والفرقة وطاقة المكان والزمان، ويردّد جملة مطرب حلبيّ: "كِنِّي وقت راست!" أيْ إنّ المطرب يُعلِم فرقته، باللهجة العاميّة الحلبيّة، قائلًا: "أشعر أنّه وقتٌ مناسبٌ لمقام الراست،" فتردّ الفرقة إيجابًا وتبدأ بعزف الراست.
ويعود موسيقيّ ثالث إلى زمنٍ أقدم، فيردّد ما سمعه من أساتذته عن زيارةٍ قام بها عبد الوهّاب إلى حلب. هناك، تساءل عبد الوهّاب عن غياب أحد المقامات عن موشّحات حلب، فردّ الشيخ عمر البطش(2) (1885-1950)، أحدِ أقدر المشايخ المنشدين الملحّنين والمتصوّفين في حلب، بأنّ ذلك المقام ليس غائبًا، وأنّ هناك موشّحًا منه ولكنّه نسيَ تفاصيله. وفي اليوم الثاني، أتى البطش إلى عبد الوهّاب بموشّحٍ ــ عرف الحلبيّون مباشرةً أنّه طازجٌ – من المقام المذكور. يقاطع موسيقيّ آخر القصّة ليضيف سالفةً ثانيةً، وهي أنّ عبد الوهّاب في أوّل حفلةٍ(3) له في حلب أتى لحضوره عدد قليل جدًّا، فأراد إلغاءَ الحفلة،(4) إلى أن أخبره أحدُ الحلبيّين القائمين على الحفلة أنّ الجمهور الحاضر هو "لجنة سمّيعة حلب،" الذين يحْضرون أولى حفلات المطربين الوافدين إلى مدينتهم؛ فإن نجح في إطرابهم نظّموا له حفلةً ثانيةً حاشدةً وكسب شهرةً بين أهلها... وهذا ما حصل مع عبد الوهّاب!
تُظهر السوالفُ السابقة أنّ موسيقيّي حلب لا يقبلون أن تُعتبر موسيقاهم "ناقصةً" لأيّ تفصيلٍ أو مقامٍ. وتظهر السالفة الأولى، تحديدًا، غزارةَ الإنتاج، وسرعة التلحين عند موسيقيي هذه المدينة؛ فيما تُظهر الثانية دقّة السمع لدى أهلها، وطريقة رواج سمعة مطربٍ وافد.
يذكر الحلبيّون هذه القصص، المعبّرة عن الجوّ الموسيقيّ في حلب، بكثيرٍ من العفويّة. ولئن أكثروا الحديث عن فنّانٍ حلبيٍّ مشهورٍ،(5) فإنّه سرعان ما يذكرون اسمَ معلّمه، ومعلّمِ معلّمه، وأصحاب هذا المعلّم أو ذاك من مشايخ وفنّانين. ثمّ يذكرون المحيطَ الموسيقيّ الذي تربّى فيه، والزاوية الصوفيّة(6) التي تردّد إليها، ثمّ الفِرَق التي انضمّ إليها وتدرّب معها. ويذكرون معاصرتَه لملحّن قديرٍ أو لمنشدٍ عَلمٍ، ويفخرون باعتلائه مسرحًا مهمًّا خارج حلب، وبتكريمه في أحد المهرجانات العالميّة. ولكنْ سرعان ما يذكرون اختلافًا وقع في هذه الحفلات العالميّة، التي تكون "مبرمجةً" أكثرَ ممّا ينبغي، مقارنةً بمساحة الارتجال والعفويّة والسلطنة التي يفضّلونها في حفلاتهم المحلّيّة:
فقد لا يأتون بفرقتهم كاملةً إلى الدول الأوروبيّة والأميركيّة العربيّة، وقد يستعينون ببعض العازفين من خارجها.(7) وهم يحدّدون برنامجَ الحفلة هناك مسبّقًا ليقدّم "نموذجًا" عن الموسيقى الحلبيّة الأصيلة، ولينوّع بين الوصلات التقليديّة(8) وبين أغنياتٍ من مدارس أخرى(9) كالطرب المصريّ مثلًا. كذلك يتّبع العازفون الحلبيون في الخارج النوتة، وتدوينَ المقطوعات كما هي، إذ لا يُتوقّع من العازفين المستقدَمين إلى حفلات الخارج إتقانَ العزف حفظًا ولا إيجادَ المقامات بيسرٍ. وهم يحدّدون مدّةَ الحفلة بساعتين أو أكثر بقليل، إذ لا يُتوقّع من جمهور المدن والدول الأخرى أن يشبه سمّيعة حلب، فيتحمّلَ ساعاتٍ طويلةً من السمع مثلهم. ولكنْ، مهما قدّموا من مقطوعات وأمسيات "حَلبَنوها."(10) وأبسطُ دلائل هذه "الحَلبنة" لهجةُ المغنّي: بتفخيمه الجيمَ، وبفتحه الألفَ المَمدودة، خلال أدائه الأغنياتِ غيرَ الحلبيّة.
أمّا في الحفلات الحلبيّة، فيكون العرض مختلفًا وكاملًا مكمَّلًا. من ناحية الوقت، كما سبق الذكر، تستمرّ الحفلاتُ من العشاء إلى الفجر. ولا يقبل الجمهور بانقطاع الموسيقى إلّا عند السلطنة، فيردّدون عباراتٍ باللهجة الحلبيّة مثل: "هلّأ إيجّينا،" (أيْ: لقد وصلنا إلى الحفلة للتوّ)، أو: "لسّاته ما فتح تمّه" (وذلك عندما يشعرون أنّ المغنّي يتوجّه صوب القفلة).(11) كما يرتجل الموسيقيّون كثيرًا خلال حفلات حلب؛ يساعدهم في ذلك أنّ الموسيقى الحلبيّة، التي تتبع اللغة المقاميّة المشرقيّة، ترتكز على الارتجال، وعلى إعطاء مساحة واسعة للمغنّي والفرقة للتنويع و"التحلايات"(12) التي هي بنت لحظتها.
***
تُعرَف عن هذا التقليد الموسيقيّ قوالبُ موسيقيّةٌ عدّة: من الموشّح، إلى الموّال، والقصيدة، والدور، والنمط الموسيقيّ الأشهر: القدّ... وكلّها تقدَّم على شكل وصلات. ويُعتبر الموشّح(13) من أرقى المؤلّفات الغنائيّة بالنسبة إلى الحلبيّين، ويمتاز بصياغته الأدبيّة الجميلة (قصيدة بالفصحى البسيطة وتتخلّلها كلماتٌ بالعامّيّة)، وبجمال لحنه، وبحسن ترابط الكلام واللحن، وبانسجام اللحن مع الإيقاع.
أمّا الموّال(14) فهو الباب الأوسع للارتجال كلامًا ولحنًا. وهو مؤلّف من أبياتٍ شعريّة باللهجة المحكيّة، يختلف عددُ أشطرها من مدينة إلى أخرى. في حلب، يُشتهر الموّالُ السبعاويّ(15) (ذو الأشطر السبعة) فيكون لحنُه مرتجلًا بالكامل من طرف المغنّي، وترافقه الفرقة عزفًا على جمله. وقد يغيّر المغنّي كلمات الموّال خلال الحفلة.
وأمّا الدور(16) فقالبٌ مصريّ في الأساس، وهو تلحينٌ لنصوصٍ باللهجة المحكيّة المصريّة، تتخلّله آهاتٌ و"ليالٍ" وارتجالاتٌ وإعادات.
وأمّا القصيدة(17) فارتجالٌ لحنيٌّ على أبيات شعرٍ فصيح. وقد اعتُمدتْ بعضُ ارتجالات القصائد مع الوقت فأصبحت ألحانًا لها.
أمّا القدود،(18) الأكثر شهرةً في الأنماط الموسيقيّة المعروفة عن حلب، فهي أن يُعتمد على أغنيةٍ محبوبةٍ، فيُستبدل كلامُها على "القدّ" (بتحويله، مثلًا، من كلام دنيوّي الى كلام دينيّ، أو العكس)؛ أو أن يؤخذ لحنٌ آليّ محبوب، فتُسقط عليه كلماتٌ يردّدها الناسُ. وتكون القدود في قوالب عدّة مما ذكر آنفًا.
تعطي هذه القوالب والأنماط مجالًا واسعًا للارتجال والتنويع، بحسب جوّ الجمهور و"تطييباته" وانطرابه، وبحسب سلطنة المغنّي والفرقة وقدرتهما على الخلق الآنيّ والتفريد. وتُضاف إلى ذلك قدرةُ المغنّي على ارتجال أبياتٍ جديدةٍ في المواويل مثلًا، واستبداله كلماتٍ بأخرى في القصائد عند الإعادات.
ويمثّل التعلّمُ (بين أستاذٍ وتلميذٍ) إحدى أبرز ركائز انتقال التراث الموسيقيّ الحلبيّ والحفاظ عليه. وهو انتقالٌ شفهيٌّ(19) يقضي فيه الطالب وقتًا طويلًا مع أستاذه، فيتعلّم منه ويحفظ الوصلات ويتدرّب عليها. ويستمع منه أيضًا إلى أخبار فنّاني حلب، من مشايخ ومنشدين وشعراء وموسيقيّين أعلام. فتقوم علاقة وطيدة بين الطالب وأستاذه؛ والأخير لا يأتي من عالم النظريّات الموسيقيّة، بل يكون ممارسًا للفنّ، ويكون قد تتلمذ بدوره عند معلّمين حلبيين. هذه الطريقة في الانتقال الشفهيّ لخصائص الموسيقى الحلبيّة، وما يرافقها من أخبارٍ وقصصٍ عن مطربيها وعازفيها وسمّيعتها، تُظهر أهلَها مؤتمينن على إرث مدينتهم الفنّي، ينقلونه معهم شفهيًّا أينما حلّوا، فـ"يُحَلبنوا" الأمسياتِ التي يحضرونها، ويحوّلونها إلى جلسات سردِ قصصٍ وسوالفَ عن مدرسة ثقافيّة مشرقيّة أصيلة اسمُها: حلب.
بيروت
1- يردّد الموسيقيّون الحلبيّون أنّ أهل حلب ينقسمون بين مغنٍّ وعازف وسمّيع، للدلالة على سعة انتشار الموسيقى في المدينة.
2- يُعتبر من أشهر ملحّني الموشّحات في حلب. المزيد عنه في كتاب القدود الدينيّة، بحث تاريخي موسيقيّ في القدود الحلبيّة، محمد قدري دلال – حلب عاصمة الثقافة الإسلاميّة – وزارة الثقافة، دمشق، 2006، ص29.
3- زار عبد الوهّاب حلب للمرّة الأولى بين العامين 1927 و1930.
4- مع انتشار التسجيل والأسطوانة في بداية القرن العشرين تعرّف الجمهورُ الحلبيّ على مطربي مصر، ومنهم عبد الوهّاب. هنا، عبد الوهّاب يروي قصّة الحفلة الأولى في حلب: http://www.agha-alkalaa.net/archives/4702
5- اشتُهر بعض الفنّانين الحلبيّين خارج حلب، ويشتهر عدد أكبر منهم بكثير داخل المدينة وبين أهلها.
6- حيث يتمّ تعلّم الطرق الصوفيّة والإنشاد الدينيّ الصوفيّ. اشتهرت حلب بزواياها الصوفيّة العديدة.
7- خلال الحفلات خارج المدينة، يتمّ الاعتمادُ على عازفين محليين، حيث تقام الحفلة، لتعثّر سفر بعض أفراد الفرقة.
8- الوصلة هي مجموعة قوالب غنائيّة أو عزفيّة من المقام نفسه. المزيد عن الوصلة: http://www.amar-foundation.org/021-the-wasla-1/?lang=ar و http://www.amar-foundation.org/024-durub-al-nagham-wasla/?lang=ar
9- إذا أحبّ الحلبيّون لحنًا ضمّوه إلى موروثهم الموسيقي. القدود الدينيّة - ص 28.
10- أي أضافوا إليها مزايا وروحًا حلبيّة .
11- خاتمة المقطوعة أو الوصلة أو الحفلة.
12- التزيين الغنائيّ أو العزفيّ حول اللحن الأساسيّ.
13- الموشّح كنصّ أدبي هو شعر منمّق اشتهر في الأندلس. المزيد حول الموشّح الحلبي كقالب موسيقيّ في القدود الدينيّة، ص 31.
14- القدود الدينيّة، ص 47
15- القدود الدينيّة، ص 47 أو http://www.amar-foundation.org/013-the-mawwal/?lang=ar
16- ص 50.
17- ص 43.
18- ص 64.
19- عن الانتقال الشفهي للموسيقى في حلب: القدود الدينيّة، ص 29.