كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.
من "منجزات" الدول العربيّة في أولمبياد 2016، الحاصل في البرازيل هذه الأيّام، حصولُ دولة الإمارات العربيّة المتّحدة على ميداليّة في الجودو، حقّقها لها "المواطن" سورجيو توما...من مولدافيا! وهو بذلك ينضمّ إلى كوكبةٍ كبيرةٍ من اللاعبين الأجانب الذين حقّقوا جزءًا كبيرًا من المجد العربيّ الأولمبيّ، ورفعوا اسمَ "بلادهم" عاليًا. وبعد أن انتهت عقودُهم، سُحبتْ منهم الجنسيّاتُ المؤقّتة التي مُنحوها أوانَ توقيع العقد، وعادوا إلى بلادهم الأصليّة حاملين تقديرَنا "الغالي" لجهودهم على شكل ودائعَ مصرفيّة.
وقبل المحاججة بزين الدين زيدان، وبالمئات أو الآلاف غيرِه من اللاعبين العرب وغير العرب في دولٍ غربيّةٍ وغير غربيّة، فإنّنا نميّز تمامًا هنا بين لاعبٍ يحصل على جنسيّةِ دولةٍ يقيم فيها ثمّ يرفعُ علمَ بلادها في الملاعب؛ وبين لاعبٍ آخر يُستجلب على جناح السرعة، ويُمنح "جنسيّةً مؤقّتةً" (تُسحب منه بحسب الاتفاق) حتّى يشاركَ في المحافل الدوليّة، وهو لا علاقةَ له بوطنه الجديد، بل لا يبحث عن علاقةٍ تتخطّى موعدَ آخر الشهر مع التقديمات والمِنح والحوافز.
الموضوع إذًا هو خيارُ الدولة: بين أن تبني مجدًا حقيقيًّا، وبين أن "تستعيره" أو "تشتريه." وهنا ينضمّ "الإماراتيُّ المؤقّت" سورجيو توما إلى "القطريَّيْن المؤقّتيْن" معتزّ برشم (سودانيّ) وأسعد سعيد سيف (بلغاريّ)، وإلى "البحرينيّة المؤقّتة" مريم يوسف جمال (أثيوبيّة)، وإلى غيرهم ممّن ضمنوا لهذه الدول ذِكْرًا في نتائج الأولمبياد. وإذا كان التجنيسُ الرياضيّ ظاهرةً عالميّةً، فإنّه في الحالة الخليجيّة قد بات الأرنبَ الذي نستسهل إخراجَه من القبّعة لنزجَّ بأسماء بلادنا على منصّات التتويج.
الموهبة الفرديّة وحدها لا تأتيكَ بمجدٍ قوميّ
تاريخيًّا، تنازعتِ الجزءَ الأكبرَ من جوائز الأولمبياد مجموعةُ دولٍ انقسمتْ إبّان الحرب الباردة بين الاتّحاد السوفياتي والصين (ومَن يدور في فلكهما) من جهة، وبين الولايات المتّحدة الأميركيّة ودولِ أوروبا الغربيّة من جهةٍ ثانية. وهذا يعني أنّ تحقيقَ الإنجازات الرياضيّة ليس مرتبطًا بمفاهيم الديمقراطيّة (حضورًا أو غيابًا)، بل مرتبطٌ في الحقيقة بتخطيط دولةٍ ما لمدًى بعيد، وبعزمِها على تنفيذ خططِها. المال وحده لم يكن كافيًا، بل إنّ ما يحقّق النتائجَ الباهرةَ ويوصلُ اللاعبين إلى منصّات التتويج ويحصد الميداليّاتِ المختلفة هو وجودُ أجهزةِ دولةٍ مركزيّةٍ تبحث عن المواهب في المدارس والجامعات، وعبر أنديةٍ واتّحاداتٍ وجمعيّاتٍ ووزاراتٍ مترابطة، وعلى امتدادٍ زمنيٍّ طويل.
إذًا آمنت الدولُ الفعليّةُ، الـ"ديمقراطيّة" و"غير الديمقراطيّة" (بحسب تصنيفات الحرب الباردة)، بأنّ الموهبة الفرديّة وحدها لا تؤدّي إلى مجدٍ قوميّ رياضيّ. ومن هنا عمدتْ إلى وضع خُططٍ طويلةِ النفس، تستند إلى وجود جهاز دولةٍ يتابع العملَ على الرغم من المتغيّرات التي قد تحصل على المستويات المختلفة. نُبشت المدارسُ بحثًا عن المواهب، التي احتُضنتْ ودُرّبتْ وفُرّغتْ لمهامّها المرصودة. وجرى العملُ على تطوير "أنصاف المواهب" وفق رؤيةٍ مستقبليّة واضحة.
هكذا، وبغضّ النظر عن نوع الدولة ونظام حكمها، كان التخطيط للحاضر والمستقبل هو الأساس في تقريب الأهداف البعيدة.
الخطط في الخليج؟ نشتريها!
بالعودة إلى نتائج منطقة الخليج رياضيًّا، يبدو التواضعُ(1) هو السمة المرافقة لهذه الدول ذاتِ الاقتصاديّات العملاقة، والتي تعيش كذلك نوعًا من الاستقرار على مستوى استمرار حكم العائلة، ولو اختلف الأفرادُ الحاكمون.
وترافق هذا الاستقرارُ مع قفزات كونيّة في أسعار النفط، الموردِ الماليِّ الرئيس، ما أدّى إلى زيادة تدفّق الأموال على المنطقة، وإلى ارتفاع مستوى معيشة الفرد إلى مستوياتٍ قياسيّةٍ عالميًّا. كما جرى تطويرُ البنى التحتيّة، من بناء أحدث المدارس والمستشفيات، إلى تأمين شبكات طرق، واستجرار مؤسّسات تعليميّة عالميّة لفتح فروعٍ لها (مثل جامعتيْ جورج تاون وكارنيغي في قطر، وجامعة نيويورك في الإمارات، وغيرها) .
وبالرغم من تكاليف حروب الخليج الباهظة (الحرب الإيرانيّة ـــــ العراقيّة، والحربان على العراق في 1991 و2003)، فإنّ الارتفاعات اللاحقة في أسعار النفط مكّنتْ دولَ الخليج من استيعاب تلك التكاليف والحفاظ على قدراتها المادّيّة.
أمّا على المستوى الرياضيّ، فقد بلغ عصرَه الذهبيّ مع حماس الأمراء الشبّان إلى التنافس في بناء الملاعب وفتح الأنديّة الخاصّة بهم (كرة القدم تحديدًا). وترافق ذلك مع تهافت الدولة على إلهاء الشباب بالتنافس الرياضيّ المحلّيّ، ومحاولات الوصول إلى العالميّة، مع التركيز على الاستضافة المشهديّة أكثر من تحقيق النتائج الفعليّة: فاستضافت الإماراتُ العربيّة دوراتٍ عالميّةً في التنس والغولف وغيرهما، واستضافت قطر الألعابَ الأولمبيّةَ الآسيويّة (وتستميت، برغم ملفّاتٍ تضجّ بتهم الفساد، من أجل استضافة بطولة العالم في كرة القدم)، ناهيك باستضافة البحرين لرياضة الفورمولا 1. وفي كلّ الأحوال تتوقّف مشاركةُ الدول المضيفة لهذه الرياضات على التنظيم، والتمويل، والتفرّج، ثمّ التقاط الصور مع الفائزين.
وفي كرة القدم تحديدًا لم تبخل الأنديةُ الخليجيّةُ بشيء في سبيل الفوز. وكان السبيل الأمضى إلى ذلك هو الاعتماد على اللاعبين الأجانب، برغم كلفتهم الباهظة(2) والآثارِ السيّئة للاعتماد على اللاعب الأجنبيّ.(3)
ومع ذلك، فما زالت النتائجُ الرياضيّة في الخليج أقلّ بكثير من نتائج دولٍ تشكو القلاقلَ الداخليّة والشحَّ المادّيّ كالعديد من دول أفريقيّا وأميركا اللاتينيّة وغيرها. والحقّ أنّ ذلك لا علاقة له البتّةَ بنظريّات جينيّة مزعومة، من نوع "الفشل الملازم للإنسان العربيّ" أو "انعدام موهبته،" بل مرتبطٌ بغياب رؤية استراتيجيّة لبناء الدولة، وغيابِ التخطيط المستقبليّ، واعتبارِ العائلات الحاكمة "الوطنَ" محض ملْكٍ شخصيٍّ لها ولسلالتها الأبديّة.
التخطيط؟
ربّما يجب أن نستدعي مخطّطين من الخارج؛ فالمدرّبون الأجانب لم يفوا، في نتائج أنديتهم، بجزء من اعتماداتهم الماليّة العالية التي قبضوها.
البناء العموديّ في أرضٍ منبسطة
تزدان مدنُ الخليج الرئيسة بناطحات السحاب، وتتنافس دولُه في أطول مبنًى وأكبر مجمَّعٍ تجاريّ وأجملِ جزيرةٍ صناعيّة. تصل الأمورُ حدّ الهوس بالأرقام، من دون دراساتٍ حقيقيّةٍ لجدوى ذلك كلِّه، غير تلبية نزوعٍ نفسيٍّ ما في شخصيّة الحاكم، وتماهي فكرة التطوير عنده بارتباطها باسمه مباشرةً. من هنا تنحو الأمور دومًا إلى المشاريع التي تتحقّق في حياته القصيرة مهما طالت، ولا مشكلة إنْ لم تكن للأمر برمّته منفعةٌ حقيقيّةٌ على المستوى العامّ الحاليّ والمستقبليّ.
نشأتْ فكرةُ ناطحات السحاب في نيويورك بسبب مساحة الأرض "الأفقيّة" المحدودة، فكان أن تطلّعَ أهلُها ومخطّطوها إلى السماء كي تكون مجالًا أرحبَ لبيوتهم ومكاتبهم. أمّا فكرةُ ناطحات السحاب في أراضٍ صحراويّةٍ شاسعة منبسطة، فتبدو عبثًا منهكًا ماليًّا، يقوم على نزواتٍ شخصيّة، تشجّعها شركاتُ الهندسة (الغربيّةُ دومًا). زد على ذلك عمليّاتِ ردم البحر للحصول على جزرٍ مهندسة، وللتفاخر بالسخاء في الإنفاق على التنوّع الإيكولوجي للحياة البحريّة، في الوقت الذي تبقى فيه الصحراءُ رملًا هباءً مذهولًا من فائض أموال النفط الذي يُستنزَف بلا جدوى.
هذا الأمر ينطبق على مزايا الحياة اليوميّة في دول الخليج. فعلى الرغم من طفرة الخبراء التربويين الأجانب في الوزارات، وطفرةِ الأبنية المدرسيّة والجامعيّة المحلّيّة والأجنبيّة، إلّا أنّ نتائج ذلك في المجتمع غير مقروءة؛ فمع أنّ الدول الخليجيّة ما زالت تموّل رحلات "الابتعاث" لطلّابها إلى الجامعات الأميركيّة والأوروبيّة، لا نجد مؤشّرات على نهضةٍ علميّة محلّيّة حقيقيّة، أو ثقةً أكبر بالاستثمار التربويّ المستقبليّ. كذلك لا نسمع بمراكز أبحاث ومعاهد محلّيّة، بينما يزدهر تنظيم المؤتمرات العالميّة وتمويلها. ولا نقرأ عن اكتشافات علميّة، أو أيّ منجزاتٍ باهرة تكون نتيجةً لكلّ الإنفاق الهائل السابق على قطاعات التعليم. كذلك الأمر في القطاع الصحّيّ، وفي الهندسة البتروليّة، وفي معظم شؤون الحياة التي تُسيّر بخبراء أجانب وعرب، مع الإصرار على منح "المواطنين" مراكزَ القيادة.
إنّها بلادٌ تصرف ثروتَها الآنيّة الهائلة على تسيير يومها، ولا يبدو أنها تبني أسسًا راسخةً للأجيال اللاحقة! تنظر إلى السماء وتحاول بلوغها، وتنسى أن تنظر إلى مواضع قدميها، وإلى ما يستوطنها من شركات عالميّة جشعة، ومن جحافل الخبراء الوافدين الذين يشجّعون على النظر المكلف إلى الأعلى ولا تهمّهم الهوّةُ التي تبعد عنهم بضعُ خطوات.
الخوف على المستقبل
الانطلاق من الرياضة في السطور السابقة كان للإشارة إلى ذهنيّة التعاطي مع الثروات الوطنيّة والقوميّة في بلدانٍ يعزّ علينا أناسُها، لأنّهم عربٌ وبشرٌ مثلنا. هذه الذهنيّة تقوم على البعد عن التخطيط الطويل، وعلى استعجال النتائج (ولو كاذبةً أو مستعارةً)، وعلى انعدام الرؤية إلى المستقبل... بما في ذلك المستقبل الخاصّ بالبشر المقيمين في هذه البقعة.
بشرُ هذه الصحراء كانوا مكتفين بنمطٍ اقتصاديٍّ بسيطٍ قبل النفط: رعي الماشية، بعض الزراعة المحلّيّة حيثما توفّرت التربةُ والماء، التجارة، الصيد، اللؤلؤ... لم تسمح طبيعتُها بأشكال اقتصاديّة أهمّ وأكثر تعقيدًا. وقد حصلتْ على فرصةٍ استثنائيّةٍ مغايرةٍ لطبيعة نشاطاتها، تمثّلتْ في اكتشاف النفط، هذه الثروة التي هطلتْ من غير احتساب. وقد تمّ استهلاكُ أكثر من سبعين سنة من هذه الفرصة الفريدة، ولا أحد يعْلم كم ستدوم. ومن هنا يحقّ لنا، بل يجب علينا، طرحُ الأسئلة عمّا تمّ الإعدادُ له للمستقبل المحتوم بانتهاء الفرصة!
في النقاشات الكلاسيكيّة حول جدوى بناء شكل وحدويّ قوميّ عربيّ، كان يُشار دائمًا إلى "طمع" فقراء العرب بأغنيائهم، والرغبة في مشاركتهم ما أغدقتْ عليهم الطبيعةُ من نِعَم. لكنّنا ـــــ هنا تحديدًا ـــــ لا نشير إلى ذلك، ولا نقصد الدفاعَ عن أطفال السودان والصومال ومصر والأردن وغيرها فحسب، وإنّما نرفع الصوتَ دفاعًا عن أطفال الإمارات وقطر والبحرين والسعوديّة والكويت، وعن حقّهم في المستقبل باستقلالهم في دولهم، وامتلاكهم القدرةَ على العيش والازدهار فيها بعد غياب النفط. وإذ تنحو بعضُ الدول (الكويت مثلًا) إلى إنشاء صندوق مدّخراتٍ قوميّ، فإنّ هذه الحركة تبدو عقيمة؛ ذلك لأنّ امتلاك المال ليس حلًّا، بل الحلّ هو امتلاك الخبرات المحلّيّة، والدراسات الصحّيّة، والمهارات، والخطط الطويلة الأمد، ودراسات البدائل... إلخ، وهو ما يفيد الأجيالَ الخليجيّة والعربيّة القادمة.
فلننزعْ مجدَنا الوهميَّ من أيدي المُستَأجَرين الأجانب وأصحابِ النزوات الشخصيّة من "العرب،" ولنعملْ على بناء مجدٍ فعليّ تستحقّه الأجيالُ المقبلة. وإلّا فستبقى الحال على ما هي عليه الآن: سورجي والعشرات غيره نرسلهم بأعلامنا، حتّى يعودوا بميداليّات تحمل أسماءنا. فنتشاوف نحن بمجدٍ يعلم العالم أنّه مُستعار.
بيروت
1- تمْكن قراءةُ نتائج الأولمبياد العربيّة (ومنها الخليجيّة) هنا: http://goo.gl/eLJrUR
ونتائج بطولات كرة القدم هنا: https://goo.gl/j0gs2U
2- لأخذ فكرة عن تكاليف اللاعبين الأجانب، هذا ملخّصٌ لأغلى لاعبي كرة القدم الأجانب في الأندية السعوديّة: http://goo.gl/eekqQZ
3- راجع المقاطع الأخيرة من هذا المقال: http://www.alkhaleej.ae/sports/page/0f5e3f51-1c1a-4ccc-b5a4-20bf43912b2e
كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.