اتّخذ التعاملُ الرسميّ اللبنانيّ مع اللاجئين الفلسطينيّين طابعًا متنوّعًا منذ النكبة. ففي البداية، شكّلت الدولةُ اللبنانيّةُ فِرَقَ إنقاذٍ لتقديم المؤاساة الأخويّة والإعانة السريعة الموقّتة لهم. وأسّست "الإدارةَ المركزيّةَ لشؤون الفلسطينيين" من أجل إغاثتهم. وكانت توزِّع الإعاشةَ عليهم في أماكن وجودهم. بل ذكر النائب إميل البستاني، في ذلك الوقت، أنّ رئيسَ الجمهوريّة اللبنانيّة آنذاك، بشارة الخوريّ، رحّب باللاجئين في مرفأ صور قائلًا لهم: "ادخلوا بلادَكم!" غير أنّ عدمَ عودة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى أرضهم، استنادًا إلى القرار 194، ما لبث أن أقلق السلطاتِ اللبنانيّةَ، فحرصتْ على إبقاء أكثرِهم في المخيّمات تحت رقابتها.
أمّا على صعيد العمل، فقد تسامحت الدولةُ اللبنانيّة، في الفترة الأولى من اللجوء الفلسطينيّ، مع الفلسطينيين العاملين في المؤسّسات الخاصّة. غير أنّ الموضوع أُثيرَ في جلسات مجلس النوّاب اللبنانيّ في نهاية العام 1951، وذلك بعد أنْ أصدر إميل لحّود، وزيرُ الشؤون الاجتماعيّة حينها، قانونًا طلب فيه إلى اللاجئين التوقّفَ عن العمل بحجّة أنّهم يعملون من دون إجازات وينافسون اليدَ العاملةَ اللبنانيّة. وقد سُمح للاجئين بالعمل في الميادين التي لا تتطلّب إجازاتِ عمل، كمشاريع العمران في المدن، والزراعة في الريف.
كما أنّ الممارساتِ المتشدّدة، التي وَسمتْ تعاملَ الإدارات والوزارات اللبنانيّة مع الفلسطينيين، لم تمنعْ في مطلع الستينيّات من إعادة الجدل حول العمالة الفلسطينيّة وضرورةِ استثنائها من قانون العمل، الملزِمِ للأجانب في لبنان. ففي العام 1963، بدأتْ وزارةُ العمل والشؤون الاجتماعيّة بتشديد تطبيق قانون العمل على الأجانب من دون استثناء الفلسطينيين. ونتيجةً لذلك، سُرِّح مئاتُ الفلسطينيين من أعمالهم لدى الشركات والمؤسّسات اللبنانيّة. هنا ناشد الفلسطينيون الرئيسَ اللبنانيّ فؤاد شهاب التدخّلَ لرفع الظلم عنهم. فما كان منه إلّا أن أصدر، في اجتماع حكوميّ برئاسته، قرارًا باستثناء الفلسطينيين الذين وصلوا لبنانَ قبل العام 1961 من أحكام قانون عمل الأجانب، وطلب من وزير الداخليّة استثناءَهم من التفتيش الذي يجري لمراقبة تنفيذ القانون القاضي بضبط العمالة الأجنبيّة وحمايةِ العمالة اللبنانيّة.
بيْد أنّ تاريخ 18 أيلول 1964 شهد صدورَ المرسوم 17561، القاضي بتنظيم عمل الأجانب من دون أن يستثني الفلسطينيين صراحةً من بنوده. وأدّى ذلك إلى جعل الفلسطينيّ الراغب في الحصول على إجازة عمل عرضةً للابتزاز أو الاستنسابيّة في تفسير تلك البنود.
وعلى العموم، فإنّ وجودَ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بقي آنذاك خاضعًا لقوانين الأجانب. فتزايدَ التململُ بين صفوفهم سنةً بعد أخرى. وقد بلغت الإجراءاتُ التي اتخذتْها الدولةُ اللبنانيّة في حقّهم ذروتَها سنة 1968: بمحاصرة المخيّمات، وضربِ كلّ أنواع التجمّعات، ورفضِ أذونات العمل. وذلك كلُّه دفع إلى انفجار أحداث نيسان 1969.
***
أدّت هذه الأحداثُ إلى عقد اتفاق القاهرة في ذلك العام. وهو ما شكّل منعطفًا بارزًا على صعيد العلاقة بين الدولة واللاجئين الفلسطينيين في لبنان، إذ سُمح لهؤلاء بالتنقّل بين مختلف المناطق من دون أذونٍ مُسبّقة، وسُمح لهم مبدئيًّا بحريّة العمل. أمّا التراخيص فلم يكن الحصولُ عليها ضروريًّا؛ ذلك أنّ تدهور مؤسّسات الدولة التدريجيّ، وتصاعدَ قوّة المقاومة الفلسطينيّة في الفترة 1969 - 1982، لم يسمحا للدولة بالتشدّد تجاه الفلسطينيين العاملين في المؤسّسات الخاصّة وبعضِ الحرف والمهن الحرّة، باستثناء تلك التي تتعلّق مباشرةً بعمل الدولة ومؤسّساتها، كالمحاماة مثلًا.
***
غير أنّ الاجتياحَ الإسرائيليّ سنة 1982، وما تلاه من خروج المقاومة الفلسطينيّة من لبنان، شكّلا مفصلًا بارزًا في حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، إذ توالت وقتها الإجراءاتُ المناوئةُ لهم.
ففي 18/12/1982، صدر القرار رقم 289/1 عن وزير الشؤون الاجتماعيّة والعمل (عدنان مروّه)، مغلقًا بابَ العمل أمامهم في 73 مهنةً؛ كما منعهم من أن يكونوا أربابَ عمل. وبهذا القرار، أعاد وزيرُ العمل الفلسطينيين إلى ما قبل اتفاق القاهرة من ناحية حريّة العمل.
الفلسطينيون ممنوعون من مزاولة 73 مهنة
***
استمرّ وضعُ الفلسطينيين في لبنان في التدهور، مترافقًا مع حروب المخيّمات، وما استتبعها من عنفٍ عشوائيٍّ طاول المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء. وكان من أبرز تداعيات تلك المرحلة عدمُ مراجعة السلطات اللبنانيّة آليّاتِ التعامل الإنسانيّ مع لاجئي فلسطين، كما تتعامل معهم مثلًا السلطاتُ السوريّةُ التي تعطيهم الحقوقَ الاجتماعيّةَ والإنسانيّةَ كافّةً باستثناء تجنيسهم. وأدّى ذلك أيضًا إلى عدم تنفيذ موجبات الفقرة 23 من حقوق الإنسان لعام 1948، القاضية بأنّ لكلّ شخص حقَّ العمل، وحقَّ حرّيّة اختيار نوع العمل، والحقَّ في شروط عمل عادلةٍ وملائمة، والحماية من البطالة، والأجر المتكافئ للعمل ذاته، بحسب معاهدة حماية اللاجئين، وتحديدًا:
- المادة السابعة عشرة (الفقرة أ): السماح للاجئين بكسب العيش والعمل في ظلّ أكثر الشروط الميسَّرة للأجانب.
- المدة السابعة عشرة (الفقرة ب): في حال اتخاذ تدابير لحماية العمالة المحلّيّة في وجه المنافسة الأجنبيّة، فإنّ اللاجئ يُستثنى من هذا المبدأ.
- المادة التاسعة عشرة: على الدول أن تعطي فرصةَ ممارسة المهنة للراغبين من حملة الشهادات الجامعيّة المعادلة، والمعترَف بها من الدول التي يقيم فيها اللاجئُ بطريقةٍ مشروعة، وأنْ تعمد الدولُ المعنيّة إلى تقديم تسهيلاتٍ ليس أقلّها تلك التي تقدّمها للأجانب في ظلّ ظروفٍ مشابهة.
***
من المفيد الإشارة إلى أنّ طبيعة تركيب الوضع الحكوميّ اللبنانيّ، والتطوّرات السياسيّة في لبنان، كان لها دومًا أثرٌ كبيرٌ في نوعيّة التعاطي الرسميّ اللبنانيّ مع الفلسطينيين. فعلى أثر انتهاء فترة رئاسة أمين الجميّل (1988)، وما تلاها من إنهاءٍ لحكومة العماد ميشال عون (أكتوبر 1990)، ساعد الوضعُ الفلسطينيّ على إعادة طرح مطالب اللاجئين الفلسطينيين. ولهذا طَرحتْ حكومةُ عمر كرامي ضرورةَ الحوار معهم. كما أصدر وزيرُ العمل آنذاك، عبد الله الأمين، مذكّرةً أتاحت لهم العملَ بموجب إجازة عمل في كافّة المهن باستثناء المهن الحرّة، التي تنظِّم منحَ إجازاتها النقاباتُ الخاصّةُ التي لا تقبل في صفوفها غيرَ اللبنانيين (كنقابات الأطبّاء والمهندسين والصيادلة والمحاماة). وهذه المذكّرة لا تُلغي عمليًّا قرارَ وزير العمل رقم 289 /1، الصادر سنة 1982.
غير أنّ القيادات الفلسطينية المختلفة، على الرغم من مثابرتها على الاتصال بالسلطات المختصّة، لم تتمكّنْ من تعديل موقف السلطة اللبنانيّة لجهة معاملة العمّال الفلسطينيين كأجانب. بل على العكس من ذلك، فإنّ وزارة العمل والشؤون الاجتماعيّة عادت وأصدرتْ سلسلةً من القرارات والترتيبات التي أكّدت فيها حمايةَ العمالة اللبنانيّة، وحمايةَ أصحاب العمل والمؤسّسات اللبنانيّة، ولم تستثنِ الفلسطينيين من إجراءاتها.
ففي 11/3/1993، أصدر الوزير عبد الله الأمين القانون رقم 3\1 و 3\2، ومن ثمّ أصدر الوزير أسعد حردان القانون رقم 1\921 بتاريخ 18/12/1995. هذان القانونان يعاملان الفلسطينيين - أكانوا عمّالًا أمْ أربابَ عمل - في وصفهم أجانب. وهو ما دفعهم إلى الخشية من أن يعمد أصحابُ المؤسّسات اللبنانيين إلى طرد العاملين الفلسطينيين لديهم لعدم حيازتهم أذونَ عمل، ومن أن يعمد أصحابُ المؤسّسات الفلسطينيّة إلى إغلاقها.
***
وأمّا الخطوة العمليّة الأبرز في محاولة تحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين فقد تمثّلتْ في إصدار وزير العمل طراد حمادة بتاريخ 7/6/2005 مذكّرةً تحمل الرقم 1/67 جاء فيها:
"بناءً على المرسوم 17561 تاريخ 18/9/1964 وتعديلاته بتنظيم عمل الأجانب، يُستثنى من أحكام المادّة الأولى من القرار 1/79 في 2 حزيران 2005 (وهي تنصّ على حصر بعض المِهن باللبنانيّين) الفلسطينيّون المولودون على الأراضي اللبنانيّة والمسجَّلون بشكل رسميّ في سجلّات وزارة الداخليّة اللبنانيّة."
اللافت أنّ هذا التدبير كان يمكن أنْ يتّخذَه أيُّ وزير عمل تولّى هذه المسؤوليّة منذ العام 1964. ذلك لأنّ المادة الثانية من المرسوم الآنف الذكر تمنحُ هذا الوزيرَ صلاحيّةَ استثناء بعض الأجانب من الشروط الواردة في المرسوم وهي: إذا كان الأجنبيّ مقيمًا في لبنان منذ الولادة؛ أو إذا كان من أصلٍ لبنانيّ أو مولودًا لأمّ لبنانيّة؛ أو إذا كان متأهّلًا من لبنانيّة منذ أكثر من سنة.
غير أنّ التدبير المذكور لم يشملْ مختلفَ المهن: فالمحاماة والطبّ والهندسة والصيدلة والصحافة محصورة، بموجب القوانين اللبنانيّة، باللبنانيين فقط؛ وبعضُ المهن يُسمح للأجنبيّ بممارستها إذا كانت دولتُه تسمح للبنانيّ بممارستها (انطلاقًا من مبدأ "المعاملة بالمثل"). ومع ذلك، فإنّ قرارَ الوزير حمادة اعتُبر إنجازًا واضحًا في سياق العمل لتحسين شروط عيش الفلسطينيين. فلقد تحسّن الوضع عندما أصدرت الحكومةُ مذكّرةً تسمح للاجئين الفلسطينيين بالعمل في 50 مهنة من أصل 73 مهنة كانت حكرًا على اللبنانيين.
***
ولكنّ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ما يزالون ممنوعين من ممارسة عدّة مهنٍ عاليةِ الاختصاص، كالطبّ والمحاماة. ولمّا لم يستثنِهم وزيرُ العمل الحاليّ، كميل أبو سليمان، من مبدأ "المعاملة بالمثل" أسوةً بالأجانب، فقد تخوّفوا من فقدان سُبل عيشهم، فازداد بحثُهم عن وسائل هجرةٍ إلى الخارج.
ما زال اللاجئون الفلسطينيون في لبنان ممنوعين من ممارسة عدّة مهنٍ عاليةِ الاختصاص
كما أنّ "لجنة الحوار اللبنانيّ - الفلسطينيّ،" التابعة لرئاسة الحكومة اللبنانيّة، وهي سبق أن توصّلتْ في العام 2017 إلى رؤية مشتركة بين مختلف الأطراف اللبنانيّة حول آليّات التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين (وضمنها متابعةُ تعديل القانونيْن 128 129 اللذيْن أقرّهما المجلسُ النيابيّ سنة 2010 عبر السعي إلى استثناء العمّال الفلسطينيين من معاملتهم كأجانب)، ما زالت في انتظار إصدار المراسيم التنظيميّة المناسبة لتنفيذ القوانين المذكورة.
وفي سياق المطالبة بتنفيذِ ما يتعلّق بحقّ الفلسطينيين في العمل، لا معاملتهم كأجانب، جرتْ مؤخّرًا سلسلةٌ من المظاهرات السلميّة في المخيّمات الفلسطينيّة، تنادي بتنفيذ آليّات عدم تجويع اللاجئين عبر قرارات وزير العمل التي تناولت عملَ الأجانب ولم تستثنِ اللاجئين الفلسطينيين.
***
وبإيجاز، فإنّ وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حاليًّا يتلخّص في ما يأتي:
1 - لم يعامَل الفلسطينيون في لبنان كلاجئين بحسب اتفاقيّة جنيف الصادرة بتاريخ 28 تمّوز 1951، مع أنّ الدولة اللبنانيّة - ممثّلةً في وزارة الخارجيّة ـــ صادقتْ عليها سنة 1967، ومع أنّ المعاهدة تعطي اللاجئين المقيمين (بحسب المادّة 24) حقَّ الاستفادة من الامتيازات التي يستفيد منها الرعايا الوطنيّون، كالضمان الاجتماعيّ والأجور والتقديمات العائليّة ومدّة العمل والساعات الإضافيّة. وفوق ذلك، فإنّ الدولة اللبنانيّة كانت تعامِل اللاجئين الفلسطينيين انطلاقًا من المستلزمات والقواعد الناظمة للاجتماع اللبنانيّ، بهواجسه، والتي كان الفلسطينيون يدفعون ثمنها أحيانًا كاللبنانيين تمامًا.
2 - لم يستطع اللاجئون الفلسطينيون الذين استحصلوا على إجازات عمل الاستفادةَ من تقديمات الضمان الاجتماعيّ، على الرغم من أنّ المؤسّسات التي يعملون فيها تدفع عنهم رسومَ هذا الضمان.
3 - لم تلتزم السلطاتُ اللبنانيّة المضيفة، على الدوام، بمعاهدات حقوق الإنسان (المدنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة)، ولا بمعاهدة اللاجئين. وأحيانًا جرت مساءلةُ لبنان عن ذلك من قِبل بعض الهيئات المختصّة، من دون أنْ يؤدّي ذلك إلى تعديل فعليّ في السياسات المُتّبعة.[1]
بيروت
[1]United Nations,“Committee on Elimination of Racial Discrimination Considers Reports of Lebanon,”press release of 4 March 2004.