هذا سؤالٌ يؤرِّق المضاجعَ، وينغِّص الحياة. لكنْ لا مفرّ منه، ولا إجابة سهلة عنه، ولا موعد لوروده؛ فهو سؤالٌ دائمٌ، لا يكفّ عن ضرب العقل والقلب والروح منذ العام 1947. وهذا السؤال، بقدْرِ ما يُغرقني في دوّامةٍ من التفكير، يحيلني على فعلٍ مستديم: هو المقاومة؛ أو على لافعلٍ: هو الاستسلام.
***
قرية بربرة، قضاء غزّة، ربيع العام 1948: لم يكن العنبُ البربراويُّ الشهيّ الذي اشتُهرتْ به قريتي الأصليّة يَحسبُ أنّه سيُترَك في كرومه، ليسرقَه مَن سَرق الأرضَ وهَجّر أهلَها؛ أهلَها الذين عشقوه، وتغنّوْا به، وعَدُّوهُ مصدرَ فخرٍ وتميّزٍ لبربرة في فلسطين.(1) كما لم يكن أهلي وجيرانُهم يَحسبون أنّ هذا هو الربيعُ الأخيرُ في مرابع الصبا ومسقطِ الرأس.
خاض أهلُ بربرة قتالًا بطوليًّا في الأشهر الأخيرة قبل سقوط قريتهم، على الرغم من ضعف الإمكانيّات والخبرات. أضف إلى ذلك خسارةَ القريةِ بعضَ رجالها ــــ شأنَ بقيّة البلدات ــــ في التجنيد الإجباريّ العثمانيّ؛ ومنهم جدُّ أبي، الذي ترك ولدَه الوحيد، "ربيع،" خلفه يتيمًا.
ومع أنّ ميزان القوى لم يكن متكافئًا مادّيًّا، فقد نجح أهالي قرية بربرة في تكبيد العصابات الصهيونيّة خسائرَ ما بين قتلى وجرحى، وغنائمَ بعد هروبهم. وهم كانوا قد استفادوا من خبرتهم في المشاركة، رجالًا ونساءً، في الثورة الكبرى سنة 1936. والأهمّ أنّ تمسُّكَهم بأرضهم كان من الصلابة بحيث لم يهزَّه ضعفُ العدّة، ولا قوّةُ الغزاة الصهاينة المدعّمين بالاحتلال البريطانيّ.
لكنْ، لم يكن ممكنًا تفادي سقوط القرية، في ظلّ تكرار الهجمات الصهيونيّة، والترهّلِ الذي اعترى الحالةَ العربيّة، وبخاصةٍ حالة الجيوش التي قادها... بريطانيّ!
***
أأذْكرُ ذلك كلَّه لأجل البكاء على الذكرى (بعد أن حُرمنا الأطلالَ لنبكي عليها)؟
لا. فبربرة ليست ذكرى: إنّها البيتُ لمَن وُلد فيها، ولمَن وُلد في المخيّم، وما بعده. بل إنّ العالمَ كلَّه منفى بالنسبة إليّ، كما هو بالنسبة إلى أجدادي وجدّاتي وأبنائهم وبناتهم.
ما يدهشني هو أنّ أبرزَ المعارك التي جرت في بربرة كانت في نيسان 1948، وأنّ القرية سقطتْ في أيّار 1948؛ في حين توفّي أجدادي لاجئين خلال هذين الشهرين (نيسان وأيّار) من العقد الأوّل من الألفيّة الحاليّة. كأنّ أرواحَهم خرجتْ من الدنيا يومَ أُخرجوا من بربرة؛ أو لعلّ أرواحَهم بقيتْ هناك دون أجسادهم.
إنّ الاسترجاع اليوميّ لصورة فلسطين ما قبل التطهير العرقيّ سنة 1948 هو حافزي اليوميّ على الإجابة عن السؤال الأساس: "هل سأموت لاجئًا؟"
أمّا المقاومة فليست لاستعادة الحقّ المسلوب فحسب، وإنّما هي أيضًا ضرورةٌ لوقف النكبة المتواصلة، المتمثّلة في الاستعمار الاستيطانيّ والاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي ــــ وكلُّها تزداد كلَّ يوم، وتترافق مع ضعفٍ رسميٍّ عربيّ، وتطبيعٍ رسميٍّ من السلطة وبعضِ الأنظمة، ودعمٍ وتواطؤٍ دولييْن.
وفي المقابل، فإنّ الاستسلام للأمر الواقع لم يكن حلًّا؛ بالإضافة إلى كونه اعترافًا ذاتيًّا بهزيمةٍ نكراء. وتجاربُ السلام الأمريكيّ الفاشلة، وتوقيعُ الاتّفاقيات الواحدة تلو الأخرى،أكّدت المعروفَ سلفًا: وهو أنّ التفريط بالحقوق الوطنيّة الثابتة، خصوصًا حقّ عودة اللاجئين وتعويضهم ــــ وهما أمران مكفولان بقرارٍ أمميّ ــــ لم يُسفرْ إلّا عن توسّع الاستعمار الصهيونيّ، ولم يَحْمِ المفرِّطين أنفسَهم من أطماع الاحتلال.
***
في الذكرى التاسعة والستّين لبداية النكبة، لا نزال أمام مشهدين:
ــــ الأوّل، مشهدٌ متمسّكٌ بوهم "السلام" بما يرضي نزواتِ نظام الاستعمار، ومتشبّثٌ بـ"التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال؛ على الرغم من مخالفة هذا التنسيق لكلّ القيم الوطنيّة والأخلاقيّة، ولقرارات منظّمة التحرير نفسها، ولإرادة الشعب، بمن فيهم الأسرى البواسل.
ــــ والثاني، مشهدُ المقاومة المتنوّعة الشاملة؛ مشهدُ شعبٍ صامدٍ في أرضه، ويتوق إلى العودة إلى دياره. وهذا المشهد الأخير يتصدّره، هذه الأيّام، إضرابُ الأسرى، وقد تجاوز الشهرَ حتّى الآن؛ إضرابٌ يعلّمُنا فيه الأسرى أنّ الكرامةَ والحريّةَ أغلى من الطعام والراحة، وأنّ الحقوق تُنتزع ولا تُستجدى.
كما أنّ حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) العالميّة،(2) بقيادتها الفلسطينيّة، تشكّل لي وللكثيرين والكثيرات، شعلةَ أملٍ ونورٍ تبدِّد دياجيرَ اليأس والظلمة المفروضة علينا، داخليًّا وخارجيًّا. فحركة المقاطعة، وهي تضع حقَّ العودة في صلب أدبيّاتها وأهدافها، تسهم بشكلٍ أساسٍ وفعّالٍ في عدم طمس قضيّة اللاجئين، الذين يشكّلون أكثرَ من ثلثَي الشعب الفلسطينيّ الموزّع في الوطن والشتات. كما تُحرز، بشكلٍ يوميٍّ وتراكميّ، نجاحاتٍ وانتصاراتٍ تدفع بنضالنا أشواطًا على درب الحريّة والعدالة والعودة.
على أن تقدُّمَنا سيكون أكبرَ لو امتلكنا استراتيجيّةً مقاوِمةً وطنيّةً شاملة. ولكنّ هذا موضوعٌ لمقالٍ آخر.
***
هل سأموت لاجئًا؟
لا أدري. لكنّ إيماني بتحقّق العودة لا يخبو. وأدري أنّ عليّ مواصلةَ الطريق، مع شعبي الفلسطينيّ والعربيّ، ومع أحرار العالم، لنعبّد طريقَ الرجوع إلى البيت.
"أنراكَ يا وطني
لأنّ عيونَهم رسمْتكَ رؤيا... لا قضيَّهْ!
أنراكَ يا وطني
لأنّ صدورَهم مأوى عصافيرِ الجليل وماء وجهِ المجدليَّهْ!
أنراكَ يا وطني
لأنّ أصابعَ الشهداءِ تحملنا إلى صفدٍ
صلاةً... أو هويَّهْ!"
(محمود درويش، طوبى لشيءٍ لم يصلْ)
غزّة (فلسطين)
1- https://www.youtube.com/watch?v=92quNpNZcmA
1- https://www.facebook.com/BDSmovementarabic/