لمشاهدة فيديو تشييع القائد ماهر اليماني (من إنتاج مجلة الآداب) اضغط هنا.
اقتربتْ ساعةُ خروجي من العمل. حان وقتُ الاتصال بزينب، كي اطمأنَّ إلى صحّة ماهر. لم تجبْني. كرّرتُ المحاولة؛ فماهر لا يمكن أن يترجّلَ عن صهوة الصمود والمقاومة. وحين كنتُ أجالسُه، علّمني أنّ للحياة ميدانيْن:
- في الأوّل، تكون حياتُنا حقلَ رمايةٍ، ننتزع فيه حقوقَنا ومطالبَنا، لكنْ بممارساتٍ أخلاقيّة.
- وفي الثاني، تتحوّل حياتُنا إلى سهلٍ شاسعٍ، تُغرس فيه الأفكارُ في شتّى المجالات.
لأجل هذه الحياة، بميدانيْها، ينبغي أن لا نرميَ سلاحَنا، ولو نفدتْ طلقاتُنا، كما يقول ماهر.
في لحظةٍ، استعدتُ سرديّةَ صديقي ماهر عن "الحياة." وكنتُ مقتنعة بأنّه، لأجل هذه الحياة، لن يُفلِت زنادَ مسدّسه. سيقاتل المرضَ، وسينتصر عليه.
لكنْ... رنّ هاتفي.
إنّه بابا. قبل أن يطمئنَّ إليّ، سألني على غير عادته: "شفتي الفايسبوك؟" قلتُ له: "ماهر؟" أنفاسُه المتسارعة قطعتْ أملي في أن يبقى ماهر معنا. "مات الحبيب. اذهبي إلى بيت أخيه أبي ماهر. هذا واجبٌ وطنيّ، وعليكِ المشاركةُ فيه." وأنهى الاتصال.
كنتُ أسير في شارع الحمرا المزدحم بالسيّارات والمارّة. لم أعد أرى أحدًا. تحوّل رأسي إلى جهازِ تسجيل، يسرد عليّ كلَّ ما رواه أبي طوال سنواتٍ عن عالمِه، الذي هو عالمُ ماهر أيضًا، وكلَّ ما قرأتُه عن حركة القوميين العرب: عن الحكيم الأخلاقيّ جورج حبش، والشهيد الروائي غسّان كنفاني، والدكتور النابغة وديع حدّاد، والمعلّم الصلب أبي ماهر اليماني، والقائد الحبيب ماهر اليماني. وإذ بي أجدُ نفسي في كورنيش المزرعة، أمام مبنًى احتضنَ ذاتَ يومٍ مضيءٍ مجلّةَ الهدف، وسهمَ الجبهة الشعبيّة المتوجِّهَ نحو فلسطين.
أكملتُ مسيري. بعد دقائق، بلغتُ مبنًى آخر، في شارع عفيف الطيبي، كان أبي يلتقي الحكيم جورج حبش فيه. ها قد صرتُ قريبةً من "بيت الثورة،" بيتِ القائد أحمد اليماني، شقيقِ ماهر، مقابلَ الملعب البلديّ. تردّدتُ في المضيّ؛ فأنا لا أعرف كيف سأشارك زينبَ ورفاقَ ماهر فاجعةَ رحيل حبيبهم. جررتُ انكساري عنوةً، إلى أن وصلتُ إلى مدخل شارع الأطفائيّة. هناك، شاهدتُ أعلام "الجبهة" الحمراء من بعيد. حثثتُ السير كلّما اتضحت الألوانُ. وشيئًا فشيئًا، وجدتُ نفسي أرفعُ رأسي عاليًا، وأتنشّقُ رائحةَ فلسطين.
على مدخل البناية، التقيتُ خالد اليماني، ابنَ شقيقِ ماهر. نظرتُ إليه، ولم ننطقْ بكلمة. صعدنا إلى الطابق الثاني. أوّلُ ما وقع عليه نظري هو صورةُ خالد الحاج أبو عيشة، الذي أهداه غسان كنفاني روايته الرائعة، ما تبقّى لكم (1966): "إلى خالد: العائد الأوّل الذي ما زال يسير." كان خالد ضمن منظّمة "شباب الثأر،" وقاد عمليّةً عسكريّةً ضدّ العدوّ الإسرائيليّ في الجليل الأعلى، فاستُشهد بتاريخ 2/11/1964. الصورة الثانية، التي تقابل صورةَ الشهيد خالد في قاعة الاستقبال الصغيرة الأولى، هي للأمين العامّ لحزب الله، السيّد حسن نصرالله. أمّا غرفةُ الاستقبال الثانية الصغيرة المقابلة، فارتفعتْ فيها صورةٌ عملاقةٌ للقائد أحمد اليماني (أبو ماهر).
عبقُ الكرامة في هذا المنزل ضخّ روحي بجرعاتٍ مناسبةٍ لتلقّي دروسِ المواجهة الكبرى: رحيل الحبيب ماهر.
***
الدرس الأول في مواجهة الرحيل: الفخرُ بالراحل. وهذا ما عبّرتْ عنه حبيبتُه وزوجتُه زينب، وهي تخاطب صورةَ ماهر قبل وصول جثمانه: "أنت فخري يا ماهر، أفتخرُ بأنّني زوجتُك. شكرًا!"
ثاني الدروس: محاولةُ تجاوُز الحزن. وهذا ما حاولتْ أن تفعلَه أمُّ ماهر، هذه المرأةُ العظيمةُ التي اعتاد منزلُها وداعَ الأبطال. أمّ ماهر أخفتْ دمعَها ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وأحلّت مكانَه جمودًا عابقًا بالثقة والسَّكينة. جمودُها هذا سرى في ضيوف بيتها. كان الجميعُ يحاول خنقَ حزنه مثلها. كان ذلك قبل أن ينفجر المكانُ بالبكاء مع دخول ماهر، ملفوفًا بعلَم فلسطين وعلَمِ الجبهة الشعبيّة. وهنا الدرسُ الثالث.
فما إنْ دخل ماهر بيتَ أبي ماهر وأمِّ ماهر، محمولًا على الأكتاف، حتّى وقف صديقُ ماهر ورفيقُه الأعزّ، سماح إدريس، مصفّقًا. في حضرة البطل، لا وقتَ للبكاء. هذا وقتُ العهد. هذا وقتُ نشيد الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. كانت زينب قد انحنت بجانب ماهر، وأدارت من هاتفٍ خلويٍّ أحدَ أناشيد الجبهة، ثمّ قرّبت الهاتفَ من أذنه اليمنى. وهنا انطلق سماح بالغناء، على مقربةٍ من أذن ماهر اليسرى:
"لا تسلْ عنّي فهذا موطني: فلسطينيٌّ عربيٌّ أممي!
جبهةُ الشعبِ (وحزبُ الجبهةِ) علّمتْني كيف تحيا أمّتي!"
في هذه اللحظات، أدركتُ أنّ الموتَ قد لا يكون نهايةَ حياةٍ فحسب، وإنّما مناسبةً أيضًا لاستمرار حياةٍ (بل حيواتٍ) أخرى. وحين ضجّ المنزلُ بأصوات رفاقٍ آخرين ينشدون النشيدَ نفسَه مع زينب وسماح، تذكّرتُ قولَ محمود درويش: "وحبوبُ سنبلةٍ تجفُّ/ ستَمْلأُ الوادي سنابلْ!"
نظرتُ إلى ماهر. استحضرتُه وهو يجلس أمامي، هنا بالذات، في آخر لقاءٍ جمعني به قبل أسبوعٍ من رحيله. وقتَها، بدا ماهر قائدًا نهل من قاموس الحياة أرقى مفرداتِها. بسط ما تبقّى من جسده النحيل على الكنبة، واتّكأ على أريكتيْن، قبل أن يقصّ علينا حادثةً حصلتْ معه حين كان في ريْعان شبابه. هذه الحادثة رواها لنا بحضور سماح، وزينب، وأمّ ماهر اليماني، وفادي اليماني، وفداء اليماني. وقد أعاد رئيسُ تحرير الآداب سردَها في مقالٍ بليغٍ كتبه بُعيْد رحيل ماهر. ملخّصُ الحادثة أنّ الجبهة الشعبيّة كلّفتْ ماهرًا نهايةَ السبعينيّات بالقبض على أحد "المطلوبين" في شمال لبنان، فصعد ماهر فجرًا إلى شقّة المطلوب وقرع الجرسَ. فتحتْ زوجتُه البابَ ملتاعةً، فاقتاد ماهر زوجَها إلى بيروت، وسلّمه إلى قيادة الجبهة، ليفاجَأَ في اليوم التالي بأخيه (أحمد اليماني) يوبّخه لأنّه لم ينتظرْ طلوعَ الصباح. لقد خشي أحمد اليماني أن يكون أخوه قد بثّ الرعبَ في نفوس زوجة المطلوب وأفراد عائلته حين قرع الجرسَ في تلك الساعة المبكّرة![1]
لحظتَها، وأنا أتأمّل جثمانَ ماهر في المكان نفسه الذي كان يروي لنا فيه تلك الحادثة، اختمر في رأسي درسٌ رابع، ذكره ماهر، وهو خليقٌ بأن يكون نبراسًا يهتدي بنوره كلُّ المناضلين الحقيقيين: "إذا كان التحريرُ هدفًا نبيلًا... فإنّ وسيلةَ التحرير يجب أن تكون نبيلةً أيضًا."
حان وقتُ الوداع. وقفنا، صفًّا، لتقبيل جبينِ فلسطين، وأنا أشعرُ بانتماءٍ أكبرَ إلى المكان الذي أقفُ فيه. ثم مشيتُ مع رفاقه وعائلته في الجنازة، حاملين أعلامَ فلسطين والجبهةِ الشعبيّة وصورَ ماهر: من جامعة بيروت العربيّة، مرورًا بالملعب البلديّ، فمنطقةِ قصقص، وصولًا إلى مسجد الخاشقجي، وانتهاءً بمقبرة شهداء فلسطين عند مستديرة شاتيلا.
طوالَ المسيرة، كان الناسُ يقفون على جانبَي الطريق، وعلى شرفاتِ المباني، يُحَيّون القائدَ الراحل. شوارعُ بيروت، التي أصابتْها لوثةُ الطائفيّة والمذهبيّة والزبائنيّة، أعادها جثمانُ ماهر، ولو لساعة أو ساعتين، إلى تلك الأيّام المجيدة، حين لاحقتْ بيروتُ جنودَ العدوّ الإسرائيليّ في أيلول من العام 1982، فاضطرّوا إلى مناشدة أهلها بمكبِّرات الصوت: "يا أهالي بيروت، لا تطْلقوا النارَ علينا، إنّنا راحلون!" وكنّا هنا أمام درسٍ خامس من دروس الرحيل اليمانيّ: الحالةُ المذهبيّة ليست قدَرًا، وبيروتُ لم تفقدْ شوقَها إلى فلسطين وشرفائها.
في مسيرة التشييع، ساد جوٌّ استثنائيٌّ من الحبّ والتماسك. فقد تسابق الرفاقُ على رفع جثمان البطل. هنا، لا منافسةَ على مناصبَ أو ثروة. بلى، كانت ثمّة منافَسةٌ وحيدة: على حبِّ الثورة والثوّار. وهنا الدرس السادس: مَن زرع حُبًّا طوال حياته، لن يحصدَ إلّا الحبَّ عند مماته. سهلُ ماهر أثمر حبًّا ملأ المكان. وكثيرون ممّن شاركوا في مسيرة التشييع ومراسمِ العزاء عادوا فكتبوا شهادةً عن ماهر في مجلة الآداب أوعلى صفحاتهم الشخصيّة.
إلى مثوى شهداء فلسطين
وصلنا إلى مقبرة شهداء فلسطين. شققتُ الحشودَ، ورحتُ أبحث عن قبور القادة الكبار. دلّني إليها الرفيق هشام الزعتر، ابنُ القائد الراحل أبي أحمد الزعتر. وقفتُ أمام قبر الشهيد المبدع غسّان كنفاني، والقائد الشهيد كمال عدوان. ثم ذهبتُ إلى الناحية الأخرى بحثًا عن قبر القائد الصلْب أبي ماهر اليماني، والمثقف الجريء شفيق الحوت. شهداءُ فلسطين يملأون المكان. ولبنان، الذي احتضن ذات عصرٍ أهمَّ مشروع نضاليّ في القرن العشرين، حوّلتْه طبقتُه الحاكمةُ إلى مرتعٍ للفساد والنهب والاستزلام. وهنا درسٌ سابعٌ من دروس الرحيلِ الكبير: إنّه اكتشافُ هُزالِ الواقع اللبنانيّ الحاليّ، مقابلَ شموخ المشروع الفلسطينيّ القوميّ الأمميّ الماضي.
***
في نهاية يوم العزاء، شعرتُ بأنّني تقدّمتُ أشواطًا على طريق الثورة. وزادت قناعتي بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي أمُّ القضايا القوميّة والإنسانيّة، بل إنّها ضرورةٌ لازمةٌ لإحياء المشروع الوطنيّ اللبنانيّ نفسه.
بيروت