لم ألتفت في لقائنا الأخير في مقهى مطار ليون إلى أيّ تفصيلٍ يحوط بنا. تخلّيتُ عن التدقيق في وجوه شاغلي الكراسي، وركّزتُ بصري على جوربيْه الأصفرين الظاهرين بخفرٍ من زوجَي الحذاء الجلديّ الأشقر. كان يتلو عليّ وصاياه: "سارعي في البحث عن عمل وتابعي دراستك على الفور، ولا تهملي علاج الربو." ثمّ أردف، بعد أن ارتشف قهوته: "حذاري النقّ على أحوالك لاستدرار العطف!"
عانقني بحرارة، تاركًا طعمَ الحمض في حلقي، والفراغ في جوفي، وشريط حياتي يدور أمامي.
دخلتُ أحد المتاجر لأبدّد وقت انتظار إقلاع الطائرة. اشتريتُ غطاءَ رأسٍ زهريًّا ومنقوشًا بالورد، عسى أن تقبله "سمّورة" هديّة مني. وصلّيتُ طوال الرحلة.
***
كانت سمّورة عالمي الموازي، المحمّلَ بالحنان البديل من قسوة أمي وهرمونات الذكورة الطاغية في جسمها. سمّورة، ذاتُ القدّ الممشوق، تهوى الرقصَ البلديّ، وهزَّ العصاعلى طريقة هويدا الهاشم. أتذكّرها أنثى مغريةً بعينيها السوداوين، تمسك شعرَها الطويل بيدها وترسله على كتفها اليمنى، تنتعل "السابو" ذا الكعب الطويل، وتتلوّى حتّى يكاد يُغمى عليها، على إيقاع أغنية شيك شاك شوك. أصفّق لها تشجيعًا، قبل أن يوقفنا زعيقُ أمّي. عندئذ، نرتمي على الكنبة المخمليّة الطويلة، منتظرتيْن أن تبلغ بكرةُ الكاسيت أغنية "حبيبي يا عيني،" حتّى نحرّك أيدينا في الهواء بالتناغم مع الموسيقى التي تُوقفها أمّي وتتوعّدنا!
***
انصاعت سمّورة في بداية عشرينيّاتها إلى طلب الجارة الرسولة، فسلّمتْها صورتَها، عسى أن تقبل بها الستّ إنعام التي أعياها تمنُّعُ ابنها عن الزواج. منّت النفسَ بأن يُرمى برسنها على غاربه بعد الزواج؛ فأمّي دائمة التبرّم من ميوعة أختها سمّورة وعدم نفعها، بعد أن تركت المدرسة المتوسّطة وكَنَّت في بيتنا.
كانت سمّورة تقضي أيّامَها بين مشغل الخيّاط الذي اكترى دكانَ أبي، حيث تعمل بأجرةٍ تُبدّدها على أدوات التبرّج خصوصًا، وصالونِ صديقتها التجميليّ مقابل المرآة. في ذلك التاريخ كان مجالُنا قصيرًا، لا تخرق سريانَ أيّامه الموزّعة بين البيت والمدرسة سوى زياراتٍ متقطّعةٍ إلى صيدا بالباص، قصدًا لمقهًى رخيصٍ تنفث أمّي وسمّورة دخانَ النارجيلة فيه، فيما أنصرفُ إلى مراقبة السحنات المهمومة.
أُعجب فاروق، الثلاثينيّ، بصورة الفتاة المتقِنة تكحيلَ عينيها، عسى أن تخلّصه من نقّ أمّه، وتجنّبَه دفعَ بدلات اللقاءات الحميمة العابرة، وتنسيَه حبّه غير المعلن لمضيفة طيرانٍ تكبره في السنّ. فتمّت الفرحة.
أتذكّر تفاصيل زياراتي إلى منزل خالتي أيّام مراهقتي، محتوياتِ كلّ زاوية من عشّ من أعلنتهما "ثنائيّ الغرام": شرائط الكاسيت المدوّن عليها "رقص شرقيّ" بخطّ اليد، والبرنس الأبيض المعلّق على باب الحمّام، والمنشر الداخليّ المحمَّل بصدريّات ساتان ناريّ اللون. وأذكر المكتبة ذات الرفوف المرتّبة، كلّما دنوتُ من الكتب أبعدتني خالتي بحجّة أنّ فاروق لا يقبل أن يمسّ أحدٌ أغراضَه.
ـــ يا حبيبتي ابعدي عن الكتب، يكفيني همّ فاروق!
كانت تضع رأسي على صدرها، فأشكو إليها عنفَ أختها اللفظيّ، وحبسَها لي في الغرفة لساعات، ومنعَها لي من زيارة زميلات الدراسة واستقبالهنّ! تهدّئني، وتكلّم أمّي مستأذنةً أن أبيت عندها، فأُيقن أنّ للسعادة مفتاحًا هو سمّورة.
في المساء، كان فاروق (الذي ينهاني عن مناداته بـ"عمّو") يترك غرفتهما المشتركة وينضمّ إلينا، مقترحًا عشاءً من الأومليت والسلطة. تتمتم سمّورة: سنبقّ البيض والخضر النيئة. يطوّق رقبتي بيدٍ، ويمسك بالثانية ملعقةً من الزبدة يفرغها في المقلاة، ثمّ يمرغ ما تبقى منها على لساني، قبل أن يفقش حبّاتِ البيض ويقلبها مع الفطر بخفّة. أتأمّل انهماكَه في عمله كـ "شيف" ماهر، فيما سمّورة تفرم الخضرَ للسلطة التي يحبّ فاروق مذاقها بتتبيلة الخلّ.
***
في هاتيك الأيام، لم أعرف أنّ الشهوة تجمع الشرقَ والغرب، والمؤمنين والملحدين، وسمّورة وفاروق. كان الشبق يغمض عينيْ فاروق عن ثرثرة سمّورة وتبرّمها كلما أطال الحديثَ على جهاز التلفون بالفرنسيّة. يكفيه أن يكشف الفستانُ اللمّاعُ عن بطنها المتكوّر، وعن اكتناز فخديْها فيما هي تتمايل على إيقاع الطبلة المتصاعد من الراديو كاسيت، لكي يُفرغ شحناته الداخليّة. بيد أنّ المرأة المغناج لم تقوَ على ما يتجاوز ذلك: فهي لم تخرجه من عالمه الصامت، ولم تقاسمْه حياته خارج لقاءاتهما الحميمة. ومع أنّهما قضيا ثلاث سنوات ونصف السنة معًا، تخلّلتها زياراتٌ متكرّرة لأطبّاء نسائيّين خلصوا إلى أنّهما لا يشكوان علّةً، إلّا أنّ حضن سمّورة لم يمتلئ بطفلةٍ تمنّت أن تشبهني.
في سنواتي الطريّة سألتُ نفسي إذا أتيتُ حقًّا من بطن أمي، عمّا إن كانت سمّورة هي شقيقة ريما ذات الذقن الناتئ كجرف، وطليقة الأنوثة في الملبَس والتصرّف. كنتُ ابنةَ امرأةٍ متسلّطةٍ، هجرها زوجُها. لم أنتظر طويلًا حتّى أطلق رصاصةً على صورة أمّي، ثمّ غطّيتُ وجهي بالرقّة، ومشيتُ قاصدةً مكتبةَ فاروق.
***
حاول فاروق أن يقرّب سمّورة من عالمه، فاصطحبها مرّةً إلى منزل صديقه مروان. في بيروت منتصف التسعينيات، كان حديث "إعادة الإعمار" عاليَ النبرة، في الوقت الذي يمدّ فيه أخطبوطُ السياسة والاقتصاد أذرعَه إلى قُوت البشر المثقَلين بهموم حربٍ لم يستوعبوا كيف وضعتْ أوزارَها.
تنظر سمّورة إلى صدر صديقة مروان، المشدود، ثمّ إلى رجلها الملتفّة فوق الثانية والمتحرّكة في دوائر، فيما مروان وفاروق يؤيّدان كلامَ الصديقة حول سياسات إعادة الإعمار. تشتبه في أمر العلاقة بين المرأة ومروان. تحدّث نفسها عن مدى قدرة المرأة الدميمة والفهلويّة في السياسة على خطف اهتمام الرجال، فتخلص إلى أنّ فاروق على الأقلّ يقدّر الجمال ويبحث عنه! كيف لا، وهو اختارها بين الكلّ، ولو أنّه يهمّشها؟!
تذهل سمّورة بعدما ترى تمثال العذراء، المجاور للقرآن، على الرفّ فوق رأسها، وتعلن عن ضيقها من الجوّ المثقل بأحاديث تقرِّع "الأخطبوطَ" الماليّ، وعن حنقها من فاروق الذي تكلّم في السهرة أكثر ممّا يفعل بالبيت، كما شرب كأسين من الويسكي. عاتبتْه حين غادرا، فضحك وهزئ بها. في اليوم التالي، قصدت المركزَ الإسلامّي المجاور لـ"قن الدجاج،" كما تسمّي بيتها، سائلةً عن فتوى مضاجعة مُعاقِر الخمر. كرّرتْ على فاروق ضرورةَ البعد عن الخمر، فنهرها، قبل أن يصفق باب غرفته عليه! عرفتْ في ما بعد أنّ فاروق لم يأت يومًا ببيرةٍ إلى المنزل، لكنّه لا يوفّر الشرب في جلساته مع أصدقائه.
***
لم يُهِن فاروق سمّورةَ طوال عهدهما، بيْد أنّه لم يسايرها قطّ. كانت تجيء بيتَنا شاكيةً برودَه، وتقزّزَه من الحيّ الشعبيّ حيث نسكن، فتقاطعُها أمّي: "مين مفكّر حاله؟ ابن مخرم بيك؟!" إلّا أنّها لم تسمح لحرد سمّورة بأن يمتدّ إلى ما يزيد عن ذلك، حتّى حين أمست تأتي بعد أن يبدّد الحيضُ آمالَها في الحمل، ويتعاطى فاروق بلامبالاة حيال الأمر.
وكان فاروق يخفي، تحت ملمسه الناعم، صلابةً تتمظهر في إسكات أيّ صوت لا يروقه، وتصميمًا على نيل الدكتوراه، ومن بعدها الهجرة إلى فرنسا. مادّيًّا، لم يقصّر في علاقته بزوجته المتطلّبة. كان بيتوتيًّا؛ برنامجه عبارة عن تدريس الفلسفة في ثانويّة مرموقة، ومتابعة رسالة الدكتوراه في غرونوبل التي طرق أبوابها نتيجةً لمنحة، والتريّض صباح السبت. كان يكسر روتينَ أيامه في زيارة مروان، أو مشاهدة الأفلام الفرنسيّة وحيدًا في سينما في جونيه.
لم تطق سمّورة حقيقة أنّهما لا يخرجان معًا إلّا نادرًا. ضاقت ذرعًا من تهميش حضورها في حياته على تدفئة الفراش. تنكّدتْ من ملاحظاته المنتقدة نومَها حتّى ساعات الظهر الأولى وهجسها بالحمل، فلم يطل الوقتُ حتّى تلوذ لله.
***
عمّقت المرأةُ المغناجُ الغوصَ في بحيرة المركز الإسلاميّ المجاور لبيتنا، وأصبحتْ لا تخطو خطوةً قبل أن تستشير"المرشدة." كلّما توطّدتْ علاقتها بالأخيرة لاحظت الإثم العالق بأطراف ثوبها من جرّاء فاروق المخمور والشكّاك في الخالق. إلى أن غلّفتْ رأسها بالخمار. توتّرتْ علاقة الثنائيّ، فحصل الطلاق. كنت سنتذاك في سنتي الجامعيّة الأولى.
لم تحاول أمّي أن تحُول دون المحصول، خصوصًا بعد أن تحوّلتْ سمّورة إلى كائن غريب يتمتم الأدعية، ويستاء من أتفه الأمور. كانت تعانقني حين أقترب منها، من ثمّ تنصرف سريعًا إلى الراديو متابعةً البرامج الدينيّة. اعتزلت الرقص والغنج، لكنّ جسدها بقي مشتهًى كلّما مرّت في حيِّنا على الرغم من الطبقات التي تغطّيه. تباعدنا. انصرفتُ إلى دروسي الجامعيّة، وانصرفت سمّورة لله.
***
?Ou-est tu ـــ
!Je me fais belle pour toi ـــ
أغادر الحمّام الضيّق، لأباغته جالسًا يبحث في شنطتي الجامعيّة. أزجره. أردّد على مسمعه "مانيفستو الغرام" فيرطن، قبل أن يهرع إليّ ويحملني. ألفّ كعبيّ على ساقيه، فيما أداعب رقبته. يسير مغنّيًا في الحيّز الضيّق المخمليّ من الأثاث، فأهمس في أذنه: غيّور... غيّور... قبل أن أتفحصها بلساني. علمني كيف أحبّ جسدي؟ كنّا نقف عارييْن قبالة المرآة، وهو يجسّ كلّ سنتيمتر في جسمي حتّى أرتعش. يطيل في مداعبتي، فاتحًا حواسّي على نِعمٍ لم أعرفْها قبله. يُسمعني تردّداتِ جسمي، ولا يتخلّى عن مهنة الأستاذ حتّى في الفراش!
كان يزنّرني بالأسئلة، بعد أن أعود من الجامعة إلى غرفتنا الرخيصة. في يوميّاتنا الباردة، كنت ألوذ من حياة غرونوبل إلى جسده. أتأفّف من الطعام الفرنسيّ الذي لم أستسغه. أرمي ذلّ الغربة على مسؤوليّته، فيُسكن نوبتي لبرهة، قبل أن يعيدني إلى الدوران في الدائرة التي كان قد رسمها لي. كانت حالي تحاكي سنونوة هزيلة غادرت السربَ للبحث عن إجابات لأسئلتها المعقّدة، فتَبَلَها الحبُّ، تاركًا الأسئلة تتكوّم! كان فاروق محاولةً لتعويض حنان أمّي المفقود، وانتقامًا من سمّورة لبعدها عنّي، وفرصةً لاكتشاف جسدي. لكن، لم يطل الوقت حتّى أيقنتُ أنّ شريك مخدعي، وعلى غرار عهده بسمّورة، لم ير فيّ سوى مصرِفٍ لشهوته، مع فارق بسيط في المقارنة مع خالتي يتمثّل في مجاراتي لطريقة عيشه.
تخبّطت في مسار الدائرة الذي رسمه لي، إلى أن أعيَتني غيرتُه، وأوقعتني في الخلاء! كان فاروق يكبرني بستٍّ وعشرين سنة.
أركدت أيامنا الأخيرة معًا رياحَ رباطنا. أدركنا أنّه لا يمكن أن نمضي قدمًا. كان فاروق أوهن من أن يرمّم ما دمّره بغيرته وسلطته الناعمة، بينما أنا منتفضة على اختصار حضور زوجتين في حياته، وقبلهما عديدُ العابرات، في مصرف لشهواته. كان يكبرني بستٍّ وعشرين سنة.
بيروت