عمر النايف: الشهيد والشاهد الوحيد
04-04-2016

 

الرفيق عمر النايف قصة فلسطينيّة حقيقيّة، تستحقّ أن تُروى للناس، كلِّ الناس، وللأطفال والفتية على وجه التحديد. ذلك لأنّها حكاية شعبيّة تفيض بالحكمة والدروس، وتنتمي إلى الأساطير الواضحة والسهلة. إنّها حكايةٌ لم تنتهِ بعد ، بدأتْ فصولُها الأولى في قرية اليامون، قضاء جنين المحتلّة، وهي قرية وادعة عمرُها ألفُ سنةٍ على الأقلّ.

هناك، في بيتٍ قديم، وُلد عُمر النايف في العام 1963. في الخامسة من عمره بدأ يتسلّل من بيته باتجاه الأزقّةِ والحاراتِ وغبارِ الكون، ليكتشف الحياةَ والحقيقة. ومثلَ شعبه الفلسطينيّ، وجد نفسَه عاريًا وحيدًا أمام معسكر العدوّ المدجّجِ بالسلاح والخديعة، وشاهد دوريّةً معاديةً جاءت "تمشّط" المنطقة  من الفدائيين.

لم يدخل عُمر النايف الصفَّ الدراسيَّ الأوّل، ولم يتعلّم (بعدُ) كيف يكتب اسمَه المكوّن من ثلاثة أحرفٍ سهلة: ع. م. ر.

***

لا ، لا تبحثْ عن الاستثناء في الولادة ولا في الموت؛ فكلنا نولَد ونموت، ونأتي ونذهب. لكنّ هناك شعبًا قديمًا راح يولَد ويتكاثر، منذ العام 1948، خارج ساعةِ الزمن، وخارج ميزان "العدالة" المختلّ، في مكانيْن، لا ثالث لهما: تحت الاحتلال، أو في بطن المنافي.

تلك هي القاعدة الوحيدة، والأكيدة. أمّا الاستثناء ففعلُ تمرّدٍ وتحرّرٍ، فرديٍّ وجماعيّ ـــ وهو ما سيأتي لاحقًا وحتمًا، ويولَدُ مثلَ الانتفاضة:

عفويًّا في البدء، قبل أن يكبر مع الوعي، في وحل الواقع والتجربة.

الاستثناء لا يولد إلّا في الثورة.

وهذا هو شأنُ الاستثناء الذي اسمُه: عمر النايف.

***

الصورة الأخيرة للشهيد*

بين اليامون (فلسطين) حيث وُلد عُمر، وصوفيا (بلغاريا) حيثُ قُتل في مقرّ السفارة الفلسطينيّة التابعة والمتواطئة، مسافةٌ طويلةٌ ورحلةٌ مُرّة، عمرُها 52 سنة، توزّعتْ على ورش الكدح والمعامل، أمضى عُمر نصفَها في السجون والملاحقة والمعسكرات، ونصفَها الآخر في المنافي الباردة. منذ العام 1986 وعُمر النايف يعيش في بطن الموت: من المواجهات والمظاهرات في جنين، إلى تجارب الاعتقالات المتكررة ، ثم زنازين التعذيب والتحقيق، وصولًا إلى السجون المركزيّة والحكم عليه بالحبس 99 سنةً.

بعد 4 سنوات في السجن، وتحديدًا في العام 1990، قرّر عُمر أن يعيش مواجهةً جديدةً، هذه المرّة في بطن الجوع، وإلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، آملًا في ولادةٍ جديدة. فكان أن أضرب عن الطعام أربعين يومًا، شارف فيها على عتبة الشهادة. حينها فقط، اقتنع جهازُ المخابرات الإسرائيليّة (الشاباك) أنّ عُمر النايف لن يعيش طويلًا، فنقلوه إلى مستشفًى في مدينة بيت لحم. وبعد أيّام قليلة، قامت مجموعةٌ من رفاقه في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بتهريبه من المستشفى إلى بيتٍ سرّيّ جرى تأمينُه لعمر ولمجموعةٍ من الرفاق، فتقاسموا فيه رغيفَ الخبز، ثم مضوا معًا في تجربة نضاليّة جديدة.

ولكنّ هذه قصّة أخرى، لحلقةٍ من سيرة نضاليّة لا تنتهي.

 ***

وعاش عمر.

كانت الأرضُ المحتلّة تغلي في مرجل انتفاضتها الشعبيّة الكبرى. لم يكن "النايف" على هامش الفعل الكفاحيّ، بل بقي راسخًا في تفاصيله. وكبر جيلُ عُمر، واشتدّ عودُه تحت حراب الاحتلال، فأصبح الشبابُ والكوادرُ المجرَّبةُ الصلبةُ هم القادةَ الحقيقيّين للانتفاضة. ورغم الملاحقات والمطاردات المستمرّة فقد أفلحت الجبهةُ الشعبيّةُ في إخفائه عن عين العدوّ، وأفلحتْ لاحقًا في تهريبه إلى خارج الوطن، صحبةَ رفيقٍ آخر.

وعاش عُمر مرةً أخرى.

***

يقال إنّ بعضَ فصائل النسور تعيش أكثرَ من 60 سنة. قد تولَدُ مجددًا، حتى بعد أن يسقطَ ريشُها وتفقدَ قدرتَها على الصيد والتحليقِ في الأعالي، لكنّ عليها ـــ إذا أرادت الحياةَ ـــ أن تخوض تجربةً قاسية: اذ يطير النسرُ إلى مرتفعٍ صخريّ، فيعزلُ نفسَه عدة شهور، وهناك يقاوم ليولدَ من جديد، أو يموت.

عمر النايف نسرٌ من ذلك النوع. يتنقّل بين مختبرات الموت كي يزداد جدارةً بحياةٍ أكرم.

***

يستردّ الشهيد عمر النايف، قبل جريمة قتله، جزءًا من ذكرياته، فيكتب لنا قصّةً قصيرةً بعنوان "رغيف خبز." يسألني في اليوم التالي: "عجبتك؟ قل لي الحقيقة يا رفيق!"

كانت الرسائلُ والخواطرُ العابرةُ والقصصُ القصيرةُ سلاحَه الأخير. أراد عُمر أن يعصرَ ما تبقّى من ذاكرته، فاخترع لغةً تؤنسه وتعذّبه في آن واحد، هو الحرُّ المحاصَرُ في سفارةِ سلطةٍ فلسطينيّةٍ تابعةٍ متعفّنة، كنسرٍ جريحٍ سقط بين قطيع ذئابٍ في غفلة، فكيف يفعل الآن ولم يعد للشعب سلطانٌ وكلمة؟

رحل عمر، وهو الشهيد، والشاهد الوحيد.

***

الكتاب الوحيد، الذي وجدوه إلى جانب عمر النايف، في مكان الجريمة، كان هديّةً من الحكيم د. جورج حبش. رافقه الكتاب من دمشق، إلى آخر السطر. كان يحمله كما يحمل صليبَه وعذابه.

والآن، لا أعرف لماذا أكتبُ عن رفيقي الحبيب عمر، وهو ما يزال في ثلّاجةِ الموتى؟

لكنْ، أهو حقًّا في ثلّاجة الموتى؟

أمْ نحن الذين نحيا في ثلّاجة الموتى؟

وإذا رحل الشهيد، فهل ترحل قضيّته؟

هل تنتهي القصة، أمْ تبدأ من جديد كما يقول غسان كنفاني؟

***

ترك عمر النايف رسائلَ كثيرةً، أهمُّها: لا تذكروني وتنسوا القضيّة. إنّ الثأر الحقيقيّ للشهداء يكون باستمرار النضال الشعبيّ والمسلّح حتى تحقيق النصر، وحتى تشهدَ الأجيالُ الفلسطينيّةُ يومَ العودة والتحرير.

بروكسل

* وتشكر الآداب السيّدة رانية النايف، زوجةَ الشهيد عمر، على تقديم الصورة المرفقة بالمقال، وهي آخرُ صورةٍ التُقطتْ له وهو في مبنى السفارة في صوفيا.

 

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.