بحلول الذكرى الحادية والأربعين للحرب الأهليّة اللبنانيّة، من الضروريّ أن يُفتح النقاشُ حول الأوهام المتعلّقة بطبيعة هذه الحرب ودوافعِها، وهي طبيعةٌ ودوافعُ اقتنعتْ بها ـــــ للأسف ـــــ مختلفُ القوى اليساريّة والقوميّة في لبنان ودخلت الحربَ على أساسها. والضرورة هنا لا تنبع من الرغبة في جلْدِ الذات أو تلاوةِ فعلِ الندامة، على طريقة بعضِ زعماء اليسار اللبنانيّ "التائبين" في السنوات الماضية؛ بل يَفرضها الوضعُ الراهنُ في البلد، واحتمالاتُ عودة الحرب الأهليّة فيه. كما تفرضها استعادةُ الأوهام التي يذْكرها البعضُ لتفسير الحرب الأهليّة السورية وتحليلها، من دون أخذ أيّ درسٍ من دروس الحرب اللبنانيّة في الاعتبار.
منذ بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة انخرطت القوى اليساريّةُ والقوميّةُ فيها، إلى جانبِ من اعتبرتْهم ثائرين على النظام الطائفيّ اللبنانيّ، من أجل فرض تنفيذ "البرنامج المرحليّ للحركة الوطنيّة اللبنانيّة" بقيادة كمال جنبلاط. أمّا طبيعةُ الحرب الطائفيّة، ونوعيّةُ أطرافِها وزعاماتِها، فلم تُعِرْها تلك القوى أيّةَ أهمّيّة.
فمنذ اليوم الأوّل دارت الحربُ على خطوطِ تماسٍّ بين أحياءٍ إسلاميّةٍ وأحياءٍ مسيحيّةٍ في بيروت وضواحيها، وبين قرًى ومناطقَ إسلاميّةٍ ودرزيّةٍ وقرًى مسيحيّةٍ خارج بيروت. وكانت كلُّ المجازر وعمليّاتِ الخطف والتهجير الفرديّ والجماعيّ، عبر سنوات الحرب، ذاتَ طابعٍ طائفيٍّ بحت. أمّا المكوّناتُ الأساسية لفريقَي الحرب فكانت عبارةً عن تحالفٍ إسلاميٍّ يضمّ الطوائفَ السنّيّةَ والشيعيّةَ والدرزيّةَ من جهة، مقابلَ فريقٍ مسيحيٍّ مؤلّفٍ من الطائفة المارونيّة بشكلٍ خاصّ. وقد قاد الفريقيْن ملوكُ الطوائف من الجهتين، هم وأولادُهم وأزلامُهم، أثناء جولات المعارك المتعدّدة. وهؤلاء أنفسُهم قادوا كلا الفريقيْن أيضًا أثناء جولات المفاوضات الكثيرة على مدى أعوام الحرب. وقد دارت جولاتُ المفاوضات حول عدد نوّابِ كلِّ طائفة، وحول صلاحيّات رئيس الجمهوريّة المارونيّ، وحول انتزاع بعضِ هذه الصلاحيّات وإعطائها رئيسَ الحكومة السنّيّ أو مجلسَ الوزراء مجتمعًا، وحول توسيعِ صلاحيّات رئيس مجلس النوّاب الشيعيّ وتقويةِ مركزه بانتخابه طوال مدّة ولاية المجلس. وجاءت جميعُ اتّفاقيات إنهاء الحرب، منذ "الوثيقة الدستوريّة" سنة 1976 وحتّى اتّفاق الطائف، نصوصًا حول إعادة توزيع الحصص الطائفيّة داخل نظام الحكم الطائفيّ.
لكنّ القوى اليساريّة والقوميّة لم تولِ أيًّا من الأمور المذكورة أعلاه أهمّيّةً تُذكر، واكتفت بتعريف الحرب بحسب السرديّات التي أعلنها فريقاها المتحاربان. فقد خاض فريقُ التحالف الإسلاميّ الحربَ تحت شعار "المشاركة،" أيْ إعادةِ توزيع الحصص الطائفيّة في النظام اللبنانيّ. أمّا فريقُ المارونيّة السياسيّة ـــــ الذي خاض الحربَ لمنع أيّ تعديلٍ في هذه الحصص ـــــ فقد استخدم سرديّةَ "السيادة ومواجهةِ استيلاء الغرباء" على البلد؛ وكان المقصود بـ"الغرباء،" يومَها، الفلسطينيّين، الذين اعتبرهم هذا الفريقُ، من خلال عدسته الطائفيّة الخالصة، "جيشَ السُّنّة" في لبنان. وقد ساعد انخراطُ المقاومة الفلسطينيّة في الحرب الأهليّة (وبخاصّةٍ حركة "فتح" ذاتُ الخلفيّة الإسلاميّة) في تقويةِ منطق هذا الفريق داخل طائفته.
عمليًّا، دخلت القوى اليساريّةُ والقوميّةُ الحربَ إلى جانب التحالف الإسلاميّ، ولكنّها رفعتْ لواءَ "البرنامج المرحليّ للحركة الوطنيّة." وظهرتْ يومَها مقولةُ "الطوائف الوطنيّة" في محاولةٍ لإيجاد أساسٍ "نظريٍّ" لوقوف اليسار اللبنانيّ إلى جانب طوائفَ معيّنةٍ في مواجهةِ طوائفَ أخرى. وتدثّرتْ هذه القوى بعباءة كمال جنبلاط، الذي أدّى دورًا مزدوجًا في الحرب: فقد كان زعيمًا للحركة الوطنيّة ولأحزابِها وقواها اليساريّة، ولكنّه كان في الوقت نفسه ملِكًا من ملوك إحدى الطوائف المنخرطةِ في الحرب الأهليّة من أجل زيادة حصّتها من "كعكة" الحكم في النظام الطائفيّ اللبنانيّ. وقد تجاهلتْ قوى اليسار اللبنانيّ هذا الازدواجَ في أدوار كمال جنبلاط، واعتبرتْ أنّها يمكن أن تتحالفَ، تحت زعامته، مع الفريق الإسلاميّ الساعي إلى تعديل الحصص داخل النظام الطائفيّ، من أجل "اختصار الطريق" للوصول إلى إسقاطِ هذا النظام بالكامل وتنفيذِ البرنامج المرحليّ للحركة الوطنيّة. لكنْ، إذا أمكن تبريرُ التصاق اليسار بزعامة كمال جنبلاط، وتبريرُ عدمِ التفات هذا اليسار إلى طبيعة زعامة جنبلاط الطائفيّة قبل اغتياله سنة 1977، فإنّ ما يستعصي على الفهم هو اعتبارُ اليسار نفسَه جزءًا من "أرزاق" كمال جنبلاط التي ورِثَها ابنُه، وليد جنبلاط، تمامًا كما ورث زعامةَ أبيه يومَ دفنِه!
وغنيٌّ عن القول إنّ التصاقَ فريق المارونيّة السياسيّة بـ"إسرائيل،" منذ اليوم الأوّل للحرب، سَهّل على اليسار اللبنانيّ اتّخاذَ قرار مواجهته. وسَهّلَتِ اتّخاذَ هذا القرارِ أيضًا عنصريّةُ هذا الفريق تجاه الطوائف الأخرى وتجاه الشعب الفلسطينيّ، وحصرُه خياراتِه ما بين تأبيد هيمنته التامّة على النظام أو تقسيمِ البلد واقتطاعِ دويْلة "مارونستان" ليحكمها.
بيْد أنّ الطوائف الإسلاميّة لم تكن أبدًا "حليفًا طبيعيًّا" لليسار اللبنانيّ. فقد انخرطتْ هذه الطوائفُ في الحرب لأسبابٍ مختلفةٍ تمامًا عن الأسباب التي دفعت القوى اليساريّةَ والقوميّةَ إلى الانخراط فيها. وجلُّ ما كانت تبغيه مختلفُ الطوائف الإسلاميّة هو تعديلُ حصصها داخل النظام الطائفيّ وتحسينُها. أمّا مقولة "الطوائف الوطنيّة" فكانت خرافةً لا صلة لها بالواقع؛ ذلك أنّ جميعَ الطوائف في لبنان، الإسلاميّةَ والمسيحيّة، دخلتْ، عبر سنِيّ الحرب الأهليّة وما بعدها، في "أطوارٍ" مختلفةٍ، تراوحتْ بين الوطنيّة وأقصى العداء لـ"إسرائيل" من جهة، والانعزاليّةِ والاستعدادِ لأقصى التعامل مع "إسرائيل" من جهة أخرى، وذلك بحسب مقتضيات كلّ مرحلة من مراحل الحرب.
***
واليومَ، فإنّ المشكلة الفعليّة في لبنان هي أنّ الطريقة التي "أنهِيتْ" بها الحربُ الأهليّةُ عبر "اتفاق الطائف" أدّت إلى تنصيب أمراءِ الحرب ملوكًا متوّجين على طوائفهم. وفُصِّل نظامُ الطائف على قياس هؤلاءالملوك، واستُحدثتْ لهم "دكاكينُ" خاصّةٌ بهم داخل جهاز الدولة، هي بمثابة أدواتٍ للنهب المنهجيّ المنظم. وقد مكّنهم ذلك من إرساء قواعدِ "أنظمةِ حكمٍ" خاصّةٍ داخل كلّ طائفة على حدة. وأصبحتْ هذه الأنظمةُ أقوى من "الدولة" اللبنانيّة بكثير. وباتت لكلّ طائفةٍ علاقاتُها الخارجيّةُ الخاصّة، وأجهزةُ استخباراتِها الخاصّة، وأجهزةُ الرعاية الاجتماعيّة التابعةُ لها. ولم تعد لها علاقةُ بـ"الدولة" اللبنانيّة إلّا من خلال الدكاكين المذكورة، إلى جانب التوظيف في القطاع العامّ، الذي شكّل ـــــ بدوره ـــــ أداةً من أدوات سيطرة ملوك الطوائف على "رعاياهم."
وكما تقلّبت الطوائفُ في علاقاتها بـ"إسرائيل" عبر سنوات الحرب الأهليّة، تقلّبَ ملوكُ هذه الطوائف، القدماءُ والمستحدَثون على حدّ سواء، في علاقاتهم برفيق الحريري، الذي استُقدِم بعد انتهاء الحرب الأهليّة ليتوَّج ملكًا غيرَ منازَعٍ على الطائفة السنّيّة. وبقي الحريري محورَ التوازنات الطائفيّة حتّى اغتياله في شباط من العام 2005، حيث اندلعتْ أشكالٌ جديدةٌ من الحرب بين الطوائف اللبنانيّة من جديد.
لقد جاءت الحربُ الجديدةُ، التي ما تزال دائرةً حتّى يومنا الراهن، حربًا باردةً هذه المرّة، واصطفافاتُها الطائفيّةُ جاءت مغايرةً لاصطفافات الحرب الأهليّة. فقد اصطفّتْ مختلفُ الطوائف في هذه الحرب الباردة الجديدة على جانبَي الفالق السنّيّ ـــــ الشيعيّ، الممتدِّ من داخل لبنان إلى كلّ المنطقة العربيّة وصولًا إلى إيران وتركيا. وتحوّلتْ جميعُ الطوائف الأخرى، مع ملوكها، إلى كومبارس للفريقيْن المتواجهيْن، السنّيّ والشيعيّ. وقد تمرّس بعضُ هؤلاء الملوك في التقلّب في تحالفاتهم، وأجادوا "النطنطةَ" بين جانبي خطّ المواجهة الجديد.
وعلى الرغم من كون الحرب الحاليّة حربًا باردةً، فإنّها قضت على النظام الطائفيّ اللبنانيّ قضاءً مبرمًا. فلقد تمكّنتْ جميعُ الطوائف اللبنانيّة، الرئيسةُ والثانويّةُ، من امتلاك حقّ الفيتو بواسطة اتّفاق الطائف، فأمعنتْ في استعماله في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، حتّى خنقت النظامَ اللبنانيّ، الذي لم يبقَ منه سوى بعض الطقوسِ الفارغة. والحقّ أنّه لا يمكننا أن نأسفَ على النظام الطائفيّ المقيت، لكنّ المشكلة هي أنّ "البديلَ" الذي حلّ لم يكن غيرَ الطوائف، التي بدأتْ في ملء الفراغ و"احتلالِ" أجهزة الدولة واحدًا تلو الآخر. ولنا في الأجهزة الأمنيّة وبعضِ الوزارات أمثلةٌ على ذلك.
***
إنّ الدرسَ الأساسَ الذي يمكن أن يستقيه المرءُ، سواءٌ من الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي اندلعتْ في العام 1975، أو من الحرب الطائفيّة الباردة الدائرة في البلد منذ العام 2005، هو أنّ إصلاح النظام اللبنانيّ لا يمكن أن يتمّ من خلال التحالف مع طائفةٍ ضدّ أخرى، أو مع أحد ملوكِ الطوائف في هذا النظام ضدّ الملوك الآخرين. ذلك أنّ ميزانَ القوى بين الطوائف والقوى الإصلاحيّة لا يمكن أن يسمحَ لهذه القوى باستخدام "التناقضات الطائفيّة" من أجل تحقيق أيّ إصلاحٍ في النظام، مهما بلغ حجمُه. وتجربةُ اليسار اللبنانيّ مع كمال جنبلاط خلال الحرب الأهليّة، والتجاربُ النقابيّة المتعدّدة بقيادة حنّا غريب (بتحالفه مع ممثّلي مختلف القوى الطائفيّة في القطاع النقابيّ)، والتجربة الوزاريّة لشربل نحّاس (ضمن فريق ميشال عون)، كلّها أمثلةٌ تدلّ على ذلك، بغضّ النظر عن الفوارق الكبيرة بين كلّ هذه التجارب.
لكنّ المؤسف أنّنا لم نتعلّم هذا الدرسَ المهمّ من دروس الحرب الأهليّة اللبنانيّة، لا في لبنان ولا في المنطقة العربيّة. ففي لبنان كنّا، ومازلنا، على وشك العودة إلى الحرب الطائفيّة الساخنة، لولا ما يبدو من مصلحةٍ دوليّةٍ في إبقاء هذه الحرب بعيدةً منه. وفي سوريا هرول فريقا الصراع إلى الحرب الأهليّة الطائفيّة بأقصى سرعةٍ ممكنة، حالما توفّر لهما الدعمُ العسكريُّ، ولم يعبأا بإغراق الشعب السوريّ في الدماء وتشريدِه وإذلالِه. وأمّا في العراق، فإنّ السماسرة والأفّاقين، الذين نُصّبوا من قبل الاحتلال الأميركيّ، مزّقوا بلدَهم إربًا إربًا بعد أن نهبوه، وقادوه أيضًا إلى الحرب الأهليّة الطائفيّة حالما لاحت لهم الفرصة. ومن غير المعروف إذا كان يمكن أن تعودَ سورية أو العراقُ بلدًا موحّدًا في المستقبل المنظور.
إنّ العاهة الطائفيّة المستديمة المستحكمة بلبنان، وبمنطقتنا العربيّة، تجعل من أيّ حربٍ أهليّةٍ أسوأَ ما يمكن أن يحدثَ لأيٍّ من بلدان هذه المنطقة. فبالرغم من الآمال والأحلام (والأوهام) الكبيرة التي انعقدتْ على الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وعلى كلّ الحروب التي تلتها في المنطقة العربيّة، فإنّ أيًّا من هذه الحروب لم يؤدِّ إلى أيّ تغييرٍ منشود. على العكس: أدّت جميعُها إلى العودة ببلداننا إلى عصورِ ما قبل الدولة، وإلى العودة بشعوبنا إلى انتماءاتٍ ما دون وطنيّة.
ولكنْ يبقى لدينا الأملُ في القدرة على الشفاء من هذه العاهة، وفي القدرة على التقدّم نحو عيش عصرنا الحاليّ، ولو بعد حين. ففي لبنان مثلًا، تبيّن من الحَراك الشعبيّ الذي حدث خلال الصيف الماضي أنّ القرف من النظام الطائفيّ لم يعد يقتصر على "نخبةٍ إصلاحيّة،" بل أصبح في قلب المجتمع اللبنانيّ (الذي كان من المفترَض أن يكون ملتحقًا بالطوائف). وبالرغم من إجهاض الحَراك من قِبَل بعض "الأولاد" الذين استلموه وحوّلوه إلى استعراضٍ سخيف، فإنّ الزخم الشعبيّ الذي أخذه عند بدايته أعطى الأملَ بأنّ الانتماء الطائفيّ لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد من دون الخضوع للنقاش، وأنّ النظام الطائفيّ ليس قدَرًا محتومًا للبلد. ففي عصرنا هذا، حيث يمكن أيًّا كان أن يعرف كيف تعيش شعوبُ الدول "الطبيعيّة،" لا يمكن أن ينقاد الناسُ بشكلٍ أعمى إلى حفنةٍ من ملوك الطوائف الفاسدين إلى أبد الآبدين.
بيروت