أثار كتاب آلان مينارغ (أسرار حرب لبنان) عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بمرحلتيْها الأولى (1975 ـــ 1976) والثانية (1982 ـــ 2000)، الكثيرَ من الشجون والذكريات والحوافز المعنويّة والمعرفيّة للمساهمة في كتابة تاريخ مرحلةٍ مهمّةٍ من عمر لبنان واللبنانيين. ما يعنيني في هذه المقالة هو التأريخُ لتجربةٍ مهمّةٍ، خاضها طرفٌ أساسيٌّ من الأطراف المتحاربة، محاولًا دفعَ الأمور في اتّجاه إصلاح النظام وتغييرِ مجرياتِ الأحداث آنذاك. والمقصود بهذا الطرف: الحركةُ الوطنيّةُ اللبنانيّة، والقوّاتُ المشتركة المؤلّفة من المناضلين اللبنانيّين والفلسطينيّين.
وفي حين أنّ التاريخ، بحسب المقولة الشهيرة، يكتبه المنتصرون، فإنّ تاريخَ الخاسرين، أو الذين لم تتسنَّ لهم تلاوةُ شهاداتهم أو تدوينُ رواياتهم عن الحرب، لن يستطيعَ الإسهامَ في عمليّة إنتاج الذاكرة المعرفيّة التاريخيّة الخاصّة بمجتمعاتهم. لذا، فإنّ هذه الذاكرة، إنْ جُمعَتْ، ستُشكِّل حافزًا لقوًى في المستقبل، ولشخصيّاتٍ حريصةٍ على تاريخها، كي تَطرح مسألةَ الاستفادة من التجارب السابقة، أو محاسبةَ القوى التي دفعتْ بالأوضاع السياسيّة المتأزّمة في حينه إلى الانفجار.
يكتسب موضوعُ كتابة تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة عمومًا، وتاريخِ "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة" خصوصًا، أهمّيّةً متزايدةً نظرًا إلى هيمنة الرؤية المجتزأة على الدراسات التي أُعِدَّت حتّى الآن عن هذا الموضوع. فما تزال مكتبتُنا الوطنيّة تفتقر إلى دراساتٍ نقديّةٍ تعالج بعمقٍ أسبابَ اندلاع الحرب، وتطوُّرَ مراحلِها ونتائجِها، بعيدًا من نظريّة اليمين اللبنانيّ الفاشيّ والليبراليّ ("حرب الآخرين على أرضنا")، وبعيدًا من تفسير النظام السوريّ (عندما دخل لبنانَ سنة ١٩٧٦) لها بأنّها حربٌ طائفيّة. وقد تشاركتْ هاتان النظرتان، رغم الفروق البارزة بينهما، في طمس المضمون الطبقيّ والوطنيّ للحرب ولمآلها، وفي إلغاء مرحلةٍ تاريخيّةٍ غنيّةٍ بمعانيها النضاليّة والسياسيّة، وفي تأبيدِ مفاهيمَ مغلوطةٍ تسهم في إعادة إنتاج السيطرة الطبقيّة والطائفيّة وبسط أجواء الانهزام واليأس من أيّ تغيير وطنيّ وديمقراطيّ وثوريّ.
هكذا يَغيب دورُ الحركات المطلبيّة، العمّاليّة والطلابيّة، وتغيب مساهمةُ جماهير الأرياف والمناطقِ المهمَّشة في النضال ضدّ النظام السياسيّ الاقتصاديّ، وضدّ تبعيّته للخارج. والحال أنّ هذه الحركات خلقتْ حيّزًا عامًّا للنضال الديمقراطيّ الراقي في بيروت ومدنٍ لبنانيّةٍ أخرى، وأسهمتْ في إحياء الفنّ والأدبِ والموسيقى بأنماطٍ قلّ نظيرُها في العالم العربيّ والشرقأوسطيّ. وكان للقوى اليساريّة دورٌ كبيرٌ في إذكاء الذائقة الفنّيّة عند جماهير شعبنا، بكافّة طوائفه وفئاتِه، وفي إغناء اللغة بتعابيرها ومصطلحاتها اليوميّة. فكانت، مثلًا، الأعمالُ المسرحيّة ليعقوب الشِّدراوي وجلال خوري، ومسرحُ الحكواتي، ومسرحُ زياد الرحباني وفنُّه الموسيقيّ، وتلحين مارسيل خليفة لشعر المقاومة الفلسطينيّة. وفي الصحافة والرواية والشعر كان عددُ اليساريّين لا يستهان به، إذ كانت الصحفُ اللبنانيّة وملحقاتُها الأسبوعيّةُ ومكاتبُ صحفيّيها والمجلّاتُ الأدبيّة والمنابرُ الشعريّة ودُورُ النشر ومعارضُ الرسم والنحت تعجّ باليساريين.
وإنّ المرءَ ليتساءل: أكان بإمكان لبنان أن يَنْعم بهذه "الجنّة" الثقافيّة لولا دورُ اليسار، ولولا تحالفُه مع المقاومة الفلسطينيّة، والبناءُ على هذا التحالف للوصول إلى أكبر المنابر العالميّة بمثقّفيها وقواها الديمقراطيّة؟ أكان بالإمكان أن نرى اليومَ هذا العددَ المميّزَ من الأطبّاء والمهندسين، المتحدّرين من أصولٍ اجتماعيّةٍ فقيرة، لولا المنحُ الدراسيّةُ المجّانيّة التي قدّمتْها دولُ "المنظومة الاشتراكيّة" إلى اليساريين والفقراء اللبنانيين؟ مَن سيكتب عن دور الأحزاب اليساريّة ومنظّماتها الجماهيريّة، وبخاصّةٍ الحزبُ الشيوعيّ اللبنانيّ واتّحادُ الشباب الديمقراطيّ؟ مَن سيكتب تاريخَ رجالٍ ونساءٍ استُشهدوا، وهم في ريعانِ شبابهم، على متاريسِ مواجهةِ الفاشسيتَ، وفي خنادقِ مقاومةِ الصهيونيّة؟
ثمّ إنّ تجربة التلاحم النضاليّ بين شعبين عربيّين، كالفلسطينيّ واللبنانيّ، هي من التجارب النادرة في وطننا العربيّ منذ قيام دول سايكس ـــ بيكو. وقد عُمِّدتْ هذه التجربةُ بالدّم وبالتضحيات الجسام. وعلى ملصقات شهداءِ "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة" كان يُذكر أنّهم سقطوا "دفاعًا عن المقاومة الفلسطينيّة وعروبةِ لبنان وتطوّرِه الديمقراطيّ." فلماذا لا يُكتب تاريخُ هذا التلاحم الفذّ، بالتفصيل، بعدُ؟!
***
التاريخ يكتبه المنتصرون الأقوياء، كما هو معروف. وهؤلاء بدورهم يوفّرون المواردَ الماليّةَ للباحثين، ويؤمّنون لهم فرصَ العمل كي يتابعوا تطويرَ المواضيع التي تثبّت روايةَ الأقوياء التاريخيّة وتؤمِّن لها الاستمراريّةَ والسيطرة.
وفي هذا الصدد يحقّ لنا أن نتساءل عن الفئات الاجتماعيّة والسياسيّة التي ستستفيد من كتابة تاريخ الحرب الأهليّة في لبنان، وتاريخ "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة،" من وجهة نظر غير "محايدة" على الإطلاق. فالحقّ أنّ الروايات السائدة عن الحرب تَعتبر نفسَها محايدة (أو "موضوعيّة")، لكنّها تؤكّد وجهة نظر هذا الطرفِ أو ذاك. ولنا في كتاب مينارغ المذكور آنفًا مثالٌ واضح؛ فهو استند في جزئيْه إلى معلوماتٍ وتحاليلَ استقاها بشكلٍ أساسيٍّ من فادي فرام (أو إفرام)، قائدِ القوّات اللبنانيّة بين سنتيْ 1982 و1984، ومن أرشيف "القوّات اللبنانيّة" الفاشيّة. ومع ضخامة العمل وغزارةِ المعلومات التي يحتويها الكتاب، فإنّه يبقى وحيدَ الجانب، ما يحثّنا على كتابة تاريخٍ آخرَ لهذه الحرب، منحازين فيه إلى ما يدحض الروايةَ السائدة؛ فالحياد والموضوعيّة المزعومان هما وجهٌ آخرُ للانتهازيّة.
لنبدأْ إذًا بالموجود، بالمتوفّر، بالممكن. لنسعَ إلى كتابة دراساتٍ تاريخيّةٍ تعتمد على أرشيفات الأحزابِ الأخرى، كالحزب التقدّميّ الاشتراكيّ، والحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، ومنظّمة العمل الشيوعيّ، وحزبِ العمل الاشتراكيّ العربيّ، والحزب الديمقرطيّ الشعبيّ، وغيرها من الأحزاب اليساريّة والوطنيّة (أو التي كانت يساريّة). إنّ أرشيفات هذه الأحزاب تسهم في تقديم رواية متميّزة ومتعدّدة الجوانب عن الحرب، وتسهم في إغناء الذاكرة الوطنيّة، ناهيكم بأنّها تقدّم لنا الأرضيّةَ المثلى لكي نكتب تاريخَنا بأنفسنا بدلًا من أن يكتبه الآخرون عنّا ولنا ـــ كما كان يفعل المستشرقون سابقًا.
وربّما تكون المهمّةُ الأولى في هذا السياق تجميعَ المعلومات الأساسيّة عن تجاربنا أو تجارب أصدقائنا وأقربائنا وجيراننا، وتدوينَ ملاحظاتنا (ورقيًّا أو رقميًّا). فهذه الموادّ قد تكون الأساسَ لكتابة التاريخ الغنيّ المنشود: تاريخِ المجالس المحليّة التي أنشأتها الحركةُ الوطنيّةُ لإدارة شؤون الناس في ظلّ غياب الدولة، وتاريخِ اللجان الشعبيّة في الأحياء (صيدا نموذجًا)، وتاريخِ لجانِ المستوصفات، ولجانِ الأمن الشعبيّ والمقاومة الشعبيّة (الشويفات نموذجًا)، ولجانِ الأفران والطحين (بيروت نموذجًا)، ولجانِ النظافة والصحّة العامّة (المستشفى الوطنيّ ـــــــ عاليه)، وتاريخِ المجالسِ السياسيّة في المناطق والمدن، إلى ما هنالك من هيئاتٍ وأطرٍ ونوادٍ تعجز الذاكرةُ الآن عن استحضارها زمانيًّا ومكانيًّا.
ولنبدأ أيضًا بتسجيل تجاربِ قيادات "الحركة الوطنيّة" من الصفّ الأوّل والثاني والثالث، من الذين لا يزالون على قيد الحياة: كجورج البطل، وفوّاز طرابلسي، وعصام نعمان، وسمير صّباغ، ومحمود عبد الخالق، وألبير منصور، وموريس نهرا، وفاروق دحروج. ولئن أصبح بعضُهم من "محبّي الحياة" بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، فقد كانت لهم، في يومٍ من الأيّام، تجربةٌ لا أظنّ أنّهم سيَخجلون من سردها لنا.
ولنحفظْ تاريخَ قياداتٍ شامخةٍ كانت عمادَ الحركة النقابيّة في لبنان، وتاريخَ رموزِ "حركة القوميين العرب" الذين تحوّلوا إلى الماركسيّة وكان لهم الفضلُ الأبرزُ في تلاقح المسألتين الوطنيّة والاجتماعيّة: كنزيه حمزة، ومحسن إبراهيم، وحسين حمدان.
ولنستفِدْ أيضًا من بعضِ ما هو متوفّر حاليًّا، مثل مذكّرات منشورة لمناضلين سابقين، بالإضافة إلى ما يمكن أن نجده في أرشيف الصحف المحلّيّة ومكتباتِ الجامعات الأساسيّة.
إنّ هذه لمهمّةٌ كبيرةٌ بلا شكّ، ويعجز باحثٌ أو باحثةٌ عن أن يقوما بها بمفردهما. لكنّني أعتقد أنّ الأحزاب اليساريّة العريقة تستطيع أن تساهم، ولو جزئيًّا، في هذا العمل الضخم والمهمّ. ثمّ إنّ الهدف من هذا المشروع معنويّ أيضًا، ألا وهو: تحريكُ الدماء الراكدة في شرايين هذه الأحزاب، وإلهامُها لكتابة تاريخها المطموس.
***
حاولتُ في هذه المقالة، وفي مناسبة ذكرى الحرب الأهليّة، أن أشير إلى أهميّة تأريخ تجربةٍ مهمّةٍ عاشها جزءٌ كبيرٌ من شعبنا اللبنانيّ، فضلًا عن أشقّائه الفلسطينيّين المقيمين على أرضه. كما أردتُ التنويهَ بمحاولة التغيير الديمقراطيّ التي لاح أفقُها في أواخر القرن الفائت، مستعرضًا ـــ ولو جزئيًّا ـــ أوّلَ محاولةٍ جديّةٍ لوحدة شعبيْن عربيّيْن تعمّدتْ بالدّماء، وتميّزتْ عن كلّ محاولات الوحدة السابقة التي أدارتها أنظمةٌ عربيّةٌ وفرضتْها بشكلٍ مصطنعٍ وجامدٍ وفوقيّ.
إنّ توثيقَ حرب السنتين، ودراستَها من وجهة نظر اليسار الوطنيّ الديمقراطيّ اللبنانيّ والمقاومة الفلسطينيّة، أمران بالغا الأهمّيّة لأنّهما سيسهمان في دحض الروايات اليمينيّة و"الموضوعية" الزائفة السائدة عن الحرب، وفي التأسيسِ لمعرفة نوعيّة بتاريخ لبنان الحديث؛ معرفةٍ تَحفظ لجيلٍ من شعبنا كرامةَ دوره في بناء مجتمعٍ أفضل، يقوم على عَلمانيّةٍ متطوّرةٍ ومتلائمةٍ مع ظروف المجتمع اللبنانيّ وخصوصيّته.
إنّ تجربة "دولة الطائف" وإخفاقاتِها المتكرّرة، وعجزَ النظام النيوليبراليّ ـــــ الحريريّ عن حلّ المشاكل المتفاقمة، يقدّمان تسويغًا إضافيًّا للقيام بدراساتٍ كهذه قد تسهم في بناءِ بدائلَ نظريّةٍ للنظام الطائفيّ الفاسد القائم. لقد انتهت تجربةُ "الجمهوريّة الأولى" بنُفاياتٍ نوويّة، وهاهي تجربةُ "الجمهوريّة الثانية" تشرف على الانتهاء بنفاياتٍ منزليّةٍ وعضويّة. وإنّ نظامًا عاجزًا عن حلّ مشكلة النفايات سيعجزُ عن أن يحلّ مشكلاتٍ أكثرَ تعقيدًا. ومن هنا أهميّة الغوص في تاريخنا القريب، وعلى رأسه تاريخ "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة،" من أجل استنباط ما يُعيننا على بناء البديل الوطنيّ الديمقراطيّ العربيّ الحقيقيّ.
مونريال