طِفْليات (إلى وفاء معلّمتي)
15-10-2016

 

 

سطو

 أبي جُنّ. لا أدري لماذا. أذكر أنّه كان متّزنًا خلال سنواتي الستّ التي بلغتُها من عمري. يعمل في الضيعة، يقطف البرتقال، ويملأ به الصناديقَ، ويعبّئ بها الشاحنة. لا تفارقه سلّتُه المشبّكةُ التي يعلّقها على كتفه طوال اليوم. جُنّ، فراح، وبقيتْ سلّتُه معلّقةً عند مدخل البيت، إلى يسار الباب، على الحائط الآجوريّ الذي لم يستطع أن يطليه بالإسمنت لقِصَرِ ذاتِ يده، ولتعدُّدِ الأفواه التي يَعُولها بلا شريك: أنا وأمّي، وأخوين لي صغيرين.

بعد أسبوع على غيبته، اقتحم علينا البيتَ عمّي وزوجتُه وأولادُه، واستعمروا غرفَنا. ولم يُبْقوا لنا غيرَ غرفةٍ مظلمةٍ في عمق البيت، نتكدّس فيها ليلًا ونهارًا. نذهب إلى المدرسة من دون أن نعرف لماذا نُتعب أنفسَنا بذلك. وأمّي لا تغادر البيتَ أبدًا؛ فلو فعلتْ فسوف نجد أنفسَنا في الشارع بلا مأوى. عمّي هدّدها بذلك، وقال لها إنّ الدار دارُه بعد أن طفش أبونا، ومن حقّه أن يرثَها ومَن فيها. هو يضرب أمّي، ويمزّق ثوبَها، ويدفعها إلى الباب ليخرجها، وهي تقاومه. وزوجتُه تمسك بنا، وتكدّسنا أحدنا على الآخر باكين، وتمنعنا من أن ندافع عنها. أبوه، أيْ جدّي، سكّير لا يفيق من سكره، يجلس في الفناء، يدخّن سيجارتَه، ويلعن باستمرار. حتّى حاجته يقضيها في الطست البلاستيكيّ الذي يرميه قريبًا منه، ولا أحد يفرغه ممّا فيه ويغسله إلّا أنا. عندما أكبر، سوف أطعن عمّي بمديةٍ حادّة.

 

رحيل

 خرجتُ من المدرسة الساعة الثانية عشرة، ووجهتي المعهودةُ بيتُنا. دفعتُ بابَه المتهرّئ، فانفتح على الفراغ. ناديتُ: "أمّي!" فردّدت الغرفُ الفارغةُ الصدى المخيف. المفروض أن تجيبني أمّي، فتقول لي مثلًا إنّني عدتُ مبكّرًا من المدرسة، أو تسألني عن سبب خروجي قبل الوقت، وفي أحسن الأحوال تطلب منّي أن أعودَ إلى دكّان الحسين البخيل لأحضرَ الخبز. لا يمكن أن يكونوا قد رحلوا. درتُ في أرجاء البيت. رائحته هي هي، لا تغادر أنفي، وإن ابتعدتُ عنه أميالًا. خارت قواي. أثاثُ بيتنا قليل، والمواعين كذلك، لكنّها لا يمكن أن تختفي بهذه السرعة. عندما خرجتُ في السابعة، من دون أن أتناول فطوري، لأنّ أمي كانت لا تزال في نومها غاطّةً، وأبي يبكّر إلى الضيعة بعيْد الفجر، كان كلُّ شيء في مكانه. ولا علامة تنبئ بأنّ تغييرا من هذا الحجم سوف يحدث.

أتممتُ طوافي في البيت، ثمّ جلستُ في الفناء. أبكي وأنا أتلفّت ناحية أبواب الغرف الفارغة، علّ قطّتي تخرج فتخبرني بما وقع. فجأةً، سمعتُ الحسين ينادي عليًّا. وقفتُ على عتبة الباب. أمرني أن أخرج، وأذهب معه إلى المحلّ. أخبرني أنّهم رحلوا في الصباح إلى بيتٍ جديدٍ في حيّ قريب، وأنّ أبي سوف يأتي مساءً ليأخذني معه. تساءلتُ ما الذي سوف يطعمنيه الحسين في دكّانه حتّى يصل المساء؟

 

عادة

لا أدري أين يقضي لياليه. لكنّي، على الرغم من صغر سنّي، أشعرُ به عندما يعود ليلًا في الساعة نفسها. أسمع صعودَه الحائط، ثمّ جلوسَه ثوانيَ على حافّته، ربّما ليتأكّد من أنّ الجميع يغطّ في النوم. يقوم ماشيًا على أصابع قدميه، متوجّهًا صوب الغرفة البئيسة التي نتكدّس فيها، نحن الأولاد، كالسردين المعلّب. هامتُه الطويلة السوداء تزحف ببطء، حتّى تستقرّ في موضعها في الركن القصيّ. يتمدّد هناك، من دون أن يزيل عنه حذاءه، وينام. في الصباح نقوم جميعًا: أبي إلى العمل، أمّي إلى الضيعة، نحن الأطفال إلى المدرسة، نتركه حيث هو. وعندما نعود، كلٌّ منّا في وقتٍ معلوم، لا نجده. لا شيء غير بقايا أوانٍ متّسخةٍ تناول فيها إفطاره. ليلًا، يعود كما هي عادته دائمًا، في الساعة نفسها. أسمعُ صعودَه. أمّي لا تسأل عنه، وأبي يلعنه إذا حدث أن جمعتْنا المائدة.

هو أخي، لم أسمع صوتَه قطّ. ولم أرَ لون عينيه.

 

سفر

لم يخبراني بشيءٍ ليلةَ سفرهما. قاما في الصباح قبيْل ذهابي إلى المدرسة، وارتديا ملابسَ جديدةً، وحملا حاجيّاتٍ خفيفةً في حقيبتهما الجلديّة السوداء. تناولا إفطارهما من دوننا، نحن الأطفال. سمعتُهما يمضغان الطعام. رائحة البيض المقليّ في زيت الزيتون أثارت الجوعَ في نفسي. الشاي المنعنع فتح شهيّتي. لكنّني ما زلتُ تحت الغطاء. أزحتُه عن رأسي، فبدوَا لي في كامل بهجتهما. مسحتُ على عينيّ وتنهّدت. التفتتْ أمّي إليّ، واقتربتْ منّي وهي ما تزال تمضغ:

ــــ سنسافر إلى دمنات. كوني عاقلة واعتني بإخوتك.

لم تقبّلني على خدّي. حوّلتُ نظري إلى أبي الذي قام، وجرّ الحقيبة. لحقتْ به أمّي، وسمعتُ البابَ يصطفق بخبث.

ماذا أفعل الآن؟

سأقوم وأعدُّ فطورَ إخوتي الصغار، ونذهب جميعًا إلى المدرسة. ثمّ أعتني بهم كما أمرتني أمي، اليومَ وغدًا وبعده... وعلى مدى عطلتهما التي لا شكّ في أنّها ستمتدّ أسبوعًا أو اثنين. ليلًا، عندما أنهي واجباتي البيتيّة، سأُنجز واجباتي المدرسيّة التي يُثقلنا بها المعلّمُ القاسي.

في اليوم الثالث، رأيتُني أسقط في المطبخ، مغمًى عليّ. رأيتُني وكأنّني في حلم. لم يكن حلمًا، كان ضبابًا أسود كثيفًا باردًا. رأيتُ جارتنا رقيّة تمسح عرقي، وتشمّمني بصلةً مفرومةً. عندما استيقظتُ، وجدتُني في فراشي وإخوتي الصغار يحيطون بي، وهم جاحظون. قلت لهم "دعوني أقُمْ، لا بدّ أن أعتنيَ بكم حتّى عودتهما من السفر." فتبسّموا بلا حراك.

أكادير (المغرب)

 

كريم بلاد

كريم بلاد: كاتب من المغرّب، وأستاذ التعليم الثانويّ، تخصّص اللغة العربيّة وآدابها. له روايتان: أوان الحب.. أوان الحرب (2014) وغواية السواد (2016).