أحمد مصطفى جابر: كاتب وصحفيّ فلسطينيّ مقيم في مصر. من مؤلّفاته: اليهود الشرقيون في إسرائيل: جدل الضحيّة والجلاّد (2004)، بيان من أجل المرأة: ضدّ العنف والتمييز (2005)، اللاجئون الفلسطينيون الشباب: الحاجات ـ الهوية ـ المشاركة (2006).
نشأتْ فكرة "الدولة الفلسطينيّة" مع بدايات الصراع الوطنيّ الفلسطينيّ ضدّ الانتداب البريطانيّ (1922 ــ 1948) من جهة، وضدّ الهجرة اليهوديّة من جهةٍ أخرى. وكان الوعي بـ"تقرير المصير" بارزًا وناضجًا منذ العام 1922 على الأقلّ؛ وهذا ما يتجلّى في مَحاضر جلسات الوفد العربيّ الفلسطينيّ إلى لندن، وتحديدًا في محضر جلسة 9/8/1921، إذ جاء في الفقرة الأولى من البيان ما نصُّه: "طلبُ تشكيل حكومة وطنيّة مسؤولة أمام مجلسٍ نيابيّ منتخَب من السكّان الفلسطينيين الذين كانوا في البلاد قبل الحرب (العالميّة الأولى)"؛(1) ويتجلّى كذلك في ردّ الوفد الفلسطينيّ على مشروع "دستور فلسطين" الذي أصدرته حكومةُ الانتداب ذلك العام؛(2) كما وردتْ في الفقرة (د) من قانون الحزب العربيّ الفلسطينيّ، الصادر يوم 24/4/1935، عبارةُ "قوميّة سياسيّة مستقلّة استقلالًا تامًّا."
إلّا أنّ القيادة العربيّة الفلسطينيّة اتّسمتْ بالتخبّط وعدمِ القدرة على تبنّي إستراتيجيّات واضحة والسير بها إلى النهاية. فبينما اقترحت اللجنةُ العربيّة العليا (برئاسة الحاجّ أمين الحسيني) إلغاءَ الانتداب البريطانيّ لتحلَّ محلَّه دولةٌ فلسطينيّةٌ ترتبط مع بريطانيا بمعاهدةٍ تَضْمن لها "مصالحَها المعقولة،" وتضْمن مصالحَ الأقليّة اليهوديّة، عادت هذه اللجنةُ ورفضت الاقتراحَ عندما تبنّت بريطانيا قيامَ دولة فلسطينيّة مستقلّة تحت حمايتها على أساس الاستقلال المؤجّل عشرَ سنوات، بحسب الكتاب الأبيض للعام 1939. وأيًّا يكن الأمر فقد أُجهضتْ هذه الأفكار مع إعلان قيام دولة "إسرائيل" واحتلالِ الحركة الصهيونيّة ــ بدعم من بريطانيا ــ 78 % من الأراضي الفلسطينيّة.
تبلورتْ فكرةُ "الدولة المستقلة" بعدّة أشكال. وعادت إلى الظهور منذ بدء المفاوضات بشكلٍ خاصّ، مدخلًا إلى "حلّ الصراع" و"التسوية الشاملة." والملاحظة الجدّيّة على هذه الفكرة ترتكز إلى الخلط بين المفاهيم، ووضعها أحيانًا في سلّةٍ واحدة أو على سبيل المبادلة؛ فيقال مثلًا: "دولة ديمقراطيّة علمانيّة" أو "دولة ثنائيّة القوميّة" أو "دولة مواطنين" مقابل "دولتين لشعبين"... في تجاهلٍ للمرجعيّات المختلفة، الفكريّةِ والسياسيّة، لكلّ من هذه الأفكار والنماذج المطروحة. وهذا النصّ يسعى إلى قراءة معمّقة في فكرة "الدولة الفلسطينية المستقلّة القائمة على أساس مبدأ دولتين لشعبين" كما ظهرتْ في الفكر السياسيّ الفلسطينيّ والإسرائيليّ؛ ومن ثمّ مناقشة فكرة "الدولة الواحدة الديمقراطيّة العلمانيّة" كما ظهرتْ في هذين الفكرين.
أولًا: الدولة الفلسطينيّة المستقلة ضمن حدود 1967: في الضرورة والإمكانيّة والاستحالة
يكتسب سعيُ الشعب الفلسطينيّ إلى دولة مستقلّة ضمن حدود 1967 مشروعيّتَه من عدّة نقاط، أهمّها: 1) حقُّه في توطين هويّته السياسيّة في جغرافيا محدّدة. 2) تراجُعُ التأييد العمليّ له، بحيث يجد هذا الشعبُ نفسَه في وضعٍ لا يسمح بترف الانتظار. 3) التوسّع الاستيطانيّ الصهيونيّ على حساب الأرض. 4) مرارة عيش هذا الشعب في كنف النظام الأمنيّ العربيّ، ما يجعله يقاتل بكلّ قواه من أجل دولةٍ تخصُّه ويحمل جوازَ سفرها وتُشبع حاجتَه إلى السيادة والمواطنة. ورغم أنّ جوهرَ المشكلة هو مسألة اللاجئين، فذلك لا يعني عدمَ السعي إلى تمكين نازحي 1967 من العودة، ولا يعني ربطَ مصير الضفّة والقطاع بمصير الأراضي المحتلّة سنة 1948، وإنْ كان ذلك صحيحًا بالمعنى الإستراتيجيّ .
أــ في تاريخ فكرة "دولة فلسطينيّة مستقلّة إلى جانب إسرائيل." كان أوّل نصّ قانونيّ لإقامة هذه الدولة هو القرار 181 بتاريخ 29/11/1947. والقرار (المشكوك في أخلاقيّته بعد الكشف عن أرشيفات تلك الفترة) حاز رفضًا عربيًّا جامعًا، وكان التيّار الشيوعيّ هو وحده في إطار الفكر السياسيّ الفلسطينيّ الذي تمسّك بإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة إلى جانب الدولة اليهوديّة في إطار القرار المذكور.
وعندما تحقّقتْ الوحدةُ بين مصر وسوريا في شباط 1958 رَفعتْ دولةُ الوحدة شعارَ "الوحدة طريق تحرير فلسطين." وقد وجّه المؤرِّخ الفلسطينيّ محمد عزّة دروزة في 9/3/1958 مذكّرةً إلى الرئيس جمال عبد الناصر يطلب فيها إعلانَ قيام جمهوريّة فلسطينيّة في قطاع غزّة تنضمّ إلى الجمهوريّة المتّحدة. لكنّ الدعوة لم تجد أيَّ صدًى.
وفي العام 1974، جاءت النقلةُ الأخرى، التي سنعتبرها التحوّلَ الأخطرَ الذي ترك آثارَه السلبيّةَ في كلّ المسيرة السياسيّة اللاحقة. فقد أقرّ المجلسُ الوطنيّ الفلسطينيّ في دورته الثانية عشرة (القاهرة، 1-8/6/1974) البرنامجَ السياسيّ المرحليّ، المعروف بـ برنامج النقاط العشر، وهو البرنامج الذي أسّس فعليًّا لمسار "حلّ الدولتين" في الفكر السياسيّ الفلسطينيّ.
هذا الاتجاه السياسيّ، الذي أدّى إلى انقسام منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإقامة "جبهة القوى الفلسطينيّة الرافضة للحلول الاستسلاميّة،" تعزّز في الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطينيّ الذي انعقد في القاهرة أيضًا (12-22/3/1977)، وليتعزّز معه طرحُ البرنامج المرحليّ، ولينطلق برنامجُ النقاط الخمس عشرة الذي هو في الجوهر صياغةٌ جديدةٌ أقرّها المجلسُ أساسًا للتوجيه السياسيّ لتلك للمرحلة. ففي هذه الدورة أكّد المجلسُ "حقّ الشعب الفلسطينيّ في إقامة دولته المستقلّة فوق ترابه الوطنيّ،" وبرز الحديثُ عن "الدولة في الضفّة والقطاع" وعن "حقّ اللاجئين في العودة إلى وطنهم بحسب القرار 194."
هكذا كانت قرارات 1974، ومن ثمّ قرارتُ 1977، بدايةَ إقرار فلسطينيّ رسميّ بنتائج حرب 1948، وموافقة رسميّة فلسطينيّة على الطرح الإسرائيليّ الذي يتضمّن القول إنّ أيّة تسوية ستكون استجابةً للمشكلات التي طرحتْها حربُ 1967 لا ما قبلها. وهو ما عنى للفلسطينيين عدة أمور. أوّلُها انتقالُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة من كونها حركةَ تحريرٍ لفلسطين كلِّها وحركةَ لاجئين أصلًا، إلى حركةٍ تسعى إلى استقلال المناطق المحتلّة عام 1967 فقط. الأمر الثاني هو التخلّي ضمنًا عن فلسطينيّي 1948، وتركُهم للمشروع الصهيونيّ ليُكمل معهم ما بدأه. والأمر الثالث هو بداية تحويل مشكلة اللاجئين من قضية جوهر إلى "مشكلة مفاوضات."
نوايا قيادة منظمة التحرير، بما في ذلك تأكيدُ انصرافها عن الاستراتيجيّ إلى المرحلي خيارًا أخيرًا ونهائيًّا، اتّضحت بالموافقة على مبادرة الأمير فهد، وليّ العهد السعوديّ في حينه. ونصّت المبادرة (7/8/1981) على إقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع، وعاصمتُها القدس. هذه المبادرة رفضتها مصر، متمسّكةً بكامب ديفيد، وتحفّظتْ عنها سوريا والعراق.(3)
هذا التحوّل ازداد تعميقًا عبر اتفاقيّات أوسلو في العام 1993. فهي لم تقتصرْ على القبول بحكم إداريّ ذاتيّ محدود، بل أدّت أيضًا إلى زيادة التخلّي عن فلسطينيّي 1948، عبر إعلان الاعتراف المجّانيّ بإسرائيل. كما أنّ هذا التحوّل عمّق أزمةَ اللاجئين الفلسطينيين في علاقتهم بمنظّمة التحرير؛ إذ تحوّلتْ قضيّتُهم إلى مشكلة "نقاشٍ لغويّ" حول تفسير القرار 194 في منتجعات كندا، بعد أن كانوا وقودَ الثورة التي قضّت مضاجعَ العالم. وكان لهذه الصدمة أن تخلق الشرخَ الأساسَ في القضيّة الفلسطينيّة، لا على مستوى السياسة فقط، بل على مستوى روح الشعب أيضًا.
والحقّ أنّ أربعة عناصر ساهمتْ في تبلور خيار القيادة الرسميّة لمنظّمة التحرير بتبنّي "فكرة الدولتين." تمثّل الأوّل في هزيمة النظام العربيّ سنة 1967، واحتلالِ ما تبقّى من فلسطين، مع بزوغ إطار التحوّل نحو "جدول أعمال حيويّ" (المصطلح لرائف زريق) يتركّز على استرداد ما احتُلّ سنة 1967. الثاني نفسيّ، مرتبط بتلك القيادة، التي أصابها مع الهزيمة نوعٌ من الإحباط واليأس جعلها ترجو "خلاصًا" بأيّ ثمن. أما العنصر الثالث فذو طبيعة قانونيّة دوليّة، تمثّلتْ في القرار 181 لسنة 1947، المعروف بقرار التقسيم. والعنصر الرابع إيديولوجيّ، خاصّ برفض إسرائيل لفكرة "دولة ديمقراطيّة علمانيّة."
غير أنّ السبب الأول هو الأهمّ، بسبب انضواء منظّمة التحرير في هيكليّة النظام العربيّ الرسميّ منذ العام 1974. كما أنّ احتجاج المنظّمة برفض إسرائيل لفكرة "الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة" لا معنى له لأنّها كانت ترفضه أصلًا؛ وقيامُها سنة 1948 على أنقاض فلسطين، ثم اجتياحُها الضفّةَ الغربيّة وقطاعَ غزّة في العام 1967 دليلان آخران. فلماذا تأخّر طرحُ المنظمة حتى العام 1974؟ الأرجح أنّ تغييرًا جذريًّا طرأ على جدول أعمال المنظّمة، ويعود في الجوهر إلى حرب 1967 وما أنتجتْه من ظروفٍ تتعلّق بموازين القوى بين إسرائيل الصاعدة والعرب المهزومين، وانخفاض سقف الطموح القوميّ، وارتفاع شعارات "الواقعيّة" و"تمرحل النضال."
ب ــ هل الدولة الفلسطينيّة المستقلّة إلى جانب إسرائيل، كما هي مطروحة الآن، قابلة للحياة؟ إنّ التشكيك الكبير والجدّيّ في إمكانيّة "حلّ الدولتين" نابعٌ من الشروط المطلوبة لإقامة دولة فلسطينيّة قابلةٍ للحياة على الأراضي المحتلّة سنة 67، أيْ ما يساوي 22 % تقريبًا من فلسطين التاريخيّة.
هناك عناصرُ ثلاثة يجب وضعُها في الحسبان قبل الدخول في نقاش هذه الإمكانيّة. الأوّل يتعلّق بفقدان "التواصل الجغرافيّ" في أراضي 67. العنصر الثاني هو السيطرة الإسرائيليّة الشاملة على الموارد، ما يُبقي الاقتصادَ الفلسطينيَّ مرتهنًا للكيان الصهيونيّ، سواءٌ بسبب الظروف التي خلقها استمرارُ الاحتلال خمسين عامًا، أو بسبب الاتفاقيّات الموقّعة في باريس وغيرها. العنصر الثالث هو وجود الحدود في يد "إسرائيل" بالكامل.
غيرأنّ العامل الأمريكيّ أساسٌ في طرح "فكرة الدولتين" وتطبيقها، وهو ما تجلّى في الجلبة التي أثارتها تصريحاتُ دونالد ترامب (بعد تنصيبه رئيسًا) بخصوص الدولة الفلسطينيّة. وبالنسبة إلى الأمريكان، فإنّ عنصرين ساهما في تفعيل لغة الحديث عن هذه "الدولة" من دون المساس بثوابت موقفهم الأصليّ الرافض للفكرة. أوّلُها النموّ الديمغرافيّ الفلسطينيّ، بعد نفادِ آخرِ روافد الهجرة من الاتحاد السوفييتيّ السابق. وثانيها عجزُ إسرائيل عن الاستمرار دولةَ احتلال في المناخ العالميّ الحاليّ. وعمومًا، هناك انقسام لدى الساسة الأمريكيين تجاه الدولة الفلسطينيّة: فهناك أتباعُ "مذهب شارون القديم،" وخلاصتُه أنّ الأردن هو الدولة الفلسطينيّة؛ وهناك أتباعُ "مذهب شارون الجديد،" القائلِ بفرض حكم ذاتيّ فلسطينيّ بلا سيادة على 13 % من فلسطين.
والحقّ أنّ "فكرة الدولتين،" كما هي مطروحة حاليًّا، ستضرب عصفورين بحجرٍ واحد، ولمصلحة إسرائيل طبعًا: إذ ستتخلّص من مشكلة اللاجئين، وستُسكت أسئلةَ فلسطينيي الـ48 نهائيًّا. فالمشروع الصهيونيّ حاليًّا يتركّز على "دولة يهوديّة وديمقراطيّة،" ما يعني مطابقةَ "الديمقراطيّة" مع أغلبيّة يهوديّة. وهذا يؤدّي إلى "سلام" أوسلو: لا يخلّ بالتوازن الديمغرافيّ بل يعالج "ثغراته،" ويسحب الفلسطينيين إلى حيث لا يستطيعون تهديدَ المشروع الإسرائيليّ. ولذلك، وبسبب الطموحات الإسرائيليّة والعجز الفلسطينيّ، تحوّلتْ "فكرةُ الدولتيْن" من فكرةِ حلّ (مهما كانت نسبةُ وجاهتها) إلى طريقٍ لفصل المستعمِر عن المستعمَر، كما يعبِّر إيلان بابِه. وفي هذا السياق لا يمكن اعتبارُ سياسات من نوع بناء جدار الفصل العنصريّ، والانسحاب من غزّة، إلّا في خدمة المشروع الصهيونيّ وفكرةِ الفصل والاستثناء العنصريّة.
على صعيد آخر، فإنّ تقزّم المشروع التاريخيّ للفلسطينيين إلى فكرة "الدولتين" يشكّل خطرًا شديدًا عليه، إذ يتمّ التعاطي مع الوضع الفلسطينيّ بالارتكاز على "خطاب الحقوق" فقط:(4) حقّ عودة اللاجئين، وحقّ تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلّة على الضفّة والقطاع، وحقوق متساوية للفلسطينيين داخل "إسرائيل" (فلسطين 48). ويعتبر رائف زريق أنّ إيلاء الأولويّة "خطابَ الحقوق" (في المطالبة الفلسطينيّة بالعدالة) ينطوي على بعض المخاطر لأنه يستلزم التخلّي عن الإطار التاريخيّ، والتخلّي عن معالجة الخسائر العظمى.(5) وسنجد أنّ انحدارَ القضيّة الفلسطينيّة من مسألة لاجئين إلى إقامة "دولة مستقلّة في الضفة والقطاع" يجعلنا نلحظ ــــ على ما يرى زريق ــــ كيف أنّ هذه القضيّة تتعرّض "للتهويد،" بمعنى إعادة صياغتها وفقًا لنموذج المسألة اليهوديّة، حيث المهمّ هو تقريرُ المصير وإقامةُ الدولة والسيادة؛ وفي هذا النموذج "يأتي الوطن قبل الدار،" و"الحقوقُ الجماعيّة قبل الحقوق الفرديّة."
إنّ "حلًّا" من هذا النوع لن يكون أكثرَ من الهدوء الذي يسبق العاصفة. وهذا يعود إلى: 1) تعارضه مع تاريخيّة وحدة إقليم فلسطين؛ 2) إيجاده كيانين تتسم العلاقةُ بينهما بجملة من التعقيدات؛ 3) التداخل السكّانيّ المعقّد بينهما؛ 4) تأكيد إسرائيل استحالةَ قبولها بحقّ العودة إلى حدود 48، بل باستحالة تطبيقه على أراضي الضفّة الغربيّة وغزة أيضًا.
ج ــ عوامل الإيجاب الإسرائيليّة في إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة. وهي أربعة:
* رغبة إسرائيل في التخلّص من عبء الديمغرافيا الفلسطينيّة الصاعدة، ومن عبء الاحتلال. الجدير ذكرُه أنّ الحماس الصهيونيّ للدولتين لأسبابٍ ديمغرافيّة برز منذ العام 1980، حين أصدر أستاذان في الجامعة العبريّة (دوف فريدلاند وكالفن غولدشير) دراستهما، سكّان إسرائيل، واستنتجا ما يأتي: على الرغم من الهجرة اليهوديّة الكبرى إلى إسرائيل، فإنّ نسبةَ الولادات العالية بين العرب ستؤدّي إلى تآكل الأغلبيّة اليهوديّة خلال سنواتٍ قليلة، إذ سيكون في العام 2010 عددُ سكّان إسرئيل 10 ملايين لا يشكّل اليهود بينهم أكثرَ من 45 %. وهذه الدراسة أسّستْ لحماس حزب العمل الإسرائيليّ لخيار الدولتين بهدف الحفاظ على الطابع اليهوديّ للدولة، بل استخدم حزبُ العمل هذه المعطيات فزّاعةً في وجه معارضي أوسلو.
* رغبة إسرائيل في التخلّص من مسألة اللاجئين، عبر إحالتها على الدولة الفلسطينيّة الموعودة. أمّا مسألة التعويض فكان يؤمل أن تُحلّ عبر صندوق مساهماتٍ دوليّ لن يكلّف إسرائيلَ شيئًا.
* رغبة إسرائيل في الاندماج في المنطقة والإقليم، بإظهار نفسها دولةً "طبيعيّةً" بحدود واضحة. وهو ما سيمهِّد لها السبيلَ إلى مشروعها الهيمنيّ كبؤرةِ قيادةٍ اقتصاديّةٍ وأمنيّةٍ في المنطقة.
* خشية إسرائيل من تنامي الدعوات الإسرائيليّة والفلسطينيّة (مع الفرق بينها) وتلاقيها باتجاه القول بـ"استحالة إقامة دولتين" في فلسطين التاريخيّة، مع ما يعنيه ذلك من نهايةٍ للمشروع الصهيونيّ ولفكرة "الدولة اليهوديّة."
د ــ عوامل السلب في الموقف الإسرائيليّ من إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة. وهي ثلاثة:
* العامل الديمغرافيّ من جديد، لكنْ بصيغة أخرى. فإسرائيل تخشى من سيطرة فلسطينيّة تمتدّ عبر الأردن إلى الضفّة وغزّة. وفي حال إقامة دولة فلسطينيّة، فستكون هناك "دولتان فلسطينيتان" حسب مذهب شارون القديم. يضاف إلى ذلك أكثرُ من مليون فلسطينيّ داخل فلسطين 48 نفسها. وهذا الضغط والحصار الديمغرافيّ المتصاعدان سيشكّلان، في رأي إسرائيل، خطرًا كبيرًا على يهوديّتها ووجودها.
* العامل الاقتصاديّ. إنّ إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة ستشكّل خسارةً لاقتصاد إسرائيل المهيمن. لذلك فإنّ صيغة الحكم الإداريّ المحدود حسب أوسلو، بتطبيقاته الإسرائيليّة طبعًا، هي الحلُّ الأفضل لإسرائيل.
*العامل الإيديولوجيّ. فالتخلّي عن "أرض الميعاد" في الضفة الغربيّة سيصيب التيّارَ الإيديولوجيّ في الحركة الصهيونيّة ويؤدّي إلى انقسام فيها.
ثانيًا: الدولة الواحدة بشقّيها: الديمقراطيّة العلمانيّة، والثنائيّة القوميّة
يتضمّن تعريفُ "الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة على فلسطين التاريخيّة" مستوييْن من المضامين: الأوّل يتعلّق بوضع المواطنين الأفراد في هذه الدولة، والثاني يتعلّق بوضع المكوِّنات الدينيّة أو القوميّة فيها. وهذه الصيغة تحمل الكثيرَ من التأويل، خصوصًا حيال ما سينشـأ من تناقضٍ بين حقوق المواطنين الدستوريّة وما تتطلّبه منهم انتماءاتُهم الدينيّة، ما سيعكس إشكالاتٍ وتعقيداتٍ عاشتها دولٌ عديدةٌ خاضت تجاربَ مشابهة.
أما خيار "الدولة الثنائيّة القوميّة" فلعلّ أفضلَ تعريفاتها هو تعريفُ كمال الخالدي، الذي يرى أنّ "ثنائيّة القوميّة" مفهومٌ سياسيّ لنظامٍ حكوميّ، يشترك فيه شعبان في النظرة إلى الدعائم الأساسيّة التي تكوِّن الدولة، ولا يعتمد اشتراكُهما في إدارة مؤسّسات هذه الدولة على قوّةِ كلٍّ منهما، بل على النوايا الحسنة والتسامح.(6)
المشترك، إذن، بين الدولة "الديمقراطيّة العلمانيّة" والدولة "الثنائيّة القوميّة" هو الإصرارُ على التمسّك بوحدة أرض فلسطين التاريخيّة، على أرضيّة العيش المشترك، سواء كمواطنين متساوين في النموذج الأول، أو كقوميّتيْن متساويتيْن في النموذج الثاني. أما الفارق المركزيّ فيتجسّد في علاقة المواطنين بالدولة، بمعزلٍ عن انتمائهم إلى أيّة جماعة دينيّةٍ أو عرقيّة، في حالة الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة الواحدة؛ أمّا علاقة المواطنين بالدولة في حالة "الثنائيّة القوميّة" فتستند إلى عضويتهم في إحدى القوميتيْن لا إلى حقّ المواطنة المطلق. وأظن أنّ الأفكار والمشروعات التي طُرحتْ حول هاتين النظريتيْن قد تداخلتْ حتى بتنا أحيانًا إزاء نظريّة واحدة تجمع بينهما.
أ ــ نظرة في تاريخ الأفكار.
1) الجانب الفلسطينيّ. ظهر مصطلحُ "دولة ديمقراطيّة وعَلمانيّة" في الأدبيّات السياسيّة الفلسطينيّة منذ أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، حين طالبت العضويّةُ العربيّةُ في الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ بدولة ديمقراطيّة لجميع سكّان فلسطين من دون تمييز، على أساس "الصوت الواحد للشخص الواحد." غير أنّ هذا الطرح لم يُفلحْ في نيل موافقة العضويّة اليهوديّة في الحزب، التي كانت ترى أنّ التجمّع اليهوديّ في فلسطين قد تبلور اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا بحيث بات يشكّل "قوميّةً" في دور التكوين، لها الحقُّ في تقرير مصيرها. وفي تقديري أنّ هذا الرفض كان يعكس اندراجَ المجموعة اليهوديّة في الحزب ضمن الأجندة الصهيونيّة، مع العلم أنّ "حقّ تقرير المصير" الذي نادت به كان محصورًا لديها في إطار دولةٍ ثنائيّةِ القوميّة؛ وهو ما يتعارض مع طرح الحركة الصهيونيّة التي كانت تنادي بإقامة دولة يهوديّة في فلسطين ولو على جزءٍ منها. وقد تطوّر هذا التباينُ (مع أسباب أخرى) إلى تفكّك الحزب سنة 1942، ثمّ ورثتْ "عصبةُ التحرّر الوطنيّ" التي شكّلتها المجموعةُ العربيّةُ الخارجةُ من الحزب سنة 1943 فكرةَ "الدولة الديمقراطيّة" لمعالجة القضيّة الفلسطينيّة.
الجدير ذكرُه أنّ وفد الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ ــ الجناح اليهوديّ طرح سنة 1947 أمام لجنة التحقيق الدوليّة فكرتَه عن "الدولة الثنائيّة القوميّة" عبر قيام مجلسيْن تشريعيّيْن مشتركيْن: الأوّل مجلس نوّاب على أساس الصوت الواحد للشخص الواحد، والثاني مجلس قوميّات بتمثيلٍ متساوٍ للطرفين العربيّ واليهوديّ.(7)
في 23/9/1948 أعلنت "الهيئة العربيّة العليا" عن قيام "حكومة عموم فلسطين" التي سعت إلى محاولة إحياء الكيان السياسيّ الفلسطينيّ بعد حصولها على الثقة في المؤتمر الوطنيّ (غزّة) الذي دعا إلى ضمان استقلال فلسطين ضمن حدود الانتداب البريطانيّ. إلّا أنّ هذه المحاولة كانت محكومةً بالفشل لانعدام حماس الأنظمة العربيّة للفكرة، أو لعجز "حكومة عموم فلسطين" عن فرض سيطرتها على أرضٍ تسيطر عليها قوًى أخرى وتتنازعُها مطامعُ صهيونيّةٌ وعربيّة.
وبعد حزيران 1967، صاغ الماركسيّ الفلسطينيّ د. خليل البديري تصوّرًا خلاصتُه أنّ فلسطين "عادت وتوحّدتْ،" ومن ثمّ فُتح الطريقُ أمام العودة إلى حلّ النزاع على أساس "دولة ديمقراطيّة لجميع سكّانها."(8) وهذا الطرح يبقى قاصرًا معرفيًّا وأخلاقيًّا، وما كان له أن يُقبل، سواءٌ على الصعيد الفلسطينيّ الذي كان يتحسّس جراحَه الجديدةَ وسقوطَه تحت المزيد من الاحتلال، أو على الصعيد الصهيونيّ المنتشي بـ"استعادته" لـ "يهودا والسامرة"!
وكان هدف منظّمة التحرير الفلسطينيّة، كما جاء في الدورة الثامنة للمجلس الوطنيّ المنعقدة في القاهرة (28 شباط ــ 6 آذار 1971)، هو "تحرير التراب الفلسطينيّ كاملًا بقوّة الكفاح المسلّح، وإنّ دولة المستقبل في فلسطين المحرَّرة هي الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة" . قبلها كان صلاح خلف حدّد في العام 1968 الهدفَ الإستراتيجيّ بأنّه "دعمُ إنشاء دولة ديمقراطيّة على امتداد فلسطين التاريخيّة، يعيش فيها العربُ واليهودُ في وفاق، وكمواطنين على قدرٍ كاملٍ من التساوي."(9)
وقبل ذلك، أو بالموازاة معه، كانت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين قد حدّدتْ في الإستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة (شباط 1969) أنّ "هدف حركة التحرر الفلسطينيّة هو إنشاء دولة وطنيّة ديمقراطيّة في فلسطين، يعيش فيها العربُ واليهودُ مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وتشكّل جزءًا من الوجود العربيّ الديمقراطيّ التقدميّ المتعايش بسلام مع كلّ قوى التقدّم في العالم."(10) وإذا كانت الجبهة الشعبيّة قد تبنّت فكرةَ "الدولة الديمقراطيّة،" فإنّ كلمة "وطنيّة" لم تأتِ اعتباطًا بل ارتبطتْ لدى كتّاب الإستراتيجيّة بوعي هويّة فلسطين؛ كما أنّ القبول بـ"اليهوديّ" في إطار الدولة لا يغيِّر شيئًا من طبيعتها كدولة فلسطينيّة عربيّة.
عمومًا، وإضافةً إلى الانهيار السياسيّ لفكرة "الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة" والتراجعِ عنها، كما سنلاحظ لاحقًا في هذا النصّ، فإنّها تعرّضتْ لنقدٍ فكريّ شديد. ورغم أحقيّة جانبٍ من هذا النقد، أو لنقل منهجيّته، فإنّ القول باستحالتها جاء في سياق ترويج حلولٍ أخرى سيتبيّن أنّها لا تقلّ استحالةً عنها.
فمثلًا يرى أسعد غانم(11) أنّ "حلّ الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة في فلسطين التاريخيّة هو حلّ غيرُ واقعيّ لأنه لا يأخذ في عين الاعتبار قوّةَ الانتماء القوميّ للطرفين." غير أنّ غانم يتجاهل أمرين: 1) أنّ حلّه نفسَه يتجاهل العدلَ الذي يستحقّه الشعبُ الفلسطينيُّ في استعادة سياقه التاريخيّ بعد نكبة 1948 في معزلٍ عمّا يسمّى "القوميّة الإسرائيليّة"؛ 2) أنْ لا شيء اسمُه "الشعبُ الإسرائيليّ" لدى المشرِّعين والساسةِ الصهاينة أنفسِهم، الذين يتحدّثون عن الشعب اليهوديّ "في فلسطين وخارجها،" متجنّبين إدراجَ "الجنسيّة الإسرائيليّة" في بطاقة الهويّة الإسرائيليّة تفاديًا لحصر الوجود اليهوديّ باليهود الموجودين في فلسطين فقط وتفاديًا لشمل فلسطينيي 48 بهذه الجنسيّة.(12)
أمّا ممدوح نوفل(13) فيَعتبر أنّ "من الأسهل على المواطن الإسرائيليّ، اليساريّ أو اليمينيّ، القبولَ بدولة فلسطينيّة إلى جانب دولة إسرائيل، من قبول أفكارٍ تقود إلى التخلّي عن الهويّة اليهوديّة لدولة إسرائيل، أو تحويلها إلى دولة عربيّة ــــ يهوديّة." وفي الوقت الذي يبدو فيه نوفل شديدَ الاهتمام بمشاعر "المواطن الإسرائيليّ،" فإنّنا لا نلحظ في ترويجه لـ"حلّ الدولتين" أيَّ اهتمامٍ ــــ هو الآخر ــــ بسياق العدل التاريخيّ، أو على الأقلّ بمشاعرِ مَن طَرَدَهم هذا "المواطنُ الإسرائيليُّ" من بلدهم... بل إنّ نوفل يتّهم مَن يتحدّثون عن قيام دولة ديمقراطيّة موحّدة يتعايش فيها العربُ واليهودُ على حدّ المساواة بأنّهم يمارسون "التحشيشَ الفكريّ،" وأنّ الشيء ذاته ينطبق على فكرة قيام دولة ثنائيّة القوميّة!(14) وفي رأينا أنّ هذا الكلام تكرارٌ لديماغوجيا حركة فتح في السبعينيّات في أعقاب تبنّي البرنامج المرحليّ. وفي الحالتين، ماذا عن أحلام اللاجئين، وماذا عن حقوقهم في سياق العدل التاريخيّ؟!
في معظم الحالات نجد أنّ مرتكزات الحديث عن "استحالة الدولة الديمقراطيّة الواحدة على كامل فلسطين التاريخيّة" تستند إلى الاعتراضات الإسرائيليّة. ولكنّ الأجدى بالفلسطينيين، في هذه الحالة، أن يوفّروا سبعين عامًا أخرى من النضال والقبولُ بما تطرحه عليهم دولةُ الاحتلال من فتات!
2) الجانب الإسرائيليّ. تأتي المواقف على الجانب الإسرائيليّ من "الدولة الديمقراطيّة الواحدة على كامل فلسطين الانتدابيّة" متبلورةً على صعدٍ عدّة. وقد نشر أريه شابيط في هآرتس مطلعَ العام 2003 مقالًا أسّس لنقاشٍ لاحقٍ في أوساط صياغة الرأي العامّ الإسرائيليّ. وفيه استعرض شابيط التغيّرات في مواقف رمزيْن من رموز اليسار، هما ميرون بنفستي وحاييم هنغبي، إذ يلتقيان على ضرورة إحداث تغييرات جذريّة في مواقف اليسار الإسرائيليّ، والتأكيد على أنّ الحل ممكنٌ في إقامة دولة ديمقراطيّة واحدة للشعبين من النهر إلى البحر.
ولعلّ أبرزَ المنظّرين لهذا الحلّ هو إيلان بابِه، الذي صرّح في مناسبات مختلفة أنّ "الحلّ الوحيد للنزاع الفلسطينيّ ــ الإسرائيليّ هو إيجادُ دولة واحدة، يشارك فيها اليهودُ والعربُ وآخرون." وأضاف أنّ "دولتين مستقلتين في أرض فلسطين لا يمكن أن تتعايشا." وطرح آليّةً لتحقيق خطّته، جوهرُها "مقاطعةُ إسرائيل دوليًّا" على غرارِ ما حدث لنظام جنوب أفريقيا العنصريّ سابقًا.(15)
لكنْ، على الرغم من ثوريّة خطّة بابِه، فإنّها تقفز عن ثلاثة أمور: 1) مكانة إسرائيل في السياسة الإستراتيجيّة الأمريكيّة، والغربيّة عمومًا، وهي ما لم تكن متوفّرةً لنظام الأبارتهايد. 2) عدم اعتماد الاقتصاد الإسرائيليّ على العمالة الفلسطينيّة، خلافًا لاعتماد نظام الأبارتهايد على العمالة الأفريقيّة الأصلانيّة. 3) تركيزها على العامل الخارجيّ، من دون أن تقيم وزنًا لدور طرفَي الصراع في تنفيذها. وإذّاك، يصبح التساؤلُ مشروعًا: إلى أيّ حدّ تستطيع دولةٌ أُنشئتْ بالقوة العسكريّة، أو بالمقاطعة الاقتصاديّة، أن تعيش فعلًا؟ هذا التساؤل يكتسب مشروعيّتَه من طبيعة الحركة الصهيونيّة ذاتها، ومن مركزيّتها في الاستراتيجيّة الغربيّة. فمن دون تفكيك الصهيونيّة كمؤسّسة وممارسات، كما فُكّك نظامُ الفصل العرقيّ في جنوب أفريقيا، سيبقى الحديث عن دولة واحدة نوعًا من الخيال الجامح.
بابِه وآخرون، عبر "إعلان الدولة الواحدة،" الصادرِ في مدريد ولندن في 29/11/2007، اعتبروا أنّ "حلّ الدولتين" يتجاهل الحقائقَ، ويرسم سياسةَ فصلٍ غيرِ متساوٍ على أرضٍ أصبحتْ مندمجةً جغرافيًّا واقتصاديًّا. وأكّدوا أنّ أرض فلسطين التاريخيّة ملْكٌ لكلّ مَن يعيش عليها، ومَن طُرد منها سنة 1948. وقد رأى يوسي ألفير، المديرُ السابق لمركز جافي للدراسات الإستراتيجيّة في تل أبيب ومستشارُ نتنياهو السابق، أنّ الساعة تدقّ لوضع حدّ لوهم الدولتين.
وفي مسعًى إلى الابتعاد عن فكرة "الدولة العلمانيّة الديمقراطيّة" ظهرتْ فكرةُ "الدولة الثنائيّة القوميّة" على الجانب الإسرائيليّ في كتابات أكاديميين بارزين أمثال أمنون راز كركوتسكين، وسارة أوساسكي لازار، وكلاهما من أبرز ممثّلي تيّار السوسيولوجيا النقديّة الجديدة في إسرائيل. هذا، وقد نشرتْ هآرتس مقتطفاتٍ من يوميّات يهودا ليف ماغنس، مؤسِّسِ الجامعة العبريّة وأولِ رؤسائها، وهي بعنوان: 60 عامًا على قيام الدولة. وكان قد اعترض على قيام إسرائيل، وحاول إقناعَ الإدارة الأمريكيّة بعدم الاعتراف بها. وإضافةً إلى كونه داعيةَ سلام معاديًا للإمبرياليّة، فقد اشتُهر بمعارضته للحرب العالميّة الأولى. ومنذ وصوله إلى فلسطين سنة 1902 أيّد فكرةَ "دولة ثنائيّة القوميّة" لليهود والعرب ذاتِ حكومةٍ تتألّف من ممثلين "للشعبيْن." ويقول أمنون راز إنّ ماغنس كان متحمّسًا لهذه الفكرة وحارب لأجلها سنوات طويلة، وقد انضمّ إليه ــ وإنْ لأسبابٍ مختلفة ــ أشخاصٌ مهمّون أمثال مارتن بوبر وأرنست سيمون وهوغو برغمان، ولفترة معيّنة شاركهم هذه الأفكارَ غرشون شالوم، وانتظموا في حركة صغيرة أقيمت سنة 1926 باسم "ميثاق السلام ــــ بريت شالوم." هذه الحركة أدانت اعتمادَ الصهيونيّة على وعد بلفور، وعلى القوة الكولونياليّة للاستيلاء على فلسطين، وطالبتْ بميثاقٍ يقوم على المساواة الكاملة، وكان من مؤيّديها البارزين ألبرت آينشتاين.
إضافةً إلى الالتفاف على فكرة الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة عبر طرح فكرة "الدولة الثنائيّة القوميّة،" وجدت الفكرةُ الأولى وفرةً من المعارضين والمراوغين الإيديولوجيين الإسرائيليين. فبالنسبة إلى اليمين، ترتكز رغبتُه في إقامة "دولة واحدة" إلى شروطه الخاصّة، من خلال العمل بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" وتوطيدِها عبر سياسة الأمر الواقع الاستيطانيّة. ومن الواضح أنّ هذا المخطَّط قد أتى ثماره.
وفي سياقٍ يساريّ كتب يوري أفنيري في تمّوز 2003 مقالًا بعنوان "عاش الذئبُ مع الحمل،" وهو مقتبَسٌ من سِفْر أشعيا ونبوءته، وجاء في المقال: "من الغريب بعضَ الشيء أن تظهر هذه النبوءةُ المثاليّة مرّةً أخرى، وفي هذه الأيّام بالذات، بعد أن كانت قد فشلتْ تمامًا في جميع أنحاء العالم." أما ديفيد شاحام، الصحفيُّ المحسوبُ على اليسار، فيصف فكرةَ الدولة الواحدة الديمقراطيّة بأنّها "ثمرةٌ فجّةٌ لم يَنضج السياقُ التاريخيُّ لطرحها؛ وفي طرحها الآن يمكن أن تشكّل عائقًا أمام حلّ محتمل، وذلك لأنها تسكب زيتًا على الموقدة، وترسّخ سيطرةَ أحد الشعبين على الآخر."(16)
عمومًا، من الملاحَظ أنّ تراجُعَ فكرة دولة فلسطين الكاملة ــــ سواء "الديمقراطيّة العلمانيّة،" أو شكلها الفجّ الشعبويّ ("من النهر إلى البحر")، أو المناوِرة المسمّاة "الثنائيّة القوميّة" ــ تَرافَقَ مع تراجعٍ ضمنيّ لفكرة "إسرائيل الكبرى" لمصلحة التركيز على دور إسرائيل الإقليميّ، وعلى يهوديّة الدولة، وعلى التخلّص من فلسطينيّي 48. وعمومًا أيضًا، ثمّة نقاطٌ تجب مناقشتُها في طرح فكرة "الديمقراطيّة العلمانيّة،" وتتركّز حول "استحالة تحقيقها" بحسب الموقف الصهيونيّ وسياقات تطور المشروع الصهيونيّ. وهذا ما يطرح تساؤلًا جوهريًّا يتعلّق بإمكانيّة حدوث تحوّل راديكاليّ عاصف في المجتمع الإسرائيليّ يُخرجه من حيّز الصهيونيّة. وإذا كان هذا غير وارد، فهل يمكن فرض هذا الشعار (أي الدولة الواحدة) بديلًا للصهيونيّة، وما هي موازين القوى المطلوبة لإحداث مثل هذا التحوّل؟
خاتمة: أيّ حلّ؟
ما سبق يضعنا، ضمن مستقبل منظور، أمام ما يَظْهر استحالتين: الأولى "الحلّ المرحليّ" والعقبات الكأداء المتراكمة أمامه، والتي تكاد تخرجه من التداول كليًّا؛ والثانية "الحلّ الإستراتيجيّ،" على ما يحيط به من شكوك ونكوص وتحدّيات. وهذا ما يحيل الحركة السياسيّة الفلسطينيّة على خيارٍ لا مهربَ منه: البحث عن حلول مبدعة، وإعادة رسم الإستراتيجيات، وإعادة النظر في الخيارات التاريخية المتخذة. وأزعم أنّ نقاشًا من هذا النوع جديرٌ بزجِّ الشعب بكامله في عملية تحقيق هدفٍ متفقٍ عليه. وقد يبدو هذا النقاش عمليًّا أكثرَ ممّا هو نظريّ، لكننا نحتاج إليه إذا أردنا فعلًا وضعَ نظريّة جديدة للصراع تتجاوب مع الغاية الرئيسة والواحدة.
ولعلّ المدخل الصحيح يرتكز على التمسّك ببرنامج الإجماع الوطنيّ بصورته الأصليّة، غيرِ المشوَّهة، باعتباره جدول أعمال حقوقٍ حيويًّا، يستجيب لإشباع السيادة والمحافظة على الأرض والهويّة والحضور على خريطة العالم السياسيّة، شرط أن يترابط مع جدول أعمال عدالةٍ، يلبّي الردّ التاريخيّ المنشودَ على هزيمة 1948.
مصر
1- أكرم زعيتر، أوراق أكرم زعيتر ــــ وثائق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة 1918-1939 (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 1979)، ص91.
2- علي محافظة، "الفكر السياسيّ الفلسطينيّ قبل عام 1948،" في: الموسوعة الفلسطينية: الدراسات الخاصّة، المجلد الثالث، ص541.
3- شؤون فلسطينيّة، العدد 119، تشرين الأول 1981، ص 213 ــــ 214.
4- رائف زريق، "فلسطين وجنوب أفريقيا: الأبارتهايد وخطاب الحقوق،" في: مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 62، ربيع 2005، ص21 ــــ 32.
5- المصدر نفسه، ص 30.
6- كمال الخالدي، الصراع الفلسطينيّ ــــ الإسرائيليّ إلى أين؟ منظور ثقافيّ (بيروت: دار ابن رشد، 1998)، ص11.
7- نعيم الأشهب، "حول شعار الدولة الديمقراطيّة أو الدولة ثنائيّة القوميّة،" في: www.aloufok.net/article.php?id_article=32
8- نفسه.
9- صلاح خلف، فلسطينيّ بلا هويّة (عمّان: دار الجليل، 1996 ط 2)، ص221.
10- الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة، ص51.
11- أسعد غانم، "دولة فلسطينيّة وإسرائيليّة ثنائيّة القوميّة: نحو حلّ اتحاديّ للمسألة الفلسطينيّة ــ الإسرائيليّة،" في: مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 41، شتاء 2000، ص 3 ــ 23.
12- إسرائيل شاحاك، التاريخ اليهوديّ، الديانة اليهوديّة، وطأة ثلاثة آلاف عام، ترجمة: صالح علي سوداح (بيروت: بيسان للدراسات والنشر، 1995)، ص15.
13- ممدوح نوفل، "الدولة الفلسطينيّة المستقلّة خيارٌ واقعيّ،" في: دراسات فلسطينيّة عدد 36، خريف 1998، ص 3-16.
14- المنعطف الفلسطيني الراهن بعد إخلاء قطاع غزة (ندوة) في: دراسات فلسطينيّة، عدد 64، خريف 2002، ص 10-23.
15- تتكرّر هذه الآراء في مقالات كثيرة لايلان بابِه. لتفاصيل أكثر عن رؤيته راجع: http://www.raialyoum.com/?p=510536
16- مصطفى كبها، "الدولة ثنائيّة القوميّة إسرائيليًّا،" الجزيرة نت، المعرفة، ملفات خاصة 2005.
أحمد مصطفى جابر: كاتب وصحفيّ فلسطينيّ مقيم في مصر. من مؤلّفاته: اليهود الشرقيون في إسرائيل: جدل الضحيّة والجلاّد (2004)، بيان من أجل المرأة: ضدّ العنف والتمييز (2005)، اللاجئون الفلسطينيون الشباب: الحاجات ـ الهوية ـ المشاركة (2006).