في إبريل الماضي انشغلت الشبكاتُ الاجتماعيّة الموريتانيّة بقصص الحجّ الأكبر، إذ ولّى آلافُ الموريتانيين وجوهَهم صوب صحاري تازيازت المقفرة للتنقيب عن أحلامهم بالغنى ورغد العيش، بعدما عزّ تحقيقُ النزر اليسير من ذلك على حكومات البلد المتعاقبة. كان ذلك بعد أن سمحت الحكومةُ للمواطنين بـ"التنقيب السطحيّ" عن الذهب بالأجهزة الإلكترونيّة الكاشفة، فتحوّل ما سُمّي حينها "حمّى الذهب" إلى حديث الموريتانيين. بل طاولت الحمّى موريتانيّي الخارج، فألغى بعضُهم هجرتَهم، وألقى آخرون بمشاريع دراستهم عرضَ رمالِ صحارى تازيازت المتموّجة.
كان المشهد سرياليًّا وملحميًّا إلى درجةٍ لا تصدَّق. نقلتْ وكالاتُ الأنباء من هناك صورًا تذكّر بسينماتوغرافيا الحفر السيزيفيّ للتنقيب عن الكنز المفقود في فيلم المخرج التونسيّ ناصر خمير، الهائمون (1984). كما استمتع ذوو الثقافة الأدبيّة بقصصٍ تُنافس في غرابتها وتشويقها أعظمَ الأعمال التي تناولت الكنوزَ الضائعة: صحارى (كليف كاسلر)، الحشرة الذهبيّة (إدغار ألان بو)، جزيرة الكنز (روبرت ستيفنسون)، اللؤلؤة (جون شتاينبك).
بصفتي متابعًا للشأن الموريتانيّ من بلاد الغربة الدراسيّة، وبحكم تشبّعي بقصص الذاهبين المكتظّين برحلة الأحلام أو العائدين وهم خالو الوفاض، كان السؤال الأبرز في مخيّلتي: متى سيقرأ الموريتانيون روايةً عن "حمّى الذهب"؟ لكن الجواب ما يزال، ككثيرٍ من معادن البلد وثرواته الكثيرة، مدفونًا تحت الرمال.
سطوة الشعر
شأنَ رواية "حمّى الذهب" المفقودة، لا تزال حالةُ السرد الموريتانيّ حبلى بفرص السرد الضائعة. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة، لعلّ أبرزَها سطوةُ الشعر وعقليّةِ النَّظْم، التي تلخّصها تسميةُ "أرض المليون شاعر"؛ علمًا أنّ هذه "المليونيّة" ظلّت في أغلب حالاتها كمّيّةً، إذ لا شاعرَ موريتانيًّا متداولًا خارج مجال المتخصّصين في المجال الأدبيّ في عموم البلاد العربيّة. كما أنّ الاختزال المتعمّد لكلّ أنماط التعبير الأدبيّ والفنّيّ في الشعر وحده، بل في قالب معيّن من الشعر، قد كَرّس وضعًا ثقافيًّا يمكن تحميلُه مسؤوليّةَ الجمود الذي تعانيه الثقافةُ الموريتانيّة. وهذا الاختزال يورِّث الأجيالَ موروثًا مثقلًا بالنمطيّة والنكوص، ويحرمهم تذوّقَ أشكال تعبيرٍ جماليّة لا يمكن أن يحيط بها الشعرُ وحده.
الرواية من رحم القصيدة
ألقت هذه "السطوةُ الشعريّة" بظلالها الثقيلة على جميع أنماط التعبير الثقافيّ والأدبيّ الموريتانيّ، وعلى رأسها الرواية. فقد وُلدت التجاربُ السرديّة الأولى على يد الشاعر (ابتداءً وانتهاءً) والروائيّ (استثناءً) أحمدو ولد عبد القادر، في روايتيْه الرائدتيْن: الأسماء المتغيّرة (1981، بيروت) والقبر المجهول (1984، تونس). عالجت الروايتان تاريخَ موريتانيا السياسيّ، وحروبَها القبليّة، وصراعاتِها الطبقيّة، في فترتين مفصليّتين في تاريخ البلد.
في العمل الأول عالج المؤلّف، بأسلوبٍ يمزج الواقعيّةَ بالخيال والرمز، الأسماءَ المتغيّرةَ لبطل الرواية، موسى، طوال حياته (90 عامًا). هذه الأسماء المتغيّرة ترمز إلى انتقالات البلد القسريّة: الاحتراب القبليّ، و"السيبة،" وغياب السلطة المركزيّة، وتحكيم منطق الغاب، مرورًا بقدوم الرجل الأبيض، وصولًا إلى الولادة القيصريّة للدولة الحديثة، والصراعات المستمرّة بين أنظمة قيميّة متناقضة. كما تُعتبر هذه الرواية وثيقةً إثنوغرافيّةً مهمّة توثّق عادات المجتمع الموريتانيّ "البيضانيّ" على وجه الخصوص، لما تحويه من معلومات عن الفضاء البدويّ وشبه الحضريّ والظروف الانتقالية بين الفضائين؛ إضافةً إلى أماكن الحلّ والترحال ومواقيتهما، والرواية والانتجاع، وأنواع النبات والحيوانات، وظروف العيش والتساكن خارج الحيّز الجغرافيّ الموريتانيّ نفسه.
أمّا روايته الثانية، القبر المجهول، فتشترك مع الأسماء المتغيّرة في تفاصيل سرديّة كثيرة، لكونها تتناول الثيمة الروائيّة ذاتَها (تاريخ الصراعات التي عصفتْ بالمجتمع المحليّ). لكنّ المعالجة أقصرُ وأكثرُ تركيزًا، إذ غطّت العقدين الرابع والخامس من القرن التاسع عشر فقط، أي فترة ما قبل الاستعمار. ويظلّ الصراع الطبقيّ محرِّكًا رئيسًا للأحداث في الروايتين، ويرجع ذلك إلى ارتباط الروايتين بتجربة الكاتب حينها، إذ كان من قادة حركة "الكادحين" اليساريّة، التي كان ذلك الصراع وقضيّةُ الرقّ على رأس أولويّاتها.
بعد انقطاع دام 25 عامًا انشغل خلالها رائدُ الرواية الموريتانيّة بقرض الشعر، ظهرتْ روايتُه الثالثة والأخيرة، العيون الشاخصة (2009، رام الله). كانت العيون الشاخصة، على منوال سابقتيْها، معالجة واقعيّة تناولتْ فترةَ الجدب التي قهرت البدوَ، وغيّرتْ نمطَ حياتهم الذي يعتمد الانتجاعَ والترحالَ ومطاردةَ غيوم السحاب، إلى درجةٍ أرغمتْ كثيرين منهم على النزوح إلى المدينة والعيش على هامش حياتها الاقتصاديّة والثقافيّة، وأرغمت آخرين على الهجرة خارج البلاد. ورغم أنّ أحداث الرواية تدور في حيّ بدويّ في الجنوب الموريتانيّ، فإنها تُعتبر من بواكير الروايات التي تناولت العاصمة نواكشوط بعد رواية الأسماء المتغيّرة. ومع أنّ نواكشوط عاصمةُ البلاد وأكبرُ مدنها، فإنّها غائبةٌ تمامًا عن القصيدة، بنمطيْها الشعبيّ والفصيح؛ بل هي غائبة حتى الآن عن الأغنية وعن السينما.
لكنّ ما ضاقت عنه شاعريّةُ الشعر لم تسعه أيضًا رحابةُ الخيال السرديّ في الرواية الموريتانيّة التي ما زالت تغيب عنها نواكشوط ــ ضمن سرديات ضائعة أخرى سنوردها في نهاية النصّ ــ كمكانِ تلاقٍ وتجافٍ لكمٍّ هائلٍ من الفرص والتناقضات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وكفضاءٍ حضريّ وُلدتْ فيه تجربةُ هذا البلد الحضرية، على علّاتها وتشوّهاتها.
كانت الرواية الوحيدة للسياسيّ الموريتانيّ اشبيه الشيخ ماء العينين، أحمد الوادي (1987، أبو ظبي)، ثالثَ رواية موريتانيّة بعد روايتيْ أحمد ولد عبد القادر. ولكنْ بعد أن كان الجنوبُ مسرحَ الروايتين السابقتين نقلتْ أحمد الوادي سياقًا سرديًّا مختلفًا في الجغرافيا والموضوع، إذ دارت أحداثُها في الأودية والواحات وأعرشة النخيل في آدرار، شمال البلاد. كما اختلفت المعالجة السرديّة في الرواية الأخيرة لتناولها صراعًا من نوع جديد، هو الصراع بين ثنائيّات متعدّدة: المحلّيّ والدخيل، والحديث والقديم، وابن البلد والابن الضالّ. وتمّ ذلك من خلال بطلي الرواية: أحمد الوادي، الذي يمثّل التمسّك بالقيم المحلّيّة والدفاع عنها؛ مقابل القاسم، الذي يمثّل القيمَ الواردة ونظرتَها الفوقيّة إلى المحلّيّين الذين يرفلون في جحيم التقاليد وأفقها المسدود.
منعرج موسى ولد ابنو
بعد حوالى عقد على ظهور الراوية الموريتانيّة الثالثة، كان مسارُ السرد في "أرض المليون شاعر" على ميعادٍ مع منعرجٍ جديدٍ اسمُه موسى ولد ابنو، الذي يُعدّ الروائيّ الموريتانيّ الأكثر إنتاجًا وانتظامًا في التأليف، إذ أصدر ثلاثَ روايات بالفرنسيّة، صدرتْ معرّبةً عن دار الآداب في بيروت، وهي: مدينة الرياح (1996)، والحبّ المستحيل (1999)، وحجّ الفجار (2005). لكنْ لم تقتصر ميزةُ منعطف ولد ابنو على انتظاميّته وتخصّصه روائيًّا، ولا على كونه يكتب بلغتين، فحسب، بل كانت الإضافةُ الأكبر هي ريادتَه لهذا الباب السرديّ محلّيًّا، وضمن الرواية العربيّة والإفريقيّة أيضًا. في روايتيه الأولييْن امتزجتْ ــــ ببراعةٍ وتمكّن ــــ الحقيقةُ بالخيال، والفلسفةُ بالأدب، والتاريخُ بالأسطورة، والخيالُ العلميّ بالحقيقة والتجلّي الصوفيّ. وتأتّى ذلك باستخدامٍ موسوعيٍّ للقصص القرآنيّ، والميثولوجيا الإغريقيّة والأفريقيّة والعربيّة، والإشكالات الفلسفيّة العميقة، وأطروحات الحداثة وما بعد الحداثة، وعلم المستقبليّات، والمسألة البيئيّة، والتكنولوجيا، وحروب المستقبل، وصراع الحضارات، والاستشراق المعاكس (الاستغراب)، والانتروبولوجيا، والنظريّة الموسيقيّة.
ثمّ جاءت روايةُ حجّ الفجار أوّلَ ثلاثيّةٍ يعتزم ولد ابنو كتابتَها عن الحجّ في ثلاث فترات تاريخيّة مختلفة. أوّل جزء من هذه الثلاثيّة هو حجّ الفجار، وهو رواية فانتازيا تاريخيّة، تنقّب في ما وراء القصّ التاريخيّ من أجل نبش الجوانب المطمورة في التاريخ العربيّ، من خلال بعث الحياة الجاهليّة في فترة نشوب حرب الفجار (590 م). الجزء الثاني يبحث عن الحجّ في فترة صدر الإسلام، من خلال تتبّع حجّة أمير دولة المرابطين يحيى بن ابراهيم (1053 م). أما الجزء الأخير فيعتزم بحثَ الحجّ في المستقبل، "حج المستنسخين" وأجيال الأنابيب، في أفق العام 2053 م.
لكنْ، على الرغم من تجربة ولد ابنو الإبداعيّة المميّزة، وعلى الرغم من تصنيف روايته مدينة الرياح ضمن أفضل مائة رواية عربيّة (فضلًا عن رياديّتها في الأدب الإفريقيّ الفرنكفونيّ)، فإنّ أعماله لم تنلْ بعدُ ما تستحقّه من الاحتفاء والدراسة.
إمكانات سرد جديدة
بعد فترة تأسيس الرواية الموريتانيّة، وقد استمرّت عقدين، بدأتْ تظهر أسماءٌ أخرى أضافت إلى رفّ الرواية الموريتانيّة عناوينَ جديدةً، نُشر معظمُها في المهجر. اللائحة أدناه نقدم جردًا بالعناوين الروائيّة الموريتانيّة بحسب تواتر صدورها أو قرب صدورها:
ــ محمد ولد محمد سالم: أشياء من عالم قديم (2007، نواكشوط)، ذاكرة الرمل (2008، الرباط)، دروب عبد البركة (2010، الشارقة)، دحّان (2016، أبو ظبي).
ــ عبد الله أحمد محمود: ذاكرة الغياب (2014، الكويت)، رذاذ من مدينةٍ تمطر (2015، الكويت)، أولغا كانت في الانتظار (2017، قيد النشر).
ــ المختار السالم: موسم الذاكرة (2005، القاهرة)، وجع السراب (2015، مكتبة القرنين).
ــ محمد ولد أمين: مذكّرات حسن ولد مختار (2012)، منينة بلانشيه (2014، بيروت).
ــ السني عبداوه: الأشباح (1999، نواكشوط)، مملكة تيبة (2012، نواكشوط).
ــ محمد ولد احظانه: رحم الأرض، هجرة الظلال (2013، الشارقة).
ــ أحمد ولد الحافظ: عناقد الرذيلة (2016، بيروت).
ــ الشيخ بوي ولد عمار: المهاجرون (2015).
ــ محمد فاضل عبد اللطيف: تيرانجا (2013، الشارقة).
ــ بدي ولد ابنو: أودية العطش (2012، الدار البيضاء).
ــ محمد الأمين ولد أحظانه: الشفق اللازوردي (2008).
ــ محمد بابا اشفغ: وادي النعام (2007، المغرب).
ــ سميرة حمادي فاضل: حشائش الأفيون (2006، عمان).
ــ سيّد محمد ولد المصطفى: مودّة (1998).
ــ سيّد محمد ولد حيماده: أفكار (1997).
ــ تربه بنت عمار: وجهان في حياة رجل.
ــ حمود ولد سليمان: تجمعنا سفينةٌ واحدة.
ويمكن تقديمُ خلاصتين هنا. الأولى تتعلّق بـ"مستحيلات السرد الموريتانيّة،" ومن بينها: أ) العثورُ على هذه الروايات، كلّها أو حتى ثلثها، على رفّ مكتبةٍ تجاريّة، بل داخل المكتبة الوطنيّة نفسها. ب) العثورُ على كلّ الإصدارات الروائيّة لكاتبٍ واحد في مكتبةٍ واحدة. ج) العثورُ على أيٍّ منها في المقرَّر الدراسيّ الوطنيّ. د) العثور على عمل سرديّ مترجم من الفرنسيّة إلى العربيّة أو العكس.
الخلاصة الثانية تتعلّق بالسرديّات الغائبة في الرواية الموريتانيّة، وأبرزُها: أ) سرديّات المدينة والفضاء الحضريّ الموريتانيّ. ج) سرديّات الهويّات المقموعة، أو "التابع" الموريتانيّ. ح) سرديّات الهجرة والاغتراب الموريتانيّ.
أخيرًا، تبقى أيّةُ نظرةٍ إلى الأدب الموريتانيّ، شعرًا كان أو نثرًا، مجتزأةً ما لم تتناول المخزونَ الأدبيّ الكبير المكتوب باللغة الفرنسيّة، وهو يضمّ مبدعين لا يقل إنتاجُهم أصالةً وثراءً عن نظرائهم الذين يكتبون بلغة الضاد، من أمثال: عمر با، تن يوسف كي، عثمان جاغانا، جبريل هامت لي، جبريل زكرياء صال، امبارك ولد بيروك، محمد ولد بلال.