عزيزي غسّان
انتظرتُ قليلًا قبل أن أعودَ إلى قراءتكَ مرّةً أخرى. حين قرأتُكَ أوّلَ مرّة، كنتُ أريد أن أعرف العالمَ الكبيرَ من حولي، ذلك العالمَ الذي اسمُه فلسطين؛ فلسطينُ التي ارتبطتَ بها وارتبطتْ بك مثلَ حبٍّ أبديّ.
إلى أن وجدتُها هناك، مثل الأميرة التي ستُحضِر الشمسَ إلى القصر في قصتك، القنديل الصغير.
كنتُ أريد أن ألمسها، لا أن أكتفي بالسماع عنها. لكنّني ازددتُ تيهًا. وبدا ذلك كأنّه دليلٌ على معرفة جديدة، تربط الحنينَ بتفاصيلَ يوميّة. أحببتُ تيهي ذاك، وبقيتُ داخل القصّة، وداخل الحلم.
تعرّفتُ إلى البومة في غرفةٍ بعيدة. البومة التي وضعتَ صورتَها فوق سريركَ الصغير، في تلك الغرفة المعزولة. البومة التي نظرتْ إليكَ حين غطّت العتمةُ الغرفة، وذكّرتْكَ بشيءٍ ما في الطفولة: شيءٍ يشبهُ عينيها اللتين خبّأتَ وجهَك كي لا ترياه. وتساءلتُ قبل أن أنهي القصّة: ما الذي جعلك تهرب منها؟ ولماذا كنتَ تراها كأنّك ترى الموتَ؟
تابعتُ القراءة، فوجدتُك تتذكّر أنّك ذهبتَ يومًا، وأنتَ صغير، إلى قريتك. وهناك، بدأ اليهودُ بالهجوم على القرية. يومها، طلب إليكَ الشيخُ أن تدفنَ البنادقَ تحت شجرة التين. وحين خرجتَ من البيت، على صوت البنادق، مسرِعًا ومتعَبًا في تلك الطريق الطويلة والمتشعّبة، هاجمكَ الخوف. كان ذلك هو الخوفَ نفسَه الذي اعترض طريقَكَ وأنت تنظر إلى الصورة. يومها، أحسستَ أنّك تقوم بعملٍ بطوليّ. كنت تذهب إلى الشجرة، وبعد أن تخبّئ البنادق، تنظر إلى فوقك فترى تلك البومةَ الشجاعةَ والخائفة. لكنّها، مثلما كنتَ أنت نفسك آنذاك، مصمِّمةٌ على الوقوف على الرغم من الخوف، وتفضّل الموتَ على الفرار من القصف.
الآن، أتحدّث إليك وأنا أمشي في ذلك الحلم الذي أخافني مرّةً، وأتذكّر بومتَكَ المسكينة. لقد جاءتني مرّةً. وبعد أن زيّنتُها كما فعلتَ، وضعتُها فوق سريري. داهمني ذاك الخوفُ، فوقفتُ مثلها على الطريق، وقرّرتُ ألّا أهرب. لكنّني فكرتُ: أهناك طريقٌ ما، مشيتُه ذاتَ مرّةٍ، ورأيتُ فيه بومةً؟
كانت صورةُ البومة جميلةً جدًّا. نظرتُ مثلك إلى عينيْها. لم أستطع أن أطيل النظر، فذهبتُ بعيدًا، إلى تلك الحفرة الكبيرة قرب النهر، وكان قد حفرها الصغار في المخيّم، وسقطتُ فيها حين كنت أسبح مع صديقاتي. كانت تلك هي المرّةَ الأولى التي أغرق فيها في حياتي. رأيتُ سمكة كبيرة، وحين صرختُ رأيتُ أمي قرب رأسي. لم تتحوّل البومة إلى سمكة، لكنّ تلك البومة كانت تشبه سمكةً فعلًا. والآن، سأعلّق سمكتي الملوّنة إلى جانب سريري وأبتسم حين أراها.
البومة كانت أيضًا تشبه القلب: هكذا قلتُ لنفسي حين وضعتُ صورتها فوق السرير. وأنا الآن أرى أشياء كثيرة تشبه القلب: فلسطين، الحياة، الطريق، الحب، البومة، الطفولة، المخيّم، بيروت...
وها نحن نكبر نمشي في الحلم بالقلب ذاته والإحساس نفسه الذي صاحبنا ونحن أطفال.
***
أعرف أنّكَ الآن في رحلة طويلة بعد موتك. تحكي لأطفالٍ، يحمل كلٌّ منهم قنديلًا، عن سرٍّ عليهم أن يجدوه؛ سرٍّ داخل ذاك الخوف، وداخل تلك الغابة الكبيرة التي تحاصرهم فيها الحياةُ. إنّه القنديل ذاتُه الذي وضعتَه عند نهاية كل قصة: إنّه حياتك القصيرة التي كرّستَها في سبيل شيءٍ تحترمه.
المخيّم يا عزيزي ما زال حيًّا. يكبر يومًا بعد يوم، مثلَ طفلك الذي ذهب إلى المخيّم في زمن الاشتباك؛ المخيمِّ الذي كلّما تركناه مشى وراءنا مثلَ ظلّنا، وتطلّعنا اليه لأنّه مثلنا: كائنٌ يريد الحياة. الإنسان، كما تقول، قضيّة. وأنا أحيانًا أدخل أسئلتي الصغيرة، كما الكبيرة، من الباب نفسه. أرى أحيانًا أنّ السؤال عن الوطن يبدأ من السؤال عن تفاصيل صغيرة: كالخوف والحنين وأحداث الطفولة ومواجهة أنفسنا. ولذلك أسأل: لماذا نكرّر دائمًا الأشياءَ نفسَها؟ وكيف كان الزمن الذي تحدثتَ عنه هو الزمن الذي أراه أمامي، إنّما بهزائمَ أكبر وموتٍ أكثر؟
شكرًا غسّان لأنك ذهبتَ إلى منفاك محمَّلًا بأسئلة الناس العاديين، التي كانت هي أيضًا أسئلتَكَ الشخصيّة. كنت تعيش السؤال فكرًا وأدبًا وحياةً، وتركتَ لنا مساحاتِ الإجابة كي نملأها بالخيال والبحث. ولأنها كانت جريئة وجديدة، فأنا أراك ثائرًا حقيقيًّا.
بيروت