روبير كابا والسرديّة البصريّة الصهيونيّة
12-02-2018

 

في 19/1/2018  نَشر ضابطٌ بريطانيٌّ متقاعد، يُدعى جون كيزلي، عبر صحيفة ذي غارديان، صورةً تَظهر فيها المصوِّرةُ الشهيرةُ جيرتا تارو (أو جيردا) على فراش الموت، برفقة طبيبها. والراحلة جيردا، التي قُتلتْ دهسًا بدبّابةٍ سنة 1937، كانت قد اختَلقتْ، مع روبرت فريدمان، شخصيّةً متخيّلةً، أطلقا عليها اسم "روبير كابا،" من أجل إخفاءِ هويّتهما اليهوديّة، كي يَسْهلَ نشرُ صورهما في الصحف والمجلّات الأوروبيّة. إلّا أنّ التاريخ لم ينصفْ جيردا لأنّها ماتت قبل فريدمان بسنوات، فبقي روبير كابا الاسمَ الذي عُرف به اندري فريدمان.

والحقّ أنّ تحليل الصور التي التقطاها خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة أمرٌغايةً في الصعوبة لأنّ جيردا تماهت مع كابا وأعمالِه، إلى درجةٍ يصْعب معها التمييزُ بين ما التقطتْه بنفسها، وما نُسب إليه من صور؛ علمًا أنّ الكثير من النقّاد الفنيين عملوا وما زالوا يعملون على تفكيك أعمال كابا وإعادةِ دراستها بغرض الكشف عن خفايا الأسطورة المحيطة بأحد أشهر المصوِّرين الفوتوغرافيين في القرن العشرين.(1)

                                                        (إنزال النورماندي)

في سنة 2014، قام الناقد ا. د. كوليمان بتحليل الصور التي التقطها كابا خلال إنزال النورماندي (عمليّة شاطئ أوماها)، فدرس الوقتَ الذي قضاه هناك على الشاطئ، وكميّةَ الشرائط والتقنيّات المستخدَمة والصور الملتقطة، لكي يبرهن أنّ نظريّة "اختفاء أغلبيّة الصور بسبب الحريق وارتفاعِ درجات الحرارة" واهيةٌ وغيرُ قابلةٍ للتصديق.

كذلك كان الأمرُ بالنسبة إلى إحدى أشهر صور كابا، "مصرعُ جنديّ،" التي التقطها خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة؛ فقد أثبتت الدراساتُ النقديّة عدمَ صحّتها، بل تأكّد ذلك منذ سنواتٍ قليلة بسبب التعرّف إلى هويّة ذلك الجنديّ الذي ثبت موتُه في مكانٍ بعيدٍ عن مكان التقاط الصورة.

                                                      (مصرع جندي)

اللافت أنّ النقاشات كانت تدور حول البعد الفنيّ في صناعة أسطورة كابا، ولكنّها لم تتطرّقْ إلى البعد السياسيّ في أعماله. وهذا ما نزمع تسليطَ الضوء عليه هنا.

***

ففي أيّار ١٩٤٨ أعلن بن غوريون قيامَ "إسرائيل." ولكنّه قبل أن يبدأ خطابَه الشهير، تيقّن من حضور كابا ، بل أجّل خطابَه عدّة ساعات حتى يتمكّن كابا من تحضير كاميراته وشرائطه. والمؤكّد أنّ وجود كابا هناك لم يكن لمجرّد التصوير؛ فهو لم يكن في صدد نقلِ ما يحدث على أرض فلسطين بـ"موضوعيّة ومهنيّة" أصلًا.

ثمّة دراسة يتيمة نُشرتْ في مجلة الدراسات الصحفيّة عام ٢٠٠٦، قام بها الباحثان أندريو مندلسون وزوي سميث، أستاذا الصحافة في جامعة تمبل في الولايات المتحدة. هذه الدراسة تفكِّك مرحلةَ وصول كابا، وهو أحدُ مؤسِّسي وكالة ماغنوم (إلى جانب ديفيد سيمور، وهنري كارتيير بريسون، وجورج رودغار، وويليام فاندفرت)، إلى فلسطين، وتكشف عن صهيونيّة هذا الرجل ودوافعِه السياسيّة في تغطيته للصراع العربيّ ــــ الإسرائيليّ.

الجدير ذكرُه أنّ كلّ من يتطرِّق إلى هذا الموضوع، على ما يقول ناقدٌ في الملحق الثقافيّ لجريدة لوموند الفرنسيّة،(2) سيواجَه من طرف اللوبي الصهيونيّ المتغلغلِ في أعلى مستويات الحكومات الغربيّة؛(3) وقد يجابَه بتهم "اللاساميّة" التي ستؤثّر سلبًا في حياته المهنيّة. وقد عَرفتْ وكالةُ ماغنوم منذ تأسيسها اهتمامًا خاصًّا بالدولة العبريّة، وذلك لكون أهمّ اثنين من مؤسِّسيها ــــ وأعني كابا وسيمور ــــ من يهود أوروبا الوسطى المتحمِّسين لنشوء دولة "إسرائيل،" وقاموا بتغطياتٍ خاصّةٍ للوافدين اليهود من وجهة نظرٍ صهيونيّةٍ خالصة.

تعتمد الدراسةُ الصحفيّة المذكورة على منشورات كابا في الكتب والمجلّات بين عاميْ ١٩٤٨ و١٩٥١، من دون الأخذ في الاعتبار فيلمَ الرحلة الدعائيّ الذي حقّقه كابا سنة ١٩٥٠ لمنظّمة "نداء يهود نيويورك المتّحدون،" ومن دون التطرّق إلى الأرشيف الإسرائيليّ (المحاط بسريّةٍ تامّة) الذي يرجَّح أن يعطي معلوماتٍ قيّمةً عن خدمات كابا للكيان الصهيونيّ.

غير أنّ تلك الدراسة تعود إلى جذور كابا وبدايةِ اهتمامه بالسفر إلى فلسطين. فكابا، الذي كان قد غيّر اسمَه لإخفاء شخصيّته اليهوديّة في أوروبا الفاشيّة، سافر إلى فلسطين على حسابه الشخصيّ، ومن دون أيّ عقدٍ يَضمن نشرَ صوره، وذلك لتحمّسه شخصيًّا للمشروع الصهيونيّ. لكنّ إقامتَه الأولى لم تطُل، إذ أصيب برصاصةٍ في فخذه أثناء تغطيته المعاركَ الدائرةَ بين عصابات مناحيم بيغن والجيش الإسرائيليّ،(4) فسافر بعدها إلى باريس للعلاج، ليعودَ ويحقِّقَ مع ايرڤن شو كتابًا عن "إسرائيل" في العام ١٩٥٠.

يستعرض الباحثان (مندلسون وسميث) طريقةَ إنشاء دولة إسرائيل عن طريق بناء رواية أسطوريّة تعتمد على ثلاث أكاذيب رئيسة لا تزال مستخدمةً حتى يومنا هذا في الدعاية الصهيونيّة.

1) إسرائيل تدافع عن الحضارة الغربيّة، والعرب هم المهاجِمون الهمجيّون. أحد أهمّ أعمدة الرواية الصهيونيّة تقوم على أنّ الدولة العبريّة الحديثةَ الولادةِ محاطةٌ بجيوش عربيّة عملاقة تريد سحقَها، وأنّ معارك تلك الدولة هي للدفاع عن نفسها (على طريقة "دافيد الذي يواجِه جوليات"). كما يُنظر إلى الفلسطينيين على أنّهم امتدادٌ لعرب الدول المحيطة، وأنْ لا هويّةَ مستقلّةً لهم.

بشكل عامّ، ومع أنّ العرب شكّلوا غالبيّةَ سكّان فلسطين في ذلك الوقت، فلا صورَ لهم عند كابا، باستثناء أربع بعيدةٍ، تُظهرهم في مظهرٍ يَخدم الصورةَ النمطيّة للعرب في مخيّلة الغرب: فلا عمّال، ولا فلّاحون، ولا طلبة، ولا أيّ مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية العربيّة الطبيعيّة. كلُّ ما نراه عنده من العرب: أسيرٌ مهزوم، أو مصابٌ يقدِّم له طبيبٌ غربيٌّ يدَ المساعدة.

كذلك قام كابا بالتقاط بعض الصور لدروز الجليل ممّن قاتلوا إلى جانب اليهود، لكنّه لا يُظهر قريةً عربيّةً واحدةً دُمّرتْ أو هُجّر سكّانُها. كما يتجاهل ضحايا الاعتداءات والاغتصابات والمجازر وعمليّات التطهير العرقيّ.

2) صابرا الجنديّ البطل والمقدام. يصوِّر كابا اليهوديَّ في صورته الأبهى: مبتسمًا، أو يعمل بجدّ، أو يقدّم المساعدةَ إلى الآخرين. وهذه الصورة كان مطلوبًا منها أن تُناقض صورةَ اليهوديّ الغربيّ المهزوم، وتشجّعه على الهجرة إلى "أرض الميعاد،" وتدعم فكرةَ اليهوديّ البطل عند يهود الغيتو.

3) استصلاح الأرض. تَستحضر صورُ كابا أسطورةَ "شعب بلا أرض وأرض بلا شعب" من أجل خدمة "عودة شعب الشتات وحقّه في أرض أجداده." ولم يكتفِ كابا بصور صحارى فارغةٍ، وأراضٍ مقفرةٍ مهجورة، بل دعم ذلك بنصوصٍ كتبها بنفسه تؤكّد علاقةَ اليهوديّ بـ"أرض الميعاد،" مشجِّعًا على الهجرة إليها، ومستعرضًا احتضانَ هذه الأرض لهم.

***

من الواضح أنّ أعمال كابا (صورًا أو نصوصًا رافقتها) أسهمتْ في شرعنة تأسيس دولة إسرائيل، وخدمتْ الأساطيرَ المؤسِّسةَ لها، وأخفت وجهةَ نظر الفلسطينيّ صاحبِ الحقّ والأرض، موجِّهةً الرأيَ العامّ نحو خلاصةٍ غير قابلةٍ للنقاش، مفادُها أنّ قيامَ دولة إسرائيل حتميّةٌ تاريخيّة.

غير أنّ كابا لم يكن وحده مَن يقوم بهذا الدور، بل شاركه في ذلك غالبيّةُ زملائه في وكالة ماغنوم، وفقًا لجورج رودجر الذي عانى كثيرًا في نشر صوره عن فلسطين، إذ يقول في كتاب راسيل ميلر عن ماغنوم:

"كان كلُّ العالم يعرف أنّ الإسرائيليين احتلّوا فلسطينَ عامَ ١٩٤٨ وطَردوا العربَ منها، بينما كابا وتشو ومصوّرون آخرون أصرّوا على تصوير أرض الميعاد ونشرِ هذه الصور حول العالم . لقد جنَوْا الكثيرَ من المال. أمّا أنا فكنتُ في الطرف الآخر، أعمل مع اللاجئين الفلسطينيين، وعرفتُ أنّ منازلهم دُمّرتْ. لكنْ لم تُنشرْ نسختي عن الحقائق، لأنّ أغلبَ محرِّري المجلّات الأمريكيّة كانوا من اليهود."(5)

***

في الحقيقة أنّ تلك الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الصحفيّة (6) أضافت طعنةً أخرى في أسطورة كابا وتزويره للحقائق بعد اكتشاف أكاذيبه في إسبانيا وشاطئ أوماها، وأعني: الصورَ المزيّفة عن الحرب الأهليّة الإسبانيّة، بالإضافة إلى نسْب الكثير من أعمال جيردا إليه، فضلًا عن صور إنزال النورماندي التي أشرتُ إليها في بداية هذا المقال.

الأهمّ أنّ الدراسة تطعن في صدقيّة المختصّين بالدراسات البصريّة الذين يهرولون إلى إجراء دراساتٍ مجتهدةٍ في مجالاتٍ ما، ولكنّهم يغضّون الطرفَ عن دراساتٍ أخرى تفضح أساطيرَ الدولة الصهيونيّة!

مدريد

(1) هذا الشهر سيُفتتح في مدينة موتريل، جنوب اسبانيا، معرضٌ يقوم على دراسة جديدة لصور من الحرب الأهليّة الإسبانيّة يُعتقد أنّ جيردا وقّعتْها باسم كابا.

(2) يوقّع مقالاته باسم "العدسات الحمراء." وله مدوَّنةٌ بهذا الاسم في موقع جريدة لوموند.

(3) "روبر كابا في خدمة الأساطير المؤسِّسة لدولة اسرائيل،" مدوَّنات لوموند الثقافيّة، 13 اكتوبر 2015.

(4) في 22 أيار 1948 حُطّمتْ سفينة أتلينا، التابعة لعصابات إرغون، على شاطئ تل أبيب، بعد رفض عناصرها تسليمَ أسلحتهم إلى الجيش الإسرائيليّ، ووقعت اشتباكاتٌ عنيفة في مناطق متفرّقة.

(5) Russell Miller, Magnum: Fifty Years at the Front Line of History (New York: Grove Press, 1999).

(6) Journalism Studies, Vol.7 , No 2 , 2006.

وسيم الدبّاغ

مصوِّر فلسطينيّ من مدينة عكا، مواليد 1982، مقيم في مدريد. درس في المعهد العالي للراديو والتلفزيون في غرناطة. ساهم في إنجاز عدة أفلام قصيرة وريبورتاجات للتلفزيون، وفي تغطية عدّة مهرجانات للسينما الوثائقيّة في إسبانيا. يعمل على تصوير فيلمه الوثائقيّ الأوّل عن أحد أحياء "الأقدام السود" في جنوب فرنسا. مهتمّ بالبحوث والدراسات البصريّة.