انتشر مصطلحُ "المواطَنة العالميّة" في الفضاء التعليميّ منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وتكرّس رسميًّا إثر نشر منظّمة اليونيسكو وثيقة أهداف التنمية المستدامة (2015 ــــ 2030). فما هي مكوِّنات "المواطنة العالميّة"؟ وما هي دلالاتُه العلميّة ومقوِّماتُه القانونيَّة؟ وما هي انعكاساتُه على الإنسان والمجتمع؟
التعريف
يعبِّر مصطلح "المواطَنة العالميّة" عن ثقافة الانفتاح الفكريّ، والانتماء إلى المجتمع الدوليّ والإنسانيّ، وتحمُّلِ المسؤوليّة تجاه المصلحة العامّة في مختلف أنحاء العالم، والالتزامِ بالعدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانيّة. ووفق الإطار العامّ لتعليم المواطنة العالميّة،[1] فقد اتّخذ هذا المفهوم اتجاهًا تربويًّا عامًّا، يُزكّيه عددٌ غيرُ قليل من المؤسّسات التربويّة الرسميّة في معظم الدول الأعضاء.
يهدف الإطارُ العامّ للمواطنة العالميّة إلى إنشاء جيل جديد، متمكّنٍ علميًّا وفكريًّا، يساهم بفعّاليّة في قضايا العالم ومواجهة تحدّياته، من أجل ضمان مساحةٍ كافيةٍ من الحريّة والاندماج والأمن والسلام لجميع الأفراد. غير أنّ هذا التوجّه لا يكتفي بالدعوة إلى التفكير بالقضايا العالميّة بشكل نقديّ، بل إلى المشاركة الفعليّة أيضًا في حركةٍ معاكسةٍ للعنصريّة والفساد السياسيّ والاقتصاديّ، وإلى التعاون مع سائر المؤمنين بمبادئ مشتركة.
ولا يقتصر مفهومُ "المواطَنة العالميّة" على القضايا السياسيّة والأمنيّة، بل يتعدّاها إلى الوعي الصحّيّ والاجتماعيّ. ومن ذلك: الاعتراضُ على المنشآت التي تضرب عرض الحائط بحقوق الناس والبيئة والاقتصادات المحلّيّة، والاعتراضُ على الفساد الإعلاميّ والطبّيّ والقضائيّ والتعليميّ.
والحقّ أنّ تطورّ تقنية الاتصالات لم يترك عذرًا لأيٍّ كان بأن يجهل ما يحيط به من فساد وتلوّث وظلم سياسيّ ومعيشيّ. وعليه، فإنّ المواطن في كلّ مكان مسؤولٌ عن اكتساب هذه المعرفة، وعن تحديد موقفه، والتعبير عنه، والمشاركة في تحمّل المسؤوليّة الجماعيّة، مع مراعاة ظروفه وقدرته.
المواطَنة العالميّة في المناهج الدراسيّة
لقد تحوّلت "المواطنة العالميّة" إلى مستندٍ تُبنى عليه موادُّ دراسيّةٌ متنوّعة في مختلف دول العالم. إذ عمدتْ مدارسُ كثيرة إلى "إعادة النظر في مناهجها التعليميّة، وإعادةِ تصميم موادّ المواطنة لكي تتلاءم مع التوجّه العالمي الجديد."[2] إلّا أنّ غرس ثقافة المواطنة العالميّة في أذهان الجيل الجديد لا يستدعي بالضرورة أن يُفرَزَ لها وقتٌ خاصّ، أو أن تُدرَّسَ كمادّة مستقلّة، بل يمكن أن تُدمج قيمُها ومفرداتُها ومبادئُها ضمن جميع النشاطات التعليميّة في المدارس، بحيث ينمو الأطفالُ على احترامها وتقبّلها ومن ثمّ تبنّيها.
تبنّى هذا التوجّهَ كتّاب واجتماعيون أمثال جايمس بانكس،[3] الذي رأى أنّ من الضروريّ تغييرَ التعليم المحليّ "بسبب ما يشهده العالمُ من تغيير في البنى السكّانيّة، والعدد الهائل من النازحين، وأحقّيّةِ التعليم وتوفير حقوق المواطنة الكاملة لهم."
المواطَنة العالميّة وثقافة المقاطعة والمواجهة
أحد الأمثلة الحيّة على المواطَنة العالميّة هو التيّار الشعبيّ العريض في أوروبا الذي يبادر إلى تحركات مساندة للقضايا العربيّة، كما حصل أثناء الاعتداء على غزّة والحرب على العراق والتضامن مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام في صيف العام 2017. وتُعتبر حركاتُ مقاطعة الكيان الصهيونيّ تعبيرًا حقيقيًّا عن هذا التوجّه العالميّ المتصاعد.
فإذا كان صحيحًا أنّ المواطنة العالميّة تحثّ على تقبّل الآخر، فإنّ هذا التقبّل مرهونٌ باحترام هذا الآخر لحقوق الفرد ومصالحه، وتقبّلِه لوجوده. وإلّا فإنّ الاعتراض والمقاطعة والمواجهة هي في صميم ثقافة المواطنة العالميّة.
المواطَنة العالميّة: الاستغلال والنفاق
على أنّ مبدأ "المواطَنة العالميّة" قد يستغلّه المروِّجون لـ"ثقافة السلام،" الساعية إلى طمس حقوق الخاضعين للاضطهاد والاحتلال. ولذلك فإنّ القيّمين على البرامج التعليميّة مسؤولون عن تقديم ذلك المبدأ في إطاره الصحيح. وهم مطالَبون أيضًا بالحرص على عدم تناقضه مع المبادئ الوطنيّة لمصلحة أيّ طرفٍ أجنبيّ.
فلئن كان صائبًا أنّ المواطَنة العالميّة قد تشكّل تهديدًا لبعض سمات "الهويّة" و"الخصوصيّة" و"الأصالة" (اعتبر لينش، مثلًا، أنّ المفهوم يقوِّض الأمنَ الوطنيّ، ويعرّض قيمَ المجتمع الأميريكيّ للزوال، ويرفع مصالحَ الآخرين فوق مصالح الدولة، ويمنح دولَ الجنوب حقّ المطالبة بمكاسب الدول الغنيّة)،[4] فإنّ تجاهل خطر الفساد والعنصريّة والتطرّف والإرهاب والاستغلال أكبرُ أثرًا. ولذلك فإنّ توسيع مفهوم الهويّة والمواطنة أصبح لازمًا لضمان التفاعل الحقيقيّ بين البشر. [5]
ولعلّ البحث في هذا الإطار يضعُنا أمام أسئلة أكثرعمقًا حول ثقافة "المواطنة العالميّة" وإشكاليّة الواقع السياسيّ في عدد من الدول الغربيّة. فهذه الدول استضافت أعدادًا كبيرةً من اللاجئين والمهاجرين، وقامت بتعديلاتٍ جوهريّة في سياساتها وقوانينها من أجل احتوائهم، وخصَّصتْ ميزانيّاتٍ كبيرة لرعايتهم؛ إلّا أنّ بعضَها يشارك في الوقت عينه في صنع سياسات وقرارات تؤجّج الحروبَ والنزاعات في دول النزوح. فهل سياسات الهجرة واللجوء الإيجابيّة تلغي مسؤوليّةَ هذه الدول عن سياساتها تجاه الدول التي أتى منها أولئك اللاجئون والنازحون؟
خاتمة
لا شكّ في أنّ مفهوم "المواطَنة،" بشقّيْه المحلّيّ والعالميّ، أصبح يحتاج إلى إعادة تعريف من وجهة النظر السياسيّة والقانونيّة ليصبح أكثرَ حداثةً، وليستطيع مواكبةَ التغيير في المجال التربويّ وحمايتِه من الاستغلال وسوءِ التوجيه. ذلك أنّ الوعي الشعبيّ والإنسانيّ تخطّى الأطرَ الرسميّة، وبنى عليها فلسفتَه الخاصّة، وابتكر أنماطًا من التواصل الحقيقيّ الذي لا يعترف بأيّ حدود. فالمواطنة العالميّة، كثقافة ونمط حياة، تُعتبر منطلقًا لممارسة الحقّ الإنسانيّ بكلّ أشكاله ومواقعه، وثورةً على الظلم والفساد والعنصريّة في كل مكان. بل هي ثقافة جديدة ترفض الاعتراف بأنصاف المبادئ وأنصاف الحقوق، وتبتكر أدواتٍ جديدةً للرفض والتغيير.
الدوحة
[1] اليونيسكو ومنظمة مدارس من أجل شباب المستقبل. (دراسة مموّلة من الاتحاد الأوروبي)، الإطار العام للمواطنة العالمية.
http://cutt.us/d39jZ
[2] شهلا ذهبيون، "المواطنة العالميّة وآثارُها على أهداف المناهج الدراسية في عصر العولمة،" مجلة الدراسات التربوية الدولية، العدد 6، رقم 1 ، 2014.
[3] جايمس بانكس، "الاختلاف، الهويّة الجماعيّة، والمواطنة العالميّة في عصر العولمة،" مجلة الباحث التربوي، العدد رقم 37، رقم 3، 2008، ص 129 ــــ 139.
[4] دومينيك لينش، "المواطنة العالميّة تحطّم القيم الأميركيّة،"http://cutt.us/llP67
[5] ماري جوي بيغوزي، "وجهة نظر اليونيسكو حول تعليم المواطنة العالمية،" مجلة المراجعة التربويّة، المنظّمة الدوليّة للتربية والثقافة والعلوم، 58:1، 2006، ص 1 ــــ 4.