عندما طلبتْ مني العزيزة زينب، زوجةُ الرفيق ماهر، المساهمةَ في تقديم قطعة مكتوبة عن تجربتي مع ماهر لكيْ تُنشرَ في ملفٍّ يصدر عن الآداب، كانت ردّةُ فعلي الفوريّة أنّ هذا يشرِّفني، وأنّي سأقوم بذلك بالتأكيد.
كنتُ أعلم أنّ هذه ليست بالمهمّة السهلة، لا لأنّني لم أكتب بالعربيّة منذ مدّة طويلة فحسب، بل لأنّي كذلك سأكتب عن ماهر اليماني، الصديق العزيز، ورفيق النضال.
ماهر القائد المناضل، المقاتل بتواضعٍ وصمت، صاحب كلِّ الناس، الشديد والقاسي مع الأعداء، والعاطفيّ والحنون في تعامله مع المقرّبين والأصدقاء وعموم الناس.
ماهر النظيف الشريف الكريم.
ماهر صاحب الرؤية السياسيّة الواضحة، وملخَّصُها: أنّ الكفاح المسلّح هو العاملُ الأساس في تحرير فلسطين، وهو الذي يَرفد أيَّ عمليّةٍ نضاليّة - أكانت سياسيّةً أمْ شعبيّةً أمْ غير ذلك - بمصدر القوّة للوصول إلى هدف التحرير والعودة والعدالة لشعبنا المقهور والثائر.
ماهر الذي لم ييأسْ ولم يستسلمْ يومًا، وكان على ثقة بانتصار ثورة شعبنا وكافّة الثورات التي تقاتل لتحقيق الأهداف العادلة والسامية.
وهنا لا بدّ من الذّكر أنّ ماهر لم يكن رومانسيًّا. فيقينُه بالانتصار كان يعود إلى تجربته الكفاحيّة، وإلى الفكر الثوريّ الذي يتمتّع به، وإلى التصاقه بالجماهير، وإلى عملِه اليوميّ الجادّ؛ ويعود كذلك إلى تركيزه الدائم، خصوصًا في السنوات الأخيرة، على عاملين. أوّلًا: بناء الكوادر الشابّة، وتدريبها، ومنحها المهاراتِ اللازمةَ لإكمال المهامّ النضاليّة. ثانيًا: العمل على استمرار تثوير الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، من خلال مختلف الأطر، حتّى تكونَ على الدوام التنظيمَ الثوريَّ الجديرَ بتضحيات الجماهير الفقيرة الكادحة، وبتضحيات القادة أمثال "الحكيم" ووديع حدّاد وغسان كنفاني وأبي علي مصطفى وأبي ماهر وجيفارا غزّة، والآن ماهر اليماني، وبتضحيات الأجيال الجديدة التي تواصل العطاءَ على درب الثورة. ولطالما جاهر ماهر برفضه للحلول الاستسلاميّة التسوويّة، وما أكثرَها: من مشروع روجرز، حتّى أوسلو، مع حرصه الدائم على الوحدة الوطنيّة.
عندما نكون قريبين من ماهر نشعر بالقرب من فلسطين، وبأنّ تحريرَها وهزيمةَ العدوّ واقع لا محالة، طال الزمنُ أو قصر.
***
كنتُ قد علمتُ بمرض ماهر منه شخصيًّا، وذلك في منتصف نوفمبر من العام 2018، عندما اتّصل بي ليعزّيَني بوفاة والدتي. قال لي إنّه تجنّب أنْ يبلغَني بالأمر قبل ذلك الوقت لأنّه كان على علمٍ بأنّ حالتي الصحّيّة حرجة، ولم يكن يريد أنْ يزعجَني خلال مرضي. هكذا هو ماهر: يفكّر في الآخرين قبل نفسه. والحقّ أنّني قلقتُ كثيرًا عندما أخبرني أنّه مصابٌ بسرطان الرئة، ذلك المرضِ اللعينِ العضال الذي تمكّن منه، فلم يمنحْه الفرصةَ ليقاتلَه ويهزمَه كما كان دائمًا يقاتل أعداءه ويهزمهم.
خلال المكالمة قلتُ له إنّني سأحاول أنْ أسافر إلى بيروت لرؤيته إذا سمح لي الأطبّاء بذلك؛ فقد كنتُ في طور التحضير لعمليّةٍ جراحيّةٍ في كانون الثاني 2019. وعندما أقفلتُ الخطّ مع ماهر أدمعتْ عينايَ لأنّي شعرتُ أنّ حالته خطيرة. وازداد قلقي عندما أجريتُ بعض الاتصالات بأصدقاء مشتركين، وبالدكتور (...)، وأدركتُ أنّ الوقت المتبقّي لماهر محدود.
للأسف خضعتُ لعمليّةٍ جراحيّةٍ دقيقة، ولم أستطع السفرَ للقائه. لكنني كنتُ دائمَ الاتصال به وبزينب وبأصدقائنا المشتركين الكثر، واستطعتُ أنْ أوصلَ إليه تحيّاتي وسلامي من خلال ولدي الذي زار بيروت مرّتيْن خلال مرض ماهر، وكان قد تعرّف إليه منذ سنواتٍ عدّة، وأصبح يكنّ له الكثيرَ من المحبّة والاحترام، وقد شارك في تشييعه نيابةً عنّي.
لقد ترك موتُ ماهر فيَّ أكبرَ الأثر. فلقد فقدتُ، على المستوى الشخصيّ، رفيقًا مخلصًا. كما خسر شعبُنا فدائيًّا قلّ نظيرُه في هذا الزمن. وخسرت الثورةُ الفلسطينيّة قائدًا ميدانيًّا من الطراز الأوّل.
***
توطّدت علاقتي بماهر بعد أوّل مناورة عسكريّة نفّذها قطاعُ الطلّاب في "الجبهة."
التقيت ماهر المرّةَ الأولى خلال أوّل معموديّةِ نارٍ لي. كان ذلك في العام 1979 على ما أعتقد، وكنتُ طالبَ جامعة في الثامنة عشرة من عمري. كنتُ أسمع عنه، وقد تبادل معي بعضَ الكلمات في ذلك اليوم، فأدركتُ سريعًا أنّه من طينةٍ مميّزةٍ وخاصّة. ومنذ ذلك الحين تعدّدتْ لقاءاتُنا، وخصوصًا خلال التدريبات العسكريّة التي كنّا نخضع لها.
توطّدت العلاقةُ بماهر بعد أوّل مناورة عسكريّة نفّذها قطاعُ الطلّاب في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، بإشرافٍ من القطاع العسكريّ، الذي كان ماهر يحتلّ موقعَ مسؤوليّةٍ رفيعةٍ فيه. في ذلك الوقت، وفي ظروف الحرب والاجتياحات المتعدّدة التي شنّها العدوُّ الصهيونيّ واليمينُ اللبنانيُّ الفاشيّ على المقاومة الفلسطينيّة والقوى الوطنيّة اللبنانيّة، كنّا في قطاع الطلّاب نُستدعى للاستنفار والخدمةِ العسكريّة بشكلٍ متكرّر، فأصبحتُ ألتقي ماهرًا بوتيرةٍ متواصلة.
أتذكّر أنّنا عندما كنّا على خطوط جبهة القتال في الشيّاح (سنة 1978 على ما أذكر)، أصيب معنا الرفيق "أبو الرائد" برصاصة قنّاص، وكان مسؤولَ المحور، وهو رفيقُ دربٍ وسلاحٍ لماهر. حضر ماهر إلى الموقع فور علمه، وكان متأثّرًا جدًّا. وراح يسهر طوال الليالي القليلة التي أمضاها أبو الرائد في المستشفى حتّى استشهاده، وبقي إلى جانبه حتّى واراه الثرى.
***
خلال الاجتياح الصهيونيّ للبنان سنة 1982، فُرِزْنا للقتال في جبهة الدامور - الناعمة، جنوبَ بيروت، في وجه التقدّم المتسارع للجيش الصهيونيّ. وعندما قام العدوّ بعمليّة التفاف باتّجاه البقاع اللبنانيّ، صدرتْ إلينا الأوامرُ بالتوجّه نحو بيروت، وهكذا كان. وبقيتُ في بيروت الغربيّة التي حوصرتْ وقُصفتْ بشكل وحشيّ ومتواصل لعدّة أشهر.
في تلك الفترة تلقّيتُ اتصالًا من ماهر. طلب منّي أنْ ألاقيَه بعد نصف ساعة في مكانٍ اتّفقنا عليه، وأنْ أُحضرَ معي بعضَ الأشياء التي كان في حاجةٍ إليها. توجّهتُ للقائه، وفوجئتُ أنّه كان بمعيّة الحكيم جورج حبش، وسنحتْ لي الفرصةُ أنْ ألقي التحيّةَ عليه. بعد ذلك، نقله ماهر على عجلٍ إلى مكانٍ آخر، إذ كانت طائراتُّ العدوّ تبحث عن الحكيم بشكلٍ متواصلٍ لتصفيته. المعلوم أنّ "الجبهة" كانت قد انتدبتْ ماهرًا لمهمّة حماية الأمين العامّ، لِما يتمتّع به (أيْ ماهر) من حسٍّ أمنيّ ودرايةٍ وخبرةٍ في هذا المجال. وهذه المسؤوليّة تعكس مقدارَ الثقة التي يتمتّع بها ماهر عند الجبهة والحكيم.
خلال حصار بيروت التقيتُ الرفيق ماهر، حتى يوم خروج قوّات منظمة التحرير من لبنان
خلال حصار بيروت التقيتُ الرفيق ماهر عدّة مرّات ، حتّى ذلك اليوم المشؤوم الذي أُخرجتْ فيه القوّاتُ التابعةُ لمنظمة التحرير الفلسطينيّة من لبنان، بالسفن، عبر ميناء بيروت. وفي اليوم المُقرَّر لمغادرة قيادة "الجبهة" بيروتَ، التقيتُه أيضًا، وهتفنا معًا حتى بُحّت حناجرُنا، وأطلقنا الرصاصَ في الهواء تحيّةً للمقاتلين المنتقلين إلى ساحاتٍ أخرى. يومَها سألتُه: "ألا تخشى البقاءَ في بيروت بعد انسحاب قوّات الثورة؟" (كنّا قد مُنحنا خيارَ الانتقال، والبعضُ أُمر بالانتقال من قِبل تنظيمه). فأفهمني أنّه يجب أن يبقى مَن يرعى شؤونَ التنظيم والثورة والجماهير.
هكذا كان ماهر: متفانيًا، وملتزمًا، وشجاعًا إلى أبعد الحدود.
***
صيف العام 1982، قُرع بابُ المنزل. فتحتُ الباب، فإذ بي أُفاجأ بماهر يسألني إنْ كان يستطيع البقاء في بيتي. أجبتُه، بلا تردّد، طبعًا، على الرحب والسعة.
كان ماهر متعبًا في ذلك اليوم، وكثَّ اللحية. دخل، واستحمّ، واستسلم إلى النوم فورًا. إذا أسعفتْني الذاكرة، كان ذلك قبيْل خروج قوّات منظّمة التحرير من لبنان، وخلال التحضير لدخول القوّات الدوليّة إلى بيروت. وهذا يفسّر سؤالَ ماهر إنْ كان يستطيع البقاءَ في منزلي (منزل العائلة)؛ ذلك لأنّ الوضع كان يتطوّر ليصبح خطرًا أمنيًّا، وكان هناك الكثيرُ من أجهزة المخابرات التي تلاحق ماهر اليماني، وأوّلُها الموساد.
في اليوم التالي، حلق ماهر لحيتَه وشذّب شعرَه، وخرج باكرًا، بعد أنْ خبّأنا معًا داخل جهاز التلفاز بعضَ المستندات المهمّة، وخبّأنا أيضًا بعضَ السلاح في أماكنَ أخرى. اتّفقنا أنْ نحيط بقاءه في المنزل بسرّيّةٍ تامّة. لكنْ تبيّن لاحقًا أنّ هذه ليست بالمهمّة السهلة؛ فعلى الرغم من أنّ بيروت كانت تقريبًا خاليةً من السكّان، فإنّ بيتي كان مقصدًا لكثيرٍ من الأصدقاء الذين صمدوا خلال الحصار. ولذلك اتفقنا أنْ نُعرِّف عنه باسم "ماهر،" لا اليماني.
طبعًا، بعض الأصدقاء كان يعرف مَن هو، ولكنّهم كانوا موضعَ ثقة. فيما بعد، عَرض عليّ ماهر أنْ أرافقَه في بعض مهمّاته. فقصدْنا مخازنَ السلاح والذخيرة التي يَعرف ماهر مواقعَها جيّدًا، نفتّش في بعضها تحت الأنقاض عمّا تبقّى منها، وبعضُها كان سليمًا. وكان ماهر يتّصل ببعض الرفاق لنقل المحتويات إلى أماكنَ اخرى؛ فهو كالعادة يحضِّر للمعركة القادمة.
واصل ماهر استعمالَ منزلي مقرًّا للمبيت بشكل متقطّع خلال حصار بيروت. آنذاك، عاد منزلي ليعجَّ بالأصدقاء. كنّا نخوض نقاشاتٍ متعدّدةً عن الوضع العسكريّ والسياسيّ. وقد جذب ماهر، بشخصيّته وشفافيّته وبساطته، الجميعَ، بمن في ذلك الكثير ممّن لم يكن يعرف هويّتَه الحقيقيّة.
***
قابلتُ ماهر بعد أيّام قليلة من مذابح صبرا وشاتيلا، التي ارتكبتْها قوّاتُ اليمين الفاشيّ اللبنانيّ بإشرافٍ مباشرٍ وتوجيهٍ من الجيش الصهيونيّ. كانت مرحلةً صعبةً جدًّا، وما زلت أذكر قولَه: "العدس بترابه وكلّ شي بحسابه"؛ فهو يرى أنّ الحرب جولات، وسيتسنّى لشعبنا الردّ.
لكنّ الجدير ذكرُه أنّ ماهر كان أخلاقيًّا جدًّا، حتى في عزّ الحرب؛ فهو كان دائمًا ما يَجْهد لتحييد الأبرياء.
***
في الفترة اللاحقة، انتقل ماهر إلى الجزائر، وانتقلتُ أنا إلى الخليج العربيّ. وقد التقينا مرّةً حين قدم إلى الخليج، وبات في منزلي. وقد سعدتُ لرؤيته بعد انقطاع دام عدّة سنوات، وخضنا نقاشاتٍ طويلةً وغنيّةً خلال تلك الزيارة. كنتُ حينها قد تزوّجتُ، وسنحت الفرصةُ لزوجتي أن تتعرّفَ إلى ماهر عن كثب، وأصبح صديقًا للعائلة. فيما بعد، صرنا نلتقي بصورةٍ دوريّةٍ في بيروت خلال زياراتي المتعدّدة، وكنّا دائمًا نتبادل الآراءَ ونغوص في نقاشات عن العائلة والحياة وعن الأوضاع في "الجبهة" وفلسطين والعالم.
***
لا شكّ في أنّني سأفتقد حضورَ ماهر في حياتي، كما هو شأنُ الكثيرين الذين رافقوه وعرفوه. عهدي له أن أستمرّ على الطريق الذي خطّه وآمن به، وأنْ أحاولَ أنْ أسهمَ في تحقيق ولو القليل من أهدافه.
سلامٌ لك وعليك يا ماهر، ولن أقول الوداع، بل إلى اللقاء. فأنت ستبقى حاضرًا في ضميري.
أوروبا