على الرغم من أنّ الفساد قاتلٌ محترفٌ ومنظَّم، فإنّه يُطلق النارَ على الجميع بطريقةٍ عشوائيّة. والغريب أنّه دائمًا، و"بالصّدْفة،" يصيب الوطنَ والمواطنَ في الرأس.
نعيش الفساد، ونلمسه، ونتكلّم كثيرًا عنه. كما نشاهد الكثيرَ من الألم والغضب الشعبيّ على مظاهر الفساد المنتشر في المجتمعات العربيّة، أكان ذلك على مستوى مؤسّسات الدول أمْ في المؤسّسات الاجتماعيّة والمدنيّة والخاصّة.
الفساد ليس مجرّدَ "شخص" لاأخلاقيّ، أو لصٍّ عابر. إنّه، في الجوهر، بنية ومنظومة مُمأسسة عميقة. وهو ظاهرة مدمِّرة، بالمعنى الاجتماعيّ الوطنيّ والقوميّ، حين يصبح أداةً للسيطرة والنهب لمصلحةٍ خاصّةٍ، أو لمصلحة فئةٍ أو طبقةٍ مهيمنة، أو بتشجيعٍ من قوًى خارجيّة.
بهذا المعنى لا يقف الفسادُ عند حدٍّ معين، إذ هناك فسادٌ مرتبطٌ بمفهوم العمل العامّ. فالمستفيد من الفساد لا يَلْزم، بالضرورة، أنْ يسرقَ؛ يكفي أن يبدِّد وقتَ العمل، أو أن يسيءَ إلى الناس، أو أنْ يستغلَّ قوّةَ موقعه ووظيفته. صحيح أنّه، في هذه الحالة، لا يسرق، بالمعنى المباشر للسرقة؛ غير أنّ تحايلَه على عدم القيام بواجبه بكامل طاقته، أو من أجل خدمة الأصدقاء والأقرباء أو "أبناء التنظيم،" أو ممارستَه النفاقَ من أجل الوصول إلى مواقع أعلى، تبديدٌ وهدرٌ للوقت والمصادر، وإساءةٌ للمسؤوليّة، وتحطيمٌ للقيم والوعي الجمعيّ ــ سواء جرى ذلك في مؤسّسة حكوميّة أو خاصّة.
المستفيد من الفساد لا يَلْزم، بالضرورة، أنْ يسرقَ؛ يكفي أن يبدِّد وقتَ العمل، أو أن يسيءَ إلى الناس
ومع ذلك، وعلى الرغم من خطورة الفساد، فإنّ ما يفوقه خطرًا وتدميرًا هو الإفساد. ذلك لأنّ الفساد يبقى، في بعض أبعاده، ظاهرةً موضوعيّة؛ بمعنى أنّه قد يكون نتاجًا للاختلالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بوهمِ تجاوُزِها، من خلال توظيفها (بصورةٍ لاأخلاقيّة) لصالح الفائدة الشخصيّة أو الفئويّة. أمّا في حالة الإفساد، فنحن أمام عمليّةٍ واعيةٍ ومقصودة، تنفّذُها قوًى داخليّةٌ تستهدف الهيمنةَ على المجتمع من أجل جنْي الأرباحِ واستنزافِ ثرواته وقطعِ الطريق على تطوّره؛ أو قد تنفّذها قوًى خارجيّةٌ بغيةَ تجويف المجتمع وضرْبِ مرتكزات وحدته وانتمائه بهدف إخضاعه؛ وفي بعض الحالات تجري عمليّة الإفساد بالتعاون والتنسيق ما بين قوًى داخليّة وخارجيّة.
***
في هذا السياق، يحتلّ الفسادُ والإفسادُ الثقافيّ مكانةً مركزيّةً جدًّا، لِما يشكّله من خطورةٍ مروِّعةٍ على الوعي والذاكرة الجمعيّة، وعلى ثقافة الانتماء والاستقلال والمقاومة والكرامة الوطنيّة والقوميّة، مقابلَ نشرِ "ثقافة" الخضوع والتبعيّة وتبريرها.
عمليّة الفساد والإفساد الثقافيّ، الواعيةُ أو غير الواعية، تضع المجتمعَ في مواجهة مشروعٍ منهجيٍّ منظَّم، يعمل - على المدى البعيد - من أجل تدمير عناصر قوّته، وحجْرِ إمكانيّات تطوّره. وذلك يشمل تشويهَ الوعي، والعبثَ بالذاكرة، وهزَّ ثقةِ الإنسان بذاته وهويّته وثقافته الوطنيّة والقوميّة والحضاريّة. هذا من جانب. ومن جانبٍ آخر يعمل هذا المشروعُ على حقن المجتمع تدريجيًّا بـ"قيمٍ" نقيضةٍ تقوم على الأنانيّة، والاستلابِ، وتعزيزِ سيكولوجيّة الدونيّة في مواجهة الآخر، ونشرِ الثقافة الاستهلاكيّة.
أبرزُ مثالٍ على هذه الحقيقة ما نعيشُه هذه الأيّامَ في واقعنا العربيّ: من هبوطٍ مخيفٍ في دور المثقّف والثقافة، وتوليدٍ لـ"نخبةٍ" ثقافيّةٍ، هي منتوجٌ متراكمٌ لهيمنة البترودولار منذ سبعينيّات القرن الماضي - - بكلِّ ما يعنيه ذلك من الهيمنة على الفضاء الإعلاميّ، وتفريغِ المنظومات التعليميّة من محتواها الوطنيّ والقوميّ والتقدميّ، وشراءِ "المثقّفين." ويترافق ذلك مع اختراق المؤسّسات الاستعماريّة الغربيّة للمجتمعات العربيّة تحت يافطاتٍ برّاقة مثل: الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة.
لقد برهنتْ أحداثُ "الربيع العربيّ" على غيابٍ مفجعٍ لدور المثقّف العضويّ، أيِ الملتزمِ بقضايا الناس والشعب والأمّة. وتجلّى ذلك في افتقار الحَراكات الاجتماعيّة العربيّة إلى رؤيةٍ ثقافيّةٍ تَحرس أهدافَها، وتُبلوِر استراتيجيّاتِ نضالٍ تُبقيها ضمن أهداف التغيير الاجتماعيّ والنضال السياسيّ الوطنيّ والقوميّ التقدميّ. لهذا كان من السهل استخدامُ تلك الحَراكات أداةً في يد القوى الاستعماريّة والرجعيّة، المحلّيّةِ والإقليميّة، لفرض مشاريعها في السيطرة والتمزيق الاجتماعيّ الديمغرافيّ والجغرافيّ.
غيابُ دور النُّخب الثقافيّة العربيّة، أو ضعفُها، سمح لأمثال برنار هنري ليفي وبرهان غليون وميشيل كيلو وعزمي بشارة، على سبيل المثال، بأن يتقدّموا المشهدَ باعتبارهم "منظّري" الحَراكات الاجتماعيّة العربيّة: فيُغْرقوها في التنظير المبرمج، ويجعلوها مجرّدَ قطعانٍ منفلتةٍ تدمِّر بنى الدول والمجتمعات باسم "الثورة والتغيير،" ويُقْنعوها بأنّ القوى الاستعماريّة تشكّل ظهيرًا لها في مواجهة أنظمة القمع والديكتاتوريّة.
يستغلّ الفسادُ والإفسادُ الثقافيّ الاختلالاتِ المتراكمةَ، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ويوظّفُها بذكاءٍ ومهارةٍ لكي يخرِّب تلك البنى. ومن الأمثلة على ذلك: إيقاظُ الهويّات الجزئيّة بهدف العودة إلى الهويّات البدئيّة الأوّليّة، الطائفيّةِ والعِرقيّةِ والإثنيّةِ والقبليّةِ والجهويّة؛ الأمرُ الذي يتحوّل إلى ردّةٍ رجعيّةٍ عنيفة تدمِّر الهويّةَ القوميّةَ أو الوطنيّة وجوهرَها الإنسانيّ. وفي السياق ذاته تأتي ديناميّاتُ تجهيل المجتمع، من خلال مناهج تعليميّةٍ رجعيّةٍ ومتخلّفة، ونشرِ ثقافة الشعوذة والغيبيّات.
يستغلّ الإفسادُ الثقافيّ الاختلالاتِ المتراكمةَ، سياسيًّا واجتماعيًّا، ويوظّفُها بذكاءٍ لكي يخرِّب تلك البنى
هذا بالضبط ما تغذّيه قوى الاستعمار والتدخّل الخارجيّ، والقوى الاجتماعيّةُ الرجعيّةُ الداخليّة المرتبطةُ اقتصاديًّا ومصلحيًّا بالرأسمال العالميّ. إذ إنّ إشغالَ الشعب أو المجتمع الكبير بتناقضاته الداخليّة، وإغراقَه في القدريّة والتخلّف، أفضلُ وسيلةٍ لتدميره ذاتيًّا. وهذه العمليّة تشكّل أخطرَ عمليّة ارتدادٍ تاريخيّ اجتماعيّ، لكونها تستهدف العودةَ بالمجتمع إلى مرحلة التمزّق والجماعات الصغيرة، المعزولةِ، المنغلقةِ على هويّتها الجزئيّة، بديلًا من الهويّة الكبرى، القوميّةِ أو الوطنيّة.
السير في هذه العمليّة، بوعيٍ أو من دونه، لأسبابٍ داخليّةٍ أو خارجيّة، هو سقوط ثقافيّ وأخلاقيّ وسلوكيّ. فأن تحتلَّ الهويّاتُ الجزئيّةُ، والبدئيّةُ الأوّليّة، الهويّةَ الجمعيّةَ، يعني أن يُفضي الأمرُ إلى تخلخل المجتمع واهتزازِ ركائزه المتشكّلة عبر التاريخ، لتحلَّ محلَّها العنصريّةُ والشوفينيّةُ والاحترابُ والكراهيّة، بكلِّ ما يترتّب على ذلك من تبديدٍ للقدرات والثروات التي تراكمتْ بفعل تطوّر المجتمع ووحدته العامّة.
هذا ما تواجهه مجتمعاتُنا العربيّة: العودةُ بالأمّة والشعب والمجتمع الكبير إلى الهويّات الغريزيّة البدائيّة الأولى. وهو ما اشتغلتْ عليه قوى الاستعمار بصبرٍ وأناة، بصورةٍ عميقةٍ وتراكميّة، بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر. فكانت اتفاقيّةُ سايكس - بيكو (1916) ذروةَ هذه العمليّة، حيث جرى تقسيمُ الوطن العربيّ إلى أقطارٍ ودويْلاتٍ ومشيخاتٍ صغيرة. لقد جرى تفعيلُ الطائفيّة لتشويه وتدمير أهمّ دينيْن ومكوِّنيْن في الثقافة والحضارة في العالم العربيّ، وهما الإسلام والمسيحيّة: الأوّل من خلال تشظيته وحجْرِ تطوّره وتحويلِه إلى دين قتلٍ وكراهيةٍ وإرهاب؛ والثاني من خلال تغريبه وتظهير المسيحيين العرب وكأنّهم مجرّدُ أدوات للاستعمار، وفي حالاتٍ أخرى العمل على تهجيرهم.
هكذا، ومنذ بدء "الربيع العربيّ،" تشتغل مئاتُ القنوات الفضائيّة والصحف والصفحات والكتب والفتاوى، إلى جانب الاستخبارات والتدخّلات العسكريّة، على تأجيج "الهويّات الغريزيّة" باسم الدين والطوائف والمذاهب والقُطريّة. والهدف العميق هو تدميرُ ما راكمته الأمّةُ العربيّةُ من إرثٍ حضاريّ وإنسانيّ ووعي قوميّ، وذلك لقطع الطريق على بناء الدولة القوميّة القويّة والمستقلّة، ولإعادة صياغة اتفاقيّات سايكس - بيكو: من مستوى التقسيم الجغرافيّ، إلى سايكس - بيكو منقّحة تقوم على التقسيم السكّانيّ الطائفيّ الديمغرافيّ. وفي هذا السياق تأتي سياساتُ التطبيع وثقافةُ التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ، بما يمهِّد لتحويله إلى مكوِّن طبيعيٍّ في قلب الأمّة العربيّة، وذلك من خلال نشر ثقافة الهزيمة و"القبول بالأمر الواقع" واختراع أعداء وهميين (إيران).
***
على المجتمع أنْ يستيقظ. وعلى القوى السياسيّة والاجتماعيّة، والمثقفين والسياسيين ورجال الدين والإعلام، النهوضُ من أجل التصدّي لثقافة التجهيل والتطبيع، التي تستهدف العودةَ إلى الهويّات القاتلة وتغذيتِها، وتكريس واقع التجزئة والتخلّف والرجعيّة. وفي سياق هذه المعادلة، تجدر الإشارةُ إلى أنّ من حقّ كلّ جماعةٍ في المجتمع والأمّة أنْ تعتزّ بهويّتها الجزئيّة، لكنْ على قاعدة الاحترام العميق لوحدة المجتمع وهويّته الجمعيّة الأرقى.
من هنا تبدأ مقاومةُ التمزيق والتهميش والانعزال، وثقافةِ الذبح والحرق والتدمير والتكفير والإقصاء. ويبدأ الدفاعُ عن ثقافة الانتماء إلى الأمّة العربيّة، كقوميّةٍ جامعةٍ ذاتِ مضمونٍ إنسانيّ ديمقراطيّ تقدميّ، حاضنةٍ للجميع، مهما كانت خصوصيّاتُهم. هكذا تستقيم المعادلاتُ وتتناغم، بحيث لا تتجاوز ثقافةُ الانتماء الطائفيّ (أو الدينيّ أو الجهويّ أو الإثنيّ أو العِرقيّ أو القطْريّ) مبدأَ الانتماء القوميّ، الأكثر تطوّرًا واستجابةً لطموحات الأمّة بكافّة مكوّناتها. فالإنسان لا يتمايز عن الآخر في أمّته من أجل تهميشه ورفضه، أو من أجل الانعزال عن العالم، بل من أجل التكامل الإنسانيّ الأشمل، ومن أجل الارتقاء إلى ما هو أفضل.
هكذا نحافظ على "سجّادة" المجتمع، الوطن، الشعب، الأمّة، بكامل جمالها وألوانها البديعة. ذلك لأنّ العبث بخيوط السجّادة الوطنيّة - القوميّة، لأيّ سببٍ كان، لن يؤدّي سوى إلى تدميرها وتحويلها إلى مجرّد خيوطٍ مفصولةٍ ومبعثرةٍ لا معنى لها.
هنا يتجلّى دورُ المثقّف الحقيقيّ، المثقفِ المنتمي، المثقّفِ الذي يحرس روحَ المجتمع في الأدب والفنّ والإبداع في مختلف الحقول، المثقّف الذي لا يؤجّر قلمَه أو روحَه أو عقلَه أو وعيَه بكلّ أموال الدنيا؛ ذلك لأنّ مهمّته الإنسانيّة والوطنيّة والقوميّة تقتضي أنْ يبقى ملازمًا خطَّ الواجب الأعلى.
فلسطين المحتلّة