كادت الأحداثُ الأخيرة التي ألمّت بالجامعة اللبنانيّة أن تطمس صورةً وطنيّةً وأكاديميّةً مشرقةً يكاد كثيرون من الجيل الطالع يجهلونها. هذا المقال يحاول أن يسترجع تلك الصورة.
***
ساهم وجودُ الإرساليّات التبشيريّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تعزيز النهضة الفكريّة والعلميّة، وذلك من خلال مؤسّساتها التعليميّة التي أُنشئتْ في مختلف المناطق اللبنانيّة. ويعود ذلك إلى مرحلة "التنظيمات" العثمانيّة، التي اعتَبرتْ أنّ التعليم مرتبطٌ أساسًا بالأديان والمذاهب. وساهم ذلك في ظهور "الخصوصيّة اللبنانيّة،" القائمة على مبدأ وجوب التوازن بين الرؤى والطوائف. لكنّ جنوحَ هذه الأخيرة، في تلك الفترة، نحو الذات على حساب الدولة، وعلى حساب القيم المجتمعيّة التي تدعو إلى الانصهار في إطار المواطَنة، عزّز قوّة تلك المؤسّسات على ما سواها.
بقيت الأمورُ على هذا المنوال، حتّى تأسّس "اتحادُ الطلّاب العامّ" سنة 1948، فأشعل بحَراكه شرارةَ العمل على فضح تقصير السلطة، وتحريكِ الرأي العامّ من أجل تبنّي إنشاء جامعةٍ وطنيّةٍ رسميّة. وهكذا، وبعد نضالٍ طلّابيّ طويل، ومظاهراتٍ ومواجهاتٍ سقط فيها العديدُ من الجرحى والشهداء، أصدر الرئيس فؤاد شهاب المرسومَ رقم 2883/1959 الرامي إلى تنظيم الجامعة اللبنانيّة. وكان هذا أوّلَ نصٍّ تنظيميّ للجامعة، معلنًا رسميًّا انطلاقتَها وتكريسَها مؤسّسةً عاملةً من بين المؤسّسات الرسميّة للدولة.
***
رسّخت الجامعة اللبنانيّة، منذ انطلاقتها، ثلاثيّتَها الذهبيّة: طلّاب، أساتذة، موظّفون. وهو ما عزّز من قدرتها على التغلّب على مشاريع التقسيم، لا سيّما بعد اندلاع الحرب الأهليّة سنة 1975، وذلك من خلال:
- إحياء المجالس التمثيليّة لكونها السلطةَ الأكاديميّةَ الفعليّةَ الممثِّلةَ لأهل الجامعة، وإليها تستند شرعيّةُ القرارت المتّخذة.
- استرجاع صلاحيّات رئيس الجامعة ومجلسها تدريجيًّا.
- اعتماد الإنماء المتوازن على مستوى أداء مختلف الفروع والمناطق.
- إنجازاتها العلميّة، التي سنذكر بعضًا منها في ما بعد.
***
رفعت الجامعة اللبنانيّة، على مدار عقود، شعارَ العمل المنهجيّ والدؤوب، من أجل غدٍ أفضل، يسهم في رفع مستواها الأكاديميّ وتقدّمها في مجال البحث العلميّ. وبناءً عليه، فإنّ ما حصدَتْه شاهدٌ على حضورها الوازن في الساحة الأكاديميّة، وذلك بشهادة مؤسّسات دوليّة مرموقة. فقد نالت في العام 2019، مثلًا، الاعتمادَ المؤسّسيّ من المجلس الأعلى لتقويم البحوث والتعليم العالي (HCERES)، وهو مؤسّسة رسميّة مُعتمدة لتقويم مختلف مؤسّسات التعليم العالي في فرنسا.
ولو أردْنا المرورَ ببعضِ ما أنتجَتْه الجامعة سنة 2019، لوجدنا طلّابَ كلّيّة الصحّة العامّة يفوزون بالمرتبة الأولى في المباراة التي نظّمتها الوكالةُ الجامعيّة للفرنكوفونيّة ومنظّمةُ اليونيسكو، بالتعاون مع المركز المهنيّ للوساطة في جامعة القديس يوسف، والمنظّمة الألمانيّة GIZ، حول موضوع "الوساطة كوسيلة لحلّ النزاعات."
أمّا كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة، فقد اختارت منظّمةُ الأمم المتّحدة للتنمية الصناعيّة مشروعَها من بين المشاريع الخمسة الأولى القابلة للتنفيذ في مسابقة التخطيط المُدنيّ.
اختارت منظّمةُ التنمية الصناعيّة مشروع كلّيّة الفنون والعمارة
وفاز طلّابُ كلّيّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة بالمرتبة الأولى في المسابقة الجامعيّة Unleash Your Creativity، من خلال ابتكارهم فكرةً متميّزةً لجذب السيّاح إلى المواقع الخلّابة في لبنان.
كما فاز طلّابُ كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة بالمراتب الثماني الأولى في مسابقة "جسر اللغة الصينيّة،" التي أقامها معهدُ كونفوشيوس في جامعة القديس يوسف، ونظّمتْها السفارةُ الصينيّة في بيروت. وهي تُعدُّ أهمَّ منصّة لطلّاب الجامعات في العالم لدراسة اللغة الصينيّة.
وفاز طلّابُ كلّيّة الهندسة بالمرتبة الأولى على صعيد جامعات لبنان في المسابقة التي خُصّصتْ لمشاريع الروبوت والتحكّم، وقد أقامتها المنظّمةُ العالميّة للمهندسين الكهربائيين (IEEE).
أمّا كليّة العلوم، فقد نال بعضُ أساتذتها، مع زملاءَ آخرين، براءةَ اختراع مؤخّرًا بعد تصميمهم آلةً تعمل على إزالة السموم الفطريّة من الغذاء والأعلاف. وشارك فريقٌ من أساتذتها وطلّابها في مشروع بحثيّ أقامه المجلسُ الوطنيّ للبحوث العلميّة تحت عنوان "تكنولوجيا الـCube Sat،" الساعي إلى تطوير أوّل قمر صناعيّ في لبنان، من فئة Nano Satellite.
ثمّ إنّ إقامة الجامعة اللبنانيّة العديدَ من المؤتمرات العالميّة في صرحها شكّلتْ نقلةً نوعيّةً في دفع البحث العلميّ، لا سيّما في مجال علم المناعة والأمراض السرطانيّة، والأمن السيبرانيّ والبيانات الضخمة (BDCSIntell).
تضاف إلى ذلك مساعي الجامعة الحثيثة إلى ربط طلّابها بسوق العمل من خلال إقامة المعارض الجامعيّة المتخصّصة، كمعرض العلوم الأوّل للمعلوماتيّة (CSCE’19).
كلُّ ذلك أسهم في تثبيت موقع الجامعة الرياديّ في مجال البحث العلميّ، ومكّنها من تبوُّء مكانةٍ مرموقةٍ بين مؤسّسات التعليم العالي في لبنان والعالم، ومن سدّ الفجوة المعرفيّة بين الباحثين والطلّاب من خلال تبادل المعلومات وتطوير منهجيّات العمل الأكاديميّ والبحثيّ. وهو ما انعكس، بدوره، إيجابًا على تطوّر المجتمع المحلّيّ في العديد من النواحي، لاسيّما في مجال سعي الدولة إلى الانتقال نحو الحكومة الرقميّة، وتحويل بيانات القطاعات الخاصّة والعامّة إلى مادّة ذكيّة، وتطوير الخدمات معرفيًّا، وتعزيز فرص نجاح الاقتصاد الرقميّ.
إنّ مسؤوليّة الجامعة تكمن بشكل جليّ في العمل على منح المجتمع أكبرَ قدرٍ ممكن من القدرات والوسائل، وتكوين أجيال تمتلك رؤيةً وبصيرةً وتتمسّك بهويّتها وبمنظومة القيم التي تبني الإنسان. كما أنّ إنعاش العمل النقابيّ الطلابيّ، من خلال إجراء الانتخابات الطلابيّة المُنتظَرة أواخر العام الحاليّ، سيساعد في ترسيخ قيم العمل الديمقراطيّ، كتجربة أولى للطالب في العمل المجتمعيّ، وبالتالي ستعزّز مفهوم الشراكة الذي طرحه رئيسُ الجامعة البروفسور فؤاد أيّوب في لقائه الأخير مع الطلّاب.
أمّا على المستوى الإداريّ والأكاديميّ، فالجامعة مسؤولة عن استكمال خارطة الطريق التي طرحها رئيسُ الجامعة من أجل تطوير الجامعة ومكافحة أيّ محاولة للعبث بشفافيّة هذا الصرح الإداريّة المالية والتربويّة.
وأخيرًا، ولأنّ مؤشِّر تقدّم الجامعة لا يُقاس بعدد طلّابها وأساتذتها فقط، بل أيضًا بحجم البحث العلميّ المنتج شرط أن ينعكس إيجابًا على واقع المجتمع المحليّ، فإننا نجد من الضروري زيادة الإنفاق على هذا القطاع.
بيروت
مراجع
- د. محسن صالح، "دور الدولة في التعليم العالي، وخاصّة الجامعة اللبنانيّة،" المركز الاستشاريّ للدراسات والتوثيق، 2009.
- د. عصام نعمة إسماعيل، "تشويه الجامعة اللبنانيّة... عودة إلى سياسة الانتداب،" جريدة الأخبار، 21 آب 2018.
- مكتب التواصل والمعلومات في الجامعة اللبنانيّة.