(حوار مع شربل نحاس، أمين عام حركة "مواطنون ومواطنات في دولة،" أجراه: بشّار اللقّيس)
"السياسيّون معزولون عن الواقع": هكذا يُعَنون الدكتور شربل نحّاس مقاربتَه للأزمة السياسيّة والاقتصاديّة الراهنة في لبنان. لقد فقد النظامُ السياسيّ مشروعيّتَه، لا كسلطةٍ حاكمةٍ فحسب، بل كمنظومةٍ قام عليها الواقعُ اللبنانيُّ منذ ما قبل اتفاق الطائف أيضًا. وبدأ المواطن يشعر بحاجته إلى الدولة، وإلى عدم البقاء رهينًا لمنظومة الاستزلام والانتفاع الطائفيّ.
***
* بدايةً، دكتور، كيف توصّف ما يحصل اليوم على مستوى المشهد اللبنانيّ؟
- بعد أحد عشر يومًا على انطلاق التظاهرات، يبدو واضحًا أنّ السلطةَ لم تفهمْ، بعدُ، واقعَ الشارع ونبضَه. ولقد تحرّك الناس نتيجةً للأزمة الماليّة والفشل السياسيّ، لا العكس. بمعنًى آخر: الحراك لم يولّدْ أزمةً، بل عبّر عن أزمة، وعن تكشُّف الطبقة السياسيّة عن جهلها بالواقع. اليوم، دخلنا مرحلةً انتقاليّة، بل نحن نعيش في صلبها وصميمها.
* كنتم قد طلبتم ألّا يتحاورَ المتظاهرون مع أركانِ السلطة. ألا ترى في هذا الطلب تجاوزًا الواقع؟
- نحن لا نقصد بالمقاطعة ألّا نتحاورَ مطلقًا. نحن نقصد أنّ منطقَ الواقع اليوم بات على مسافةٍ كبرى من منطق السلطة في لبنان، بحيث تكاد تنعدم المشترَكاتُ بينهما. لقد دعت السلطةُ إلى "التحاور" فعلًا. لكنْ ما معنى أنْ تدعو إلى ذلك، وتعلنَ عجزَها وجهلَها في الوقت نفسِه؟! هذا أمرٌ لا معنى له على الإطلاق! في الحقيقة، لا يُمْكن عاقلًا أن يَقْبل بالحوار مع السلطة إلّا من باب تأمينِ انتقالٍ هادئٍ للسلطة: انتقالٍ ممّن أعلن جهلَه وعجزَه، إلى مَن أعلن معرفتَه وقدرتَه وتصميمَه على بناء الدولة. ومن فضائل هذا الانتقال أنّه سيَحُول دون تدخّل المخابرات والسفارات الأجنبيّة، ومن ثم دون انزلاقِ لبنان إلى حساباتٍ خارجيّةٍ لا نريدها بالتأكيد.
* المصارف مقفلة كما تعلمون. وهناك مخاوفُ عند إعادة فتح هذه المصارف من خللٍ في الطلب على العملة الصعبة. كيف تنظرون إلى هذه المسألة؟
- بالتزامن مع حديث رئيس الجمهوريّة، ورئيس الحكومة من قبله، عن الدعوة إلى "الحوار،" حصل إضرابُ المصارف.
هذا الإضراب تعبيرٌ عن ارتباك السلطة، إذ يشكّل القطاعُ المصرفيّ عصبَ عملها الحقيقيّ. وهو تعبيرٌ أيضًا عن الاستخفاف بالمواطنين وكراماتهم (فما معنى أنْ يقبضَ المتقاعدون والمرضى أموالَهم من خلال الصرّاف الآليّ مثلًا؟!). لقد حذّرنا من ذلك مرارًا وتكرارًا. لكنّ الطاقم السياسيّ اللبنانيّ مصمِّمٌ على أنّ ما يحدث "سُنّةٌ طبيعيّة،" وأنّ "تاريخ الدولة" كان وسيظلّ على هذا النحو. وهذا ما لا نقبله، إذ إنّ ما يحصل اليوم هو الدليل الأكبر على أنّ ما قالوه لنا خاطئ ولن نراه يومًا صوابًا.
لقد أفلس لبنان، والمصارفُ خائفة. وثمّة خوفٌ من أنْ تُفتحَ المصارف، وينهالَ الطلبُ على الدولار؛ ما يزعزع وضعَ الليرة اللبنانيّة. لا أحد يقدر على الإجابة عن مثل هذه المخاوف. وهذا ما يدفع النظامَ إلى الهروب خطوةً أخرى إلى الأمام، بإعلانه تأجيلَ فتح أبواب المصارف أمام المواطنين من جديد. أليس هذا شكلًا من أشكال سقوط السلطة؟!
* ما قدرةُ الشارع على المواجهة، دكتور؟
- "إنّ زعماءَ الطوائف قادرون على الوقوف في وجه الشارع": هكذا كانوا يقولون لنا. لكنّ الحقيقة التي أثبتها الشبابُ اليوم هي أنّ جميعَ القوى الطائفيّة حائرةٌ وضائعة. هذه القوى تطالبنا بأنْ "ننظّم أنفسَنا،" لكنّ الحقيقة هي أنّ الحَراك عفويّ وغير منظّم؛ وهذه ميزةٌ له ربّما.
ما يمكنني قولُه هو أنّ هذه السلطة - بواقعها وأدائها - سقطتْ، وصارت معطّلةً بنسبةٍ كبيرة. والمجتمع اللبنانيّ، كغيره من المجتمعات، لديه خصوصيّاتٌ ثقافيّة، لكنّ ما يجب أنْ ينتقلَ إليه هو الدولة؛ أيْ أنْ يُصبح الجميعُ من ضمن الدولة، مواطنين ومواطناتٍ، لا أبناءَ طوائفَ ومذاهبَ ومِللٍ ونِحَل.
إنّ لهذه المظاهرات دلالاتٍ بالغةً على نهاية المنطق القديم للسلطة. وقد يعني ذلك أيضًا أن المجتمع يتطلّع إلى منظومةِ قيمٍ وأعرافٍ جديدةٍ كلَّ الجدّة عمّا سبق.
* ماذا عن المرحلة الانتقاليّة؟ كيف ستسير الأمور فيها؟ أليس عنوانُ المرحلة الانتقاليّة عنوانًا مخيفًا للناس؟
- إنّ المرحلة الانتقاليّة خطرة فعلًا. وخطورتُها تكمن في إمكانيّة التدخّل الدوليّ فيها. لذا، ينبغي أنْ تكون الثورةُ واعيةً وواضحةً تجاه ما يمكن أنْ يتشكّل في هذه المرحلة.
فمع نهاية الثمانينيّات، ونتيجةً لتعبِ الناس، عمدت الولاياتُ المتّحدة والسعوديّة، وبوصايةٍ سوريّة، إلى "تركيب" المشهد اللبنانيّ الذي رافقنا ثلاثين عامًا. الأمر نفسُه هو ما يحاول البعضُ اليوم القيامَ به. فلننتبهْ، لأنّ تبعاتِه ستكون لعقود!
لقد شُلّ البلدُ بأسره، شئنا ذلك أمْ أبينا. والجيش والقوى الأمنيّة هي الوحيدة الحاضرة اليوم [من مؤسَّسات الدولة]، ولديها مسؤوليّةٌ أولى ورئيسةٌ في المحافظة على الأمن فقط. إنّ المرحلة الانتقاليّة مسألةٌ جدّ حسّاسة، وفيها مسؤوليّةُ تحمُّل عبء كلّ أخطاء الماضي. وهو ما يعني "إدارةَ الخسائر" لتوزيعها بشكلٍ عادلٍ وهادف.
* إلى أيِّ لبنان تتطلّع، دكتور، بعد نهاية هذه الأزمة؟
- إنّ لبنان الذي نتطلّع إليه هو ذلك البلد الذي يعي تمامَ الفصل بين الداخل والخارج. علينا أن نتعاطى مع الخارج باعتباره خارجًا، ووفق مصالح الدولة القادرة، التي لا "تنأى بنفسها" عمّا يحصلُ في ذلك الخارج، وإنّما تعمل على المشاركة الفاعلة سياسيًّا، انطلاقًا من مواجهة الإمبرياليّة الحاضرة في المنطقة، وعلى رأسها "إسرائيل،" هذا البلد الكولونياليّ والعنصريّ الذي يعمل على تفتيت المجتمعات الموجودة في المنطقة.
* ماذا تقول للشباب الجامعيّ، والشباب اللبنانيّ بشكلٍ عامّ؟
- أنتم، يا مَن في الجامعات، أساسُ هذا الحراك وقلبُه النابض. أنتم المعنيّون مباشرةً بمستقبل بلدكم. لا تتطلّعوا إلى السفر أو الهروب من المواجهة. كونوا على قدر المسؤوليّة في تحمّل أعباء مجتمعكم. إنّ النظام الذي بُني على أساس المنفعة والزبائنيّة تصدّع وانتهى. لذا لا تَضِيعوا، ولا تُضيّعوا الفرصةَ عليكم وعلى مستقبلكم بالخوف غيرِ اللازم. هذه الفترة مباركة، وهي لا تحدث إلّا كلَّ عقديْن أو ثلاثة. لذا اغتنموا فرصة اليوم.
الحذر مطلوب أيضًا بين الطلبة والشباب من الجمعيّات التي تُسمّي نفسها "جمعيّات المجتمع المدنيّ"." فهذه الجمعيّات يمكن أنْ ترشيَهم ببضعة دولارات، أو أن تأخذَ قرارَهم السياسيّ إلى مكانٍ آخر إذ تصوِّر السياسةَ وكأنها رذيلة.
وأخيرًا، فإنّ المرحلة الانتقاليّة التي يُنادي بها الشارع تعني أنّ الناس لم تعد ترى نفسَها مولودةً من أجل الزعيم، ولا مرتهنةً إليه. إنّ الزعماء اليوم خائفون لأنّ الشرعيّة صارت لنا وحدنا - نحن المتظاهرين في الشوارع.
بيروت