محاضر جامعيّ، وكاتب وباحث سياسيّ متخصّص في العلاقات الدوليّة. صدر له مؤخرًا كتاب بعنوان: ما بعد القتال: حرب القوة الناعمة بين أميركا وحزب الله، وكتاب: الهيمنة الساحرة: اختبارات القوة الناعمة الأميركية في الشرق الأوسط.
ما يشهده لبنان منذ 17 تشرين الأوّل 2019، على الرغم ممّا له من خصوصيّاتٍ محلّيّةٍ بطبيعة الحال، هو نسخةٌ محلّيّةٌ لظاهرةٍ عالميّةٍ تتنامى في السنوات الأخيرة، موضوعُها: محاولةُ الناس استعادةَ القدْرِ الأكبرِ من السيطرة على شؤونهم بطريقةٍ مباشرة.
ففي العقود الأخيرة تقوّضت المشاركةُ الشعبيّةُ في مختلفِ أشكالِ الأنظمة، بما في ذلك الأنظمةُ الديموقراطيّة. ويعود ذلك إلى توحّشِ مصالح رأس المال المعوْلم، وطغيانِ دور المؤسّسات الدوليّة المعنيّة بحمايته. وكان الفيلسوف الفرنسيّ بول فاليري قد وصف السياسةَ بأنّها "فنُّ منع الناس من التدخّل في ما يخصُّهم!"
- في الأنظمة الديموقراطيّة، تولّت الرأسماليّةُ تجويفَ الليبراليّة. هكذا تحوّلت الانتخاباتُ إلى ما يشْبه الطقوسَ: فتراجعتْ مشاركةُ الناس فيها، وقبضتْ مراكزُ القوى الماليّة (ولا سيّما المعوْلمة) على مفاصل القرار، وتقزّم المجالُ السياسيُّ وأصبحت السلطةُ خارجه، فأضحت فكرةُ "تداول السلطة" أقربَ إلى الخرافة.
بكلامٍ آخر: في الديموقراطيّات - عمومًا - طغيانٌ متصاعدٌ لرأس المال، وتركّزٌ واضحٌ للثروة عند مؤسّسات المال والتكنولوجيا (أيْ لدى شرائحَ محدّدةٍ ومحدودةِ العدد ومحصورةٍ جغرافيًّا)، وتزايدٌ للتباينات الاجتماعيّة، وضمورٌ للمشاركة السياسيّة. وهذا كلُّه يفسِّر صعودَ الاتجاهات اليمينيّة والقوميّة المتطرِّفة في الغرب. فتراجُعُ المنافع والامتيازات التي كانت تَضْبط الطبقاتِ الوسطى ساهم، إلى جانب ثورة المعلومات والتكنولوجيا ووعيِ الدور الذي تمارسه المؤسّساتُ والنخبُ النيوليبراليّة، في خروج أعدادٍ متزايدةٍ من الناس إلى الشارع محاولين استعادةَ إدارةِ شؤونهم.
- أمّا الأنظمة المغلقة والاستبداديّة وشبهُ الديموقراطيّة، كحالِ الأنظمة العربيّة، فقد تحالفتْ مع أصحابِ رؤوس الأموال تحت عناوين مثل "تحرير الاقتصاد" و"الشراكة مع القطاع الخاصّ." هكذا استحوذ أصحابُ رؤوس الأموال مع شبكات الاستبداد (الحاكم وأسرته وحاشيته الحزبيّة والاقتصاديّة وأجهزته العسكريّة والأمنيّة) على نِسَبٍ متزايدةٍ من الثروة، على حساب فقراء الأرياف والضواحي، وعلى حساب الطبقاتِ الوسطى التي تدهورتْ أوضاعُها. بالتوازي، تقهقرتْ إيديولوجيا الاستبداد، القوميّةُ أو الوطنيّةُ أو الهويّاتيّة، بفعل استغلال النخب الحاكمة لها. وكلّ ذلك جرى ويجري داخل سياقٍ محلّيّ، يشتمل على: انفجارٍ ديموغرافيّ، وخصوصًا في الشرائح الشبابيّة، وتراجعٍ في النموّ الاقتصاديّ، وانهيارٍ في الخدمات العامّة، وضغوطٍ على الموارد الطبيعيّة. والأهمّ أنّ سيادة هذه الدول مُصادَرةٌ أو منتهَكَة، لكونها ملحقةً بالنظام العالميّ، أو مكشوفةً أمام تدخّلاتٍ خارجيّةٍ عبر قوًى في السلطة أو المجتمع (أحزاب أو "منظّمات مجتمع مدنيّ" أو نُخَب) أو في كليْهما.
***
إذًا، قوى رأس المال أو السوق ابتعلت الدولةَ من خلال حكم القلّة القليلة على حساب تهميش عموم الناس. في الأنظمة الديموقراطيّة، عجزتْ صناديقُ الاقتراع عن ضبطِ تلك القوى التي تغلغلتْ في كلّ مفاصلِ المجتمع (القطاع الخاصّ و"منظّمات المجتمع المدنيّ" والإعلام والأكاديميا والنُّخَب). أمّا في الأنظمة الاستبداديّة، فوجدتْ نخبتُها في تلك القوى شريكًا مثاليًّا من أجل ترميم صورتها الخارجيّة، وجذبِ الاستثمارات، وتحصيلِ تأييد قسمٍ من الطبقة الوسطى المندمجة مصالحها مع الدولة، واستخلاصِ عوائدَ إضافيّةٍ من المجتمع (ناجمةٍ عن تطوير بنًى تحتيّةٍ وخدماتيّة).
في الحالتين، تتراكم عواملُ وأدواتٌ تتيح التمرّدَ لمن تتزايد أعدادُهم على هامش النظام، فيتّجهون نحو موقفٍ جذريّ (قوميّ، دينيّ، طبقيّ ..الخ)، ويَخْلقون من خلاله شبكاتٍ متماسكةً ومتضامنةً تنمو في الفراغات الاجتماعيّة التي يتراجع فيها النظام. هكذا يتشكّل صراعٌ بين قوى الأمر الواقع والقوى التغييريّة، وهو صراعٌ يُحسم إمّا بالعنف (حرب أهليّة أو ثورة) لصالح أحد الطرفين (ونتيجتُه مرتبطة بدرجة العنف والتدخّل الخارجيّ)، وإمّا بتسويةٍ تعيد إنتاجَ النظام السياسيّ وفق التوازناتِ الجديدة.
***
في الحالة اللبنانيّة، شهدت البلادُ بعد نهاية الحرب الأهليّة والتوصّل إلى "اتفاق الطائف" صيغةً للحكم استندتْ على أربع دعائم: التوافق الخارجيّ، والطائفيّة، والمحاصصة، والنظام الماليّ الريعيّ. غير أنّ هذه الدعائم تفكّكتْ بشكلٍ متدرّج منذ العام 2004، مع صدور قرار مجلس الأمن 1559. في الصيغة اللبنانيّة المذكورة استمرّ النظامُ الماليّ الريعيّ، المرتبطُ بمنظومة الهيمنة الأميركيّة، في التوسّع، وفي تجفيفِ مواردِ الدولة والمجتمع - - ما أضعف الرابطةَ الطائفيّة، وقوّضَ المحاصصةَ، اللتيْن كانتا من وسائله. ومن ثمّ، لم يكن هذا التوسّعُ في منأًى عن عمليّة الصراع الوطنيّ والإقليميّ، بل يقع في صلبها، لِما لدور المقاومة في لبنان من تأثيرٍ ودورٍ مُغيِّرٍ للمعادلات.
توسّعَ هذا النظامُ الماليّ على حساب الاقتصاد الوطنيّ، وعلى حساب الماليّة العامّة للدولة، والطبقاتِ الفقيرة والوسطى، حتّى صار تصنيفُ لبنان السلبيّ من أسوأ التصنيفات في العالم: لجهة تركُّز الثروة، والتبايناتِ الاجتماعيّة، ونسبةِ الدَّيْن العامّ إلى الناتج المحلّيّ، ونسبةِ ودائع المصارف إلى الناتج المحلّيّ، ونسبةِ فوائد الديْن إلى إيرادات الموازنة.
أمام هذا الواقع، بدأتْ محاولاتٌ لإحداث تغييرٍ من خارج القوى التقليديّة. فانبثقتْ تجمّعاتٌ مدنيّةٌ وشبابيّة، إضافةً إلى قوى المعارضة السياسيّة، وبدأتْ جميعُها بتحدّي النظام القائم. وكان لانفجار انتفاضات العالم العربيّ سنة 2011 أثرُ المحفِّز والمسرِّع لهذه المحاولات. وكما يحاجج كارن روس، في كتابه الثورة بلا قيادات، فقد أصبح الأفرادُ أداةَ تغييرٍ قويّةً، إذا بدأوا يتحرّكون لاجتراح نتائجَ سياسيّةٍ مرغوبة، متعاونين ومتفاوضين مباشرةً مع آخرين متأثّرين بهم، ما يتيح انبثاقَ إدارةٍ سياسيّةٍ جديدة. فالخطوة الجوهريّة لإنتاج أيِّ تغيير (كما في حالة الانتحاريّ أو محرِّك موجة الهتاف أو المناضل اللاعنفيّ) تتمثّل دائمًا في اكتشاف الإيمان (بشكلٍ فرديّ أو جمعيّ)، أيْ في تشكيل قناعات، ثمّ عيشِ هذه القناعات وتجسيدِها واختبارِها، فيراها الآخرون، وتصبح ملهِمةً لهم. وكلّما كان الواقعُ مثقَلًا بالألم، زادت فرصُ النجاح، على ما يقول روس.
***
برزت الموجةُ الاحتجاجيّة الأولى في العام 2011 تحت عنوان "إسقاط النظام الطائفيّ." ثمّ خفتتْ، لتعودَ فتنفجرَ سنة 2015 مع اندلاع أزمة النفايات. حينها، اتّضحَ صعودُ السؤال الاجتماعيّ والسياسيّ، الذي كان مغمورًا بقضايا وأولويّاتٍ مرتبطةٍ بالصراعات الخارجيّة: مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ، ومواجهة "الثورة الملوَّنة" في لبنان بعد العام 2005، ثمّ مخاطر الصعود التكفيريّ بعد سنة 2013.
خمد حراكُ 2015، لكنّه بقي مشتعلًا في زوايا المجتمع، وراح يتوسّع ويُراكم نضالاتٍ جزئيّةً سياسيّةً وغيرَ سياسيّة. وكما في نبوءة كارن روس، فإنّ "تحرّكًا واحدًا صادرًا عن إيمانٍ، ومكرَّرًا من قِبل آخرين، يصبح تغييرًا مادّيًّا ودراميًّا مثيرًا." بالتوازي مع ذلك، كان النظامُ القائم يتدهور، وتتقلّص قاعدتُه الاجتماعيّة (حتى داخل الطبقة الوسطى)، إلى حين انفجار موجة 2019.
نجح هذا الحدث الأخير في خلق واقعٍ سياسيٍّ جديد. وهو، وإنْ خمد، فسيعاود الانفجارَ لاحقًا بشكلٍ أشدّ، إنْ لم يستجب الواقعُ الجديدُ للحاجات والتحدّيات الأساسيّةِ المطروحة. وهذا الانفجارُ الحاليّ يمثِّل ذروةَ صعود السؤال الاجتماعيّ والسياسيّ - - وهو اتجاهٌ ليس مفاجئًا بدليلِ أنّ حزب الله، بكلِّ ما يمتلك من مشروعيّة في المقاومة والقضيّة الوطنيّة، ضمّن برنامجَه الانتخابيَّ للعام 2018 التزامًا رئيسًا بخوض معركة إصلاح الدولة ومكافحة الفساد.
استطاع الحَراكُ الشعبيُّ في لبنان تأسيسَ مشروعيّةٍ إضافيّةٍ فرضتْ نفسَها على المجال السياسيّ. فما سقط في لبنان هو الصيغةُ التي كان يعمل النظامُ من خلالها، ولم يسقط النظامُ نفسُه وإنْ ترنّح (يتمايز النظامُ اللبنانيّ عن معظم الأنظمة العربيّة بكونه عبارةً عن شبكة مراكز سياسيّة، أو زعامات طائفيّة، لها عمقٌ اجتماعيٌّ في بلدٍ صغيرٍ جدًّا ديموغرافيًّا). إنّنا، حكْمًا، أمام نشوء صيغة حكمٍ جديدة، يشكّلها مَن لهم مشروعيّةٌ داخل النظام وفي الشارع.
ولكنْ ما مدى افتراق هذه الصيغة عن الصيغة القديمة؟ هل ستتوجّه إلى إصلاح السياسات، أمِ المؤسّسات (بما في ذلك قانونُ الانتخابات النيابيّة)، أمِ النظام ككلّ (إلغاء الطائفيّة السياسيّة ونشوء عقد اجتماعيّ جديد يتجاوز الطوائف)؟ وما هو المجالُ الذي ستتركّز داخله التعديلاتُ: أهو المجالُ الماليّ، أمِ الاقتصاديّ، أمِ الإداريّ، أمِ السياسيّ؟
لقد دخل لبنان عمليّةً تغييريّةً، لا مجرّدَ حدثٍ عابر. وهذه العمليّة ستستمرّ على شكل موجاتٍ تخبو وتنفجر، شأن ما يجري في معظم الدول العربيّة التي شهدت انتفاضاتٍ شعبيّة. قوى الوضع القائم (الماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة) مضطرّةٌ إلى تقديم تنازلات. وهذه التنازلات يرتبط مداها بما تنجزه من توافقات، وبقدرتها على وقف الانهيار، وبقدرة الاعتراض الشعبيّ على حماية زخمِه وفرضِ بدائل على الأجندة الوطنيّة السياسيّة؛ كما يرتبط بقوّة التدخّلات الخارجيّة التي لها مصالحُ مختلفة داخل الوضع القائم.
***
بيْد أنّ صعودَ السؤال الاجتماعيّ في لبنان تحديدًا لا يمكن أن يُغيّبَ السؤالَ الوطنيّ (المواجِه لـ"إسرائيل")، وذلك نظرًا إلى قوّة المقاومة فيه، وإلى أهميّتها على التوازنات الإقليميّة، ونظرًا أيضًا إلى ما ذكرناه من دور منظومة الهيمنة الأميركيّة في الأزمة الحاليّة من خلال وكلائها داخل النظام اللبنانيّ (القطاعات الماليّة وبعض النُّخب السياسيّة والاقتصاديّة). وهذا ما يفسّر مسارعةَ واشنطن إلى التدخّل في لحظة الاضطراب اللبنانيّة من خلال هؤلاء الوكلاء، وإلى استغلال نقمة المتظاهرين من أجل الدفع إلى استقالة الحكومة اللبنانيّة، ولكنْ لهدفٍ خارج المسألة الاجتماعيّة، ألا وهو: السعيُ إلى تشكيل حكومةٍ لا تضمّ حزبَ الله بذريعة الحاجة إلى "حكومة خبراء." فواشنطن تخشى، منذ فوز حزب الله وحلفائه في الانتخابات النيابيّة سنة 2018، من صعود دور الحزب داخل مفاصل الدولة اللبنانيّة، بما يعزّز مشروعيّتَه وتأثيرَه ويُصعِّب من القدرة على استهدافه؛ وهي تُفضّل تصويرَ حزب الله "ميليشيا مسلّحةً" تصارع حكومةً مدعومةً منها، كما فعلتْ في مرحلة حكومة فؤاد السنيورة "المبتورة" بعد انسحاب الحزب وحلفائه منها سنة 2006.
لقد نجحت المقاومة في استعادة جزءٍ أساسٍ من سيادة الدولة اللبنانيّة ومن أمن اللبنانيين. وهي اليوم تبلور سياساتِها وموقفَها تجاه كيفيّة تطوير مساهمتها في معركة تمكين اللبنانيين من استعادة سيادة الدولة الماليّة، وحمايةِ حقوقهم ومستقبلِهم، من مطامع نخبٍ محلّيّةٍ فاسدة. موقفُ المقاومة في هذا المجال دقيقٌ وضروريّ، كما في دورها في مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ والإرهاب التكفيريّ. وهذا المجال الجديد تنخرط فيه المقاومةُ في ظلّ صراعٍ محتدمٍ على جبهة الهيمنة والاحتلال.
التحدّي أمام اللبنانيين هو أن يحلّوا المعضلةَ الاجتماعيّة والسياسيّة بما يحصِّن ما حقّقوه على صعيد القضيّة الوطنيّة، وذلك من خلال قيام دولةٍ سيّدةٍ ومستقلّة، تديرها سلطةٌ تحتكم إلى المشاركة الشعبيّة والشفافيّة والمحاسبة ومستلزَمات العدالة الاجتماعيّة.
صور (جنوب لبنان)
محاضر جامعيّ، وكاتب وباحث سياسيّ متخصّص في العلاقات الدوليّة. صدر له مؤخرًا كتاب بعنوان: ما بعد القتال: حرب القوة الناعمة بين أميركا وحزب الله، وكتاب: الهيمنة الساحرة: اختبارات القوة الناعمة الأميركية في الشرق الأوسط.