كان عليه أن يُسرع الخطى وهو في طريقه إلى المقابلة. موعدُه عند الساعة الواحدة، وقد انطلق من بيته قبل نصف ساعة. لكنّ زحمة السّير لا تطاق، وسيّارة الرّينو 5 البيضاء لن تنقذَه في مثل هذا الموقف.
جلس قبالةَ السِّكرتيرة الأنيقة، مرتديًا بذلتَه الكاكيّة. وضع نظّارتَه، وأخرج من جيبه ورقةً مربّعة. تأمّلها بزهوٍ وثقة، ثمّ أعادها إلى جيبه. أشارت السّكرتيرة إليه بالدخول، فقام من مكانه وتوجّه نحو الباب. ودّعها بابتسامةٍ يشجِّع بها نفسَه، فوجدها لاهيةً عنه. فتح الباب ودخل.
حين خرج بعد ربع ساعة من الغرفة، ناولها إحدى الأوراق التي يضعها في جيبه. نظرت إليها بهدوء. ابتسمتْ، وودّعتْه بحركةٍ من يدها، مشيرةً نحو بابِ الخروج.
***
مرّ أسبوع ولم يلقَ ردًّا. لاحظتْ زوجتُه توتّرَه: فهو يتفقّد هاتفَه باستمرار، ويسألها إنْ رنّ وهو غائبٌ عنه. ساورها شعورٌ غريب، فسألتْه: "أتخونُني بعد كلّ هذا العمر؟" نظر إليها وقال: "كلُّ ما الأمر أنّي أنتظرُ مكالمةً مهمّة. صحيح، أنا لم أخبرْكِ كي لا أشغلَ بالَكِ؛ لقد تقدّمتُ إلى وظيفة في شركة استشاراتٍ عقاريّة."
استغربت المرأةُ هذه الخطوة وقالت، وهي تقدّم إليه فنجانَ القهوة: "وهل تظنّ أنّهم سيكلّمونك؟ لقد تجاوزتَ الستّين يا أبا عليّ، والشركات تبحث عن الشّباب." ردّ قائلًا: "ولكنْ لديّ خبرة طويلة." غمغمتْ في سرّها: "أجل، أعلمُ ذلك."
وقفتْ أمام الحنفيّة وتركت الماءَ يغسل القهوةَ عن الفناجين. قطفتْ ورقتيْ مردكوش من القصريّة أمام شبّاك المطبخ، وطحنتْها براحتيْها فوق لَجَن الكبّة الذي كانت تعدّه للغداء. فكّرتْ:
لقد عاش المسكين حياتَه يتنقّل من وظيفةٍ إلى أخرى، فلم يطُلْ بقاؤه في أيٍّ منها أكثرَ من شهور معدودة. تزوّجتْه منذ أربعين عامًا، ولو أرادت أنْ تحصي سنوات عمله لما تخطّت الخمسَ. وهو مع ذلك يعتقد أنّه "ذو خبرة طويلة!"
حين تعود بذاكرتها إلى الوراء تحتار كيف تربَّى الأولادُ؟ كيف تعلّموا؟ تكاد لا تدري كيف كانت تكسوهم. وهذا العجوز النّحيل، الذي يجلس فوق الأريكة منذ عشرين سنةً، ويدخّن ويلعن السُّلطة، ويتأفّف من كلّ ما تعدُّه من الطّعام، يظنّ أنّه "فطحل" زمانه.
نادته كي يأتي ويتذوّقَ كبكوبةً قرّصتْها له. غمسها بزيت الزّيتون، ثمّ التهمها دفعةً واحدة. هزّ برأسه إيجابًا، ورفع إبهامَه مؤكّدًا جودتَها.
لاحظتْ أنّه لم يأكلْ جيّدًا، ولم يكلّمْ أحدًا من الأولاد، ولم يلاعبْ عليًّا الصغير أو يصحبْه إلى الدكّان. أنهت عملَها في المطبخ. كان الجميع قد غادر. لم تجدْه على الأريكة. خرجتْ إلى الشّرفة، فإذا بها تسمعه يقول عبر الهاتف: "كيف ترفضون طلبي؟"
تراجعتْ. رأته من مكانها، في غرفة الجلوس، يجلس بعصبيّةٍ على الأريكة، راميًا الهاتفَ بعيدًا. انسحب في بداية السّهرة لينام باكرًا. طلبتْ إليه أن يغيّر ملابسَه ويتركَها في سلّة الغسيل.
نام أبو عليّ وعلا شخيره. وضعت الغسيلَ جانبًا. وبينما هي تبحث في الجيوب لتسحبَ منها ما قد يخرِّب الغسلة، سقطتْ حزمةُ أوراقٍ مربّعة، مؤطّرةٍ بلونٍ أحمر داكن. التقطتْها سريعًا، فراحت تنزلق من بين يديها. أعادت لملمتَها وهي تقرأ اسمَ زوجها مكتوبًا بخطّ عريضٍ وأنيق، فلا تدري أتضحك أمْ تبكي: "استشاريّ في الخدمات العمرانيّة."
صيدا