كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.
وُلد الشهيد محمد محمود مصلح الأسود (جيفارا غزّة) في مدينة حيفا في 6/1/1946، واستُشهد في 9/3/1973، مع رفيقيه الشهيديْن كامل العمَصي وعبد الهادي الحايك، ولم يكن قد بلغ عامَه الثامنَ والعشرين بعد.
كانت حياةُ هذا الشابّ الثوريّ، على قِصَرها، حافلةً بالأحداث والتجارب. غير أنّ هذه المقالة تركّز على بعض مجريات السنوات الستّ الأولى فقط من تجربةٍ ثوريّةٍ، فلسطينيّةٍ وعربيّةٍ، رائدة. في "سنوات الثورة" هذه، تجلّى الفعلُ الفدائيُّ في أبهى صوره في الميدان، كما في الفكر السياسيّ، والأدب الثوريّ، والحضورِ الإعلاميّ . حدث ذلك قبل الانحراف الساداتيّ التاريخيّ الذي أعقب حربَ أكتوبر 1973، وقبل تبنّي القيادة المتنفّذة في منظّمة التحرير الفلسطينيّة "البرنامجَ المرحليَّ" عام 1974، ومن ثمّ اختزاله إلى "مشروع الدولة،" وبعد تصفية عشرات المثقفين الثوريين والظواهر الاستثنائيّة والإبداعيّة في حركة المقاومة الفلسطينيّة، ومن أهمِّها تجربةُ جيفارا غزّة ورفاقِه.
إذن، ليس المقصودُ من هذه المقالة - - التي تتزامن مع الذكرى السابعة والأربعين لاستشهاد الرفيق محمد الأسود (جيفارا غزّة) - - الخوضَ في دور هذا الرجل الاستثنائيّ الذي حمل صفاتٍ كثيرةً، بعضُها مِن اختراعِ العدوّ نفسِه (فهو "الأسطورة" و"الشبح" و"دوّاس بحر" و"حاكم غزّة")، بقدر ما نحاول تسليطَ الضوء على تحدّيات جيلٍ من الشباب الفلسطينيّ (والعربيّ). هذا الجيل وَجد نفسَه، في زمن غسّان كنفاني وجيفارا غزّة، أمام هزيمةٍ كبرى سنة 1967، فكان عليه أن يتعرّفَ إلى تجاربَ ثوريّة، كالتجربة الكوبيّة، وإلى مدارسَ في الفكر الثوريّ الأمميّ، وعلى رأسها تجربةُ تشي غيفارا الذي زار قطاعَ غزّة سنة 1959 وتأثّر محمد محمود مصلح الأسود به إلى حدّ تبنّي اسمه، وأن يحملَ - في الوقت ذاته - رايةَ التصدّي بالحديد والنار لمشروع التصفية الذي بدأ مبكّرًا.
من تجربة الفدائيّ/الفرد إلى تجربة الفدائيين/المجموع
بهذا المعنى، فإنّ البحث في زمن جيفارا غزّة يتجاوز تجربةَ الفدائيّ/الفرد إلى تجربة الفدائيين/المجموع، وإلى فهم التكامل والتعدّد في أشكال العمل الفدائيّ المقاوم، العسكريِّ والسياسيِّ والفكريِّ والإعلاميّ، في آنٍ واحدٍ، وبخاصّةٍ تلك المدرسة الثوريّة التي طبعت السنواتِ الأولى التي تلت تأسيسَ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
***
إنْ حاول القارئُ تصوّرَ تلك السنوات الستّ (1967 – 1973) من خلال فيلمٍ سينمائيّ، فسوف يُضطرّ إلى الانتقال من مشهد معسكرات الفدائيين في الأغوار، إلى معسكرٍ آخرَ في بيروت، فإلى مخيّمات غزّة، فإلى الجولان وسيناء، وصولًا إلى ساحاتٍ بعيدةٍ مثل بروكسل ولندن وروما، ومن ثمّ التوجّه إلى مطار اللدّ في فلسطين المحتلّة؛ هذا من دون إغفال ما يواكبُ هذه العمليّاتِ من نضالٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ وحزبيٍّ وإعلاميّ. ففي كلّ هذه الساحات، كان ذلك الجيلُ الثوريُّ الجديد من الشباب الفلسطينيّ الثائر يخوض معاركَ متعدّدةَ الأنماط، ولكنها واحدةٌ في الجوهر؛ معاركَ لكلٍّ منها خصوصيّتُها وفرادتُها، لكنّها أشبهُ بجداولِ ماءٍ تنبع "من أرض الثورة" على حدّ قول غسان كنفاني(1) وتسيل حتى تتلاقى في مجرًى واحدٍ، لتصبّ معًا في نهر فلسطين.
بمعنًى آخر: إذا كانت "العمليّاتُ الخارجيّة" التي نفّذتها الجبهةُ الشعبيّة بإدارة القائد الفذّ وديع حدّاد، من خطف طائراتٍ وضربِ مصالحَ أميركيّةٍ ورجعيّةٍ عربيّةٍ في تلك الفترة، قد نالت نصيبًا أكبرَ من غيرها في التغطية الإعلاميّة، فذلك يقتضي عدمَ إغفال النضالات الأخرى التي كانت الجبهةُ تخوضُها في الفترة ذاتها، بالتوازي والتكامل. فهي كانت تقود آنذاك حربًا سياسيّةً وفكريّةً وإعلاميّةً ضروسًا في الدفاع عن شرعيّة تلك العمليّات وجدواها، مذكّرةً منتقدي عمليّاتها الخارجيّة تلك بالمقاومة الباسلة داخل قطاع غزّة وسائرِ فلسطين المحتلّة، وشارحةً طبيعةَ الحرب الشاملة التي يخوضها الشعبُ الفلسطينيّ على امتداد جغرافيا العالم. وفي هذا الصدد لا بدّ من التذكير بما جاء في وثيقة تاريخيّة بارزة صدرتْ عن الإعلام المركزيّ في الجبهة الشعبيّة سنة 1970:
"مثلما أنّ الجغرافيا قضيّةٌ غيرُ مهمّةٍ في الحرب الشاملة التي يشنّها الاستعمارُ و"إسرائيلُ" والصهيونيّةُ على شعب فلسطين والأمّةِ العربيّة، فإنّ الجغرافيا یجب أن تكون قضیّةً غیرَ مھمّةٍ في الحرب الشاملة التي یقوم بها شعبُ فلسطين لمواجهة الحرب العدوانيّة ضدّه. إنّ العمليّات الخارجيّة للجبهة تشكِّل ما نسبتُه 3 % فقط من عمليّات الجبهة الشعبيّة... [فالجبهة] تضرب العدوَّ في تل أبيب وحيفا والطنطورة والقدس والخليل، وتقود منفردةً تقريبًا الثورةَ المشرِّفةَ في قطاع غزّة الملتهب."(2)
ويشرح الشهيد غسّان كنفاني في مقابلة مع مجلة اليسار الجديد سنة 1971 واقعَ المقاومة في قطاع غزّة مقارنةً بالضفّة الغربيّة، على النحو الآتي:
"في غزّة يَعرف الناسُ السلاحَ؛ فقد تمّ تدريبُهم [عليه] من قِبل جيش التحرير الشعبيّ في ظلّ الإدارة المصريّة، على عكس الضفّة الغربيّة. وهناك عاملٌ آخر، وهو أنّ المصريين قمعوا الحركةَ القوميّةَ العربيّة في غزّة، لكنْ ليس إلى الحدّ الذي فعله الملك حسين في الضفّة الغربيّة... في غزّة كان لدينا الحدُّ الأدنى من البنية لنبدأ."
وإنْ حصرنا الكلامَ في الجانب العسكريّ وحده، وفي غزّة وحدها، لقلنا إنّ جيفارا غزّة ورفاقَه هناك خاضوا معاركَ عدّةً على أكثر من جبهة. فساندوا الجبهةَ المصريّةَ في "حرب الاستنزاف" على طول مدن القنال. واستطاعوا تخريبَ سكك الحديد في سيناء، ونسْفَ القطار الذي يُقِلّ جنودَ العدوّ والعتادَ الصهيونيّ - الأمريكيّ، وضرْبَ طرقِ الإمداد غيرَ مرّةٍ، وصولًا إلى تعطيلها بالكامل.
***
أمّا "معركة المغازي" الشهيرة فكانت تتويجًا لعدّة عمليّات فدائيّة نفّذها مقاتلو الجبهة الشعبيّة منذ مساء 26/12/1969، وسقط فيها عشرةٌ من جنود العدوّ، بينهم الضابطُ المسؤولُ عن المخابرات في المعسكرات الوسطى في قطاع غزّة. كما قاموا بنسف خطوط شبكة كهرباء الضغط العالي في منطقة الشجاعيّة. وتواصلت المعركةُ حتى بلغتْ ذروتَها في معسكر المغازي فجرَ يوم 5/1/1970، حين تصدّت مجموعةٌ من مقاتلي الجبهة الشعبيّة لقوّةٍ عسكريّةٍ إسرائيليّة، فتكبّد العدوُّ خسائرَ كبيرةً في الأرواح، ما حدا به إلى دفع المزيد من القوّات، المعزَّزةِ بالآليّات والمدرَّعات. وتحوّلت المعركة، مع قدوم النجدات الإسرائيليّة، إلى حرب شوارع عمّت معسكرَ المغازي بأسره.
"المغازي" تتويج لعدّة عمليّات نفّذتها "الشعبيّة" وسقط فيها عشرة من جنود العدو
استمرّت المعركة نحو 7 ساعات متواصلة، حتى الثالثة والنصف صباحًا، قاتل فيها الفدائيّون قتالًا ضاريًا، واستُشهد فيها كلٌّ من: حسن عبد الله الزريعي (أبو عصام)، ومحمد صالح المهر (أبو النصر)، وعامر أحمد يوسف زيدان (الحجّاج)، وعبد الله السميري. أمّا خسائر العدوّ فقد قُدّرتْ بنحو 35 إصابةً، وهو أعلى رقمٍ يَعترف به العدوُّ في حينه. وقد روى شهود عيان أنّ الدماء ظلّت في شوارع المعسكر حتى الساعة الثانية من ظهر اليوم التالي، وقام موشي دايان والحاكمُ العسكريُّ للقطاع بزيارة ميدان المعركة، وأمرا بإخفاء آثار دماء الجنود.
***
كما خاضت المقاومةُ بقيادة جيفارا غزّة معركةً داميةً ضدّ العملاء، وضدّ مشروع "الإدارة المدنيّة" الذي حاول الاحتلالُ تكريسَه بعد سنة من احتلال الضفّة والقطاع. وقد تنبّهت المقاومةُ آنذاك إلى ما يجري، في السرّ والعلن، من محاولات لتأسيس "كيان فلسطينيّ." وجاء في الصفحة 73 من الوثيقة الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة للجبهة الشعبيّة، الصادرة في شباط من العام 1969 ما يأتي:
" بعد الخامس من حزيران، كان شبابُ المخيّمات والقرى يحملون السلاحَ ويختبئون في الجبال ويتحصّنون في المدن، يوجّهون الرصاص لصدر "إسرائيل،" ويتلقّوْن الرصاصَ في صدروهم. وفي هذا الوقت بالذات، كانت قياداتُ البرجوازيّة التقيليديّة تستقبل ساسون ودايان والحكّامَ الإسرائيليين، وتبحث معهم في موضوع "الكيان الفلسطينيّ" لتصفية القضيّة الفلسطينيّة وتحقيقِ النصر السياسيّ بعد أن حقّقتْ نصرَها العسكريّ. وكادت تلك المحاولاتُ أن تنجح لولا تصاعدُ العمل الفدائيّ وإحباطه لها."
***
هذا، وقد سطّر جيفارا غزّة وعددٌ من رفاقه بطولاتٍ في الزنازين وأقبيةِ التحقيق الصهيونيّة، لكنْ لم يسلَّط الضوءُ عليها كما يجب. وكان لهذا الصمود أثرُه البالغُ في حماية عشرات الخلايا السرّيّة المسلّحة، التي بقيتْ فاعلةً في قطاع غزّة، وتَستنزف قوّاتِ العدوّ يوميًّا. ويَذْكر الأسرى الأوائلُ من القطاع المواجهةَ القاسيةَ التي خاضوها داخل الزنازين في "السرايا" وفي السجون الصهيونيّة، وبخاصّةٍ في سجن عسقلان المركزيّ.(3) وعلى الرغم من اعتقال جيفارا غزّة سنتين ونصفَ السنة (اعتُقل في 15/1/1968 وأُطلق سراحُه في تمّوز 1970) ، فإنّ العدوّ لم يكن يعرف أنّ هذا الشابّ الذي يقف أمامه هو جيفارا غزّة!
***
حين خرج جيفارا غزّة من السجن، أعاد بناءَ القوات العسكريّة والخلايا السرّيّةِ بطريقةٍ جديدة، اعتمد فيها أساليبَ غيرَ معهودة، ومنها التركيزُ على دور الفدائيّات. فمع جيفار غزّة، أصبح للمرأة الفلسطينيّة دورُها المركزيُّ في المقاومة المسلّحة: فكانت تقوم بنقل الرسائل السرّيّة، وتأمينِ طرق الإمداد والمال والعتاد، وصناعةِ القنابل.
كما طوّر جيفارا غزّة أساليبَه في التخفّي، والمراوغة، وفي نصب شباكٍ مُحْكمةٍ لقوّات الاحتلال - - ما جعل جنرالاتِ العدوّ في حيرةٍ من أمرهم، وزاد من تصميم الجنرال شارون ووزير الحرب موشيه ديان على تكثيف الجهود لإنهاء هذه الظاهرة التي باتت تشكّل تهديدًا حقيقيًّا لوجود الكيان نفسِه.
وينقل مراسلُ وكالة اسوشييتد برس عام 1972 في مشاهدَ مصوَّرةٍ واقعَ الناس في غزّة تحت الاحتلال، فيقول إنّ هذه المنطقة تعيش تحت قانون منع التجوال بشكلٍ دائمٍ تقريبًا، وتشهد عمليّاتٍ مسلّحةً بشكلٍ كثيف، ويكاد لا يمرّ يومٌ واحدٌ لا تقع فيه أحداثٌ ضدّ الجنود الإسرائيليين. ويقول أحدُ الجنود إنّه لا يريد أن يبقى في غزّة. ويؤكّد المراسل توقّفَ الإسرائيليين عن المجيء إلى غزّة بعد أن كانوا يأتون إليها للتبضّع بسبب رخْص الخضَر والفاكهة في أسواق القطاع. ويعزو ذلك إلى عمليّات المقاومة.(4)
***
في إطار مثل هذه المعارك الدامية التي خاضتها المقاومة، وضمنها الجبهةُ الشعبيّة، ستقع أخطاءٌ عديدةٌ حتمًا، سواءٌ في تقدير الموقف السياسيّ أو في الميدان. وسوف تتعلّم المقاومةُ من تجاربها وأخطائها.
فاستهدافُ الحافلات التي كانت تُقِلّ العمّالَ الفلسطينيين الذين كانوا يضطرّون إلى العمل في فلسطين المحتلّة عام 48 لم يكن ذا جدوى. وقد عبّرت الجماهيرُ الشعبيّةُ عن تذمّرها من هذا النوع من العمليّات، على الرغم من الالتفاف الشعبيّ العارم الذي حظيت به الجبهةُ الشعبيّةُ آنذاك. ولذلك، توقّف جيفارا غزّة ورفاقُه عن استهداف حافلات العمّال. ثم وجدوا فرصةً في تدريب بعض هؤلاء وتنظيمِهم في تشكيلات مقاومةٍ سرّيّة. وهذا النهج الجديد ستكون له فائدةٌ أكبر، ولا سيّما أنّ الطبقاتِ الشعبيّةَ المُفقرة من اللاجئين كانت مرغمةً على البحث عن لقمة العيش داخل فلسطين المحتلّة عام 48، إذ لم يتوفّر لها البديلُ. ونتيجةً لذلك نفذّت المقاومةُ من غزّة سلسلةً من العمليّات البطوليّة في القدس وفي العمق المحتلّ أيضًا.(5)
***
على أنّ تزايدَ العمليّات البطوليّة تَرافق أيضًا مع مشروع تصفية الثورة الفلسطينيّة. وخلال هذه السنوات الستّ نفسِها (1967 – 1973)، سار مشروعُ التصفية في غير مسارٍ، سياسيٍّ وعسكريٍّ واقتصاديّ. وفي كلّ موقعٍ ومنطقةٍ ودولةٍ وُجدتْ فيها البندقيّةُ الفلسطينيّةُ المقاتلة، أو مَن يعبّر عنها، كان المعسكرُ الإمبرياليّ - الصهيونيّ - الرّجعيّ يستهدفها بالعنف الدمويّ والمجازر والحصار.
وفي هذا السياق، عمد العدوُّ إلى تفعيل المسار التصفويّ السياسيّ من خلال تأسيس ما عُرف بـ"الكيان الفلسطينيّ" في الضفّة والقطاع، ومن خلال علاقاته بكبار الرأسماليين الفلسطينين من عملائه هناك وفي الأردن وغيره. حدث ذلك كلُّه في الوقت الذي نشط فيه جهازُ الموساد الصهيونيّ في قطع "الرؤوس الحامية" كما قالت غولدا مائير، وفي تصفية عشرات المثقفين الثوريين في المنفى، ومنهم غسّان كنفاني وكمال ناصر ومحمود الهمشري وباسل الكبيسي ووائل زعيتر ومحمد بو ديا، من أجل فتح الباب واسعًا لشخصيّات فلسطينيّة "جديدة" تتصدّر المشهدَ السياسيّ.
كنفاني: في الوقت الذي يُناضل فيه البعضُ ويتفرّج بعضٌ آخر، هنالك بعضٌ أخيرٌ يقوم بدور الخائن
هكذا، "وفي الوقت الذي كان يُناضل فيه بعضُ الناس ويتفرّج بعضٌ آخر، كان هنالك بعضٌ أخيرٌ يقوم بدور الخائن،" كما يقول غسّان كنفاني. وهذا "البعضُ الأخير" كشفته لنا السنواتُ والعقودُ اللاحقة، حين تكرَّسَ نهجُ الإقصاء والتفرّد في منظّمة التحرير بعد العام 1974. ومَن عجزتْ غولدا مائير عن اغتياله، قامت قيادةٌ فلسطينيّةٌ هجينةٌ وتقليديّةٌ بإقصائه وطردِه وحصارِه، كما جرى مع الدكتور أنيس صايغ وعدد من الكتّاب والباحثين في "مركز الأبحاث" و"الإعلام الموحَّد" وغيرهما من مؤسّسات منظّمة التحرير.
يجب أن نعترف بأنّ العدوّ نجح في اختراق الثورة والمنظّمة وتحويلِ مسارها، وفي توظيف "شخصيّات" كانت تتحدّث في الخفاء مع الصهاينة منذ بداية السبعينيّات، في موسكو وروما وقبرص بشكلٍ خاصّ. هذه الشخصيّات، التي أوصلت القضيّةَ الوطنيّةَ إلى أوسلو، تنتمي إلى "طبقةٍ" لم تكن لترفع رأسَها في زمن جيفارا غزّة، وهي التي أسّستْ للكيان الفلسطينيّ التابع لـ"إسرائيل" وما يسمّى "السلطةَ الفلسطينيّة."
***
وإذا كانت ثمّة ملاحظاتٌ أخيرةٌ يُمكن أن نقدّمَها اليوم إلى أنفسنا، وإلى الجيل العربيّ والفلسطينيّ الجديد الذي تقاتل طلائعُه الوطنيّةُ في السجون، وعلى السلك الفاصل بين غزّة وفلسطين المحتلّة عام 48، وفي الجامعات، وفي صفوف المقاومة المسلّحة في القطاع، وضمن حملات المقاطعة ومناهضة التطبيع والتدجين، فهي المزيدُ من القراءة النقديّة الواعية لتجربة الثورة الفلسطينيّة بين 1967 و1973، بكلِّ ما تحمله من الصحّ والخطأ والبطولة والخيبة.
وقد يبدو اليوم أنّ تلك المرحلة تنتمي إلى سنواتٍ موغلةٍ في الماضي. غير أنّها، في العمق، مرحلةٌ شديدةُ الارتباط بالحاضر والمستقبل أيضًا. وستظلّ تجربةُ جيل الثورة، جيلِ غسّان وجيفارا غزّة وآلافِ الفدائيين وعشراتِ المثقفين الثوريين، هي النبعَ الصافي في مجرى هذه الثورة، والعينَ التي يمكن ورودُها والنهلُ منها بثقةٍ؛ ثقةٍ ينبغي ألّا تخلو - مع ذلك - من الروح النقديّة.
إنّ تلك الطاقة الثوريّة التي لا تزال تشتعل تحت الرماد لن تذهبَ إلّا لتعود. وهي ضرورةٌ لا بدّ منها في أيّ مشروع ثوريّ تحرّريّ جديد.
كندا
كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.