بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على انفجار جائحة كورونا، ما زالت دولُ العالم تشكو نقصًا في إمكانات مجابهتها، إنْ لم يكن عجزًا عن هذه المجابهة. في مقدّمِ هذه الدول الولاياتُ المتحدة، والدولُ الأوروبيّة، وعلى رأسها فرنسا. وقد كثرت الاتّهاماتُ الموجَّهةُ إلى قادة هذه الدول (وبخاصّةٍ ترامب وماكرون) بالتقاعس والتأخّر والتباطؤ في تلك المجابهة.
والسؤال: هل فعلًا "فوجئ" العالمُ بهذه الجائحة؟
في العام 2007 صدر تقريرٌ عن وكالة الاستخبارات الأميركيّة توقّع أن ينتشرَ في العالم مرضٌ قاتلٌ يصيب الجهازَ التنفّسيَّ، سببُه أحدُ الفيروسات الكورونيّة، وأن يتحوّلَ إلى وباءٍ عالميّ. فإذا كان الناسُ العاديّون قد فوجِئوا بالفيروس، وبالتدابير التي اتّخذتها الحكوماتُ لإرغامهم على ملازمة منازلهم، فإنّ المختصّين بالسهر على المعلومات والاستخبارات لم يفاجأوا على ما يبدو.
صدرتْ ترجمةُ هذا التقرير إلى الفرنسيّة في العام 2009، بعنوان تقرير وكالة الاستخبارات الأميركيّة الجديد: كيف سيكون العالمُ في العام 2025؟[1]لكنْ لم يلتفت المسؤولون الفرنسيّون (ولا الأوروبيّون الآخرون)، أو الأميركيّون، إليه التفاتةً جادّةً، فأصابهم اليومَ ما يشبه الذهولَ عندما بدأ كوفيد-19 يتفشّى بسرعة إلى سائر دول العالم. وسببُ الذهول هو دقّةُ الخبراء الذين أعدّوا التقريرَ في توصيف الفيروس وكيفيّةِ انتقاله وتحوّلِه وانتشارِه، وكأنّما كان يحصل أمام عيونهم!
هذا وقد تضمّنت النسخةُ الفرنسيّةُ مقدّمةً ضافيةً كتبها الخبيرُ الاستراتيجيّ الذائعُ الصيت ألكسندر آدلر. كما تضمّنتْ فصلًا قصيرًا بعنوان "احتمال انتشار وباء عالميّ" يصِف هذا الوباءَ وصفًا دقيقًا، ويذْكر أنّ الصين سيكون المكانَ الذي سينطلق منه، مؤكّدًا أنّه "لن يكون في وُسعِ أحدٍ أن يتوقّعَ قدومَه،" وأنّه "ستَلْزم أسابيعُ لتتمكّن المختبراتُ من الحصول على نتائجَ قاطعةٍ تتعلّق بطبيعة المرض وتحوّلِه إلى وباء."
ألكسندر آدلر: المخابرات الأميركية توقّعتْ قدومَ وباء كورونا سنة 2007
كما يؤكّد التقرير أنّ المسافرين بين الدول، أكانوا مرضى أمْ يحملون الفيروس من غير أن يكونوا مرضى، سوف ينقلون العدوى إلى غيرهم، أيًّا كانت الإجراءاتُ المتّخذة؛ وأنّ المرضى سيتكاثرون شهرًا تلو شهر؛ وأنّ العدوى ستتفاقم إلى عشرات ملايين الأشخاص نظرًا إلى انعدام وجود لقاحٍ فعّالٍ أو لعدم كفاية المناعة لدى شعوبٍ كثيرة. غير أنّ آدلر خفض عدد المصابين المحتملين:
"يزعم التقرير أنّه يقدّم سيناريوهاتٍ بنّاءةً وبديلةً للمصير الذي ينتظر البشريّة... وقد أراد مُعِدّو التقرير أن يهوِّنوا قليلًا من المخاوف، بعرض تصوّراتٍ أكثر خطورةً لأحداثٍ كارثيّةٍ مستقبليّةٍ أخرى مثل: الإرهاب، والتغيّرات المُناخيّة المدمِّرة، والحروب العالميّة، والحروب الدينيّة، والصراعات التجاريّة، وغيرها من النزاعات الجيوسياسيّة..."
وقد استجوبتْ آدلر صحيفةُ Corse Matin في 4/4/2020 في شأن هذه التعليقات، فأجاب:
"منذ زمنٍ ومركزُ التفكير الاستراتيجيّ والاستخبارات الأميركيّ (المعروف باسم مجلس الاستخبارات القوميّ NIC) يَجمع المعلوماتِ في مختلف الميادين ذاتِ الطبيعة الجيوسياسيّة، ويصوغ منها تصوّراتٍ ومقترحاتٍ حول مستقبل العالم، ويقدِّمُها إلى وكالة الاستخبارات الأميركيّة. كما يسرِّب شيئًا منها إلى الرأي العامّ عبر الصحف ووسائل الإعلام. فيما بعد، عمدتْ هذه الوكالةُ إلى نشر بعض تلك التصوّرات، التي أخذتْ دُور النشر تنشرها في كتبٍ تلقى رواجًا كبيرًا. وأدركت الاستخباراتُ الأميركيّة أنّ مخاطبةَ الجمهور مباشرةً أفضلُ من بقاء خطابها موجَّهًا إلى نخبةٍ ضيّقة."[2]
من هذه "النخبة" نَذْكر كلًّا من بيل غيْتس، وجاك أتالي، وغيرهما ممّن يَعتبرون أنفسَهم أوّلَ مَن حذّر من وباء كورونا:
- فقد قال الأوّل في مؤتمر موسَّع نظّمه منبرُ TED الدوليّ سنة 2015: "لئن كان ثمّة ما يَقتل أكثرَ من 10 ملايين إنسان في العقود المقبلة القليلة، فالأرجح أن يكون فيروسًا مُعْديًا أكثر منه حربًا."[3] وقد كرّر غيْتس هذا التحذيرَ، على نحوٍ أوضح، في مؤتمر الأمن الذي انعقد في ميونيخ (17/2/2017) إذ صرّح بأنّ "علماء الأوبئة يقولون إنّ عاملًا مُمْرِضًا (pathogen)، سواءٌ حدث بسبب ظرفٍ طبيعيٍّ غيرِ متوقّع أو على يد إرهابيّ، وينتقل في الهواء وينتشر بسرعة، سيقتل أكثرَ من 30 مليون شخص في غضون أقلّ من سنةٍ واحدة. ويقولون إنّ هناك احتمالًا معقولًا أن يَشهد العالمُ مثلَ ذلك الحدث خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة المقبلة."[4]
- أمّا الثاني، الذي عمل مستشارًا للرئيس ميتران، فقد قال إبّان أزمة 2008 العالميّة: "ثمّة أوبئةٌ متوقّعةٌ أشدُّ فتكًا تُنْذر بمخاطرَ رهيبة."[5]
وردًّا على سؤالا لصحافيّة ربيكا فيتوسي عن سياقنشر هذا التقرير، أجاب آدلر:
"نعم، إنّي مَدينٌ بالتوضيح لقرّاء التقرير الذي صبغني بصبغة التنبّؤ أو العلم بالغيب [يضحك]، فأذكّر بدايةً بأنّ تقاريرَ وكالة الاستخبارات الأميركيّة كانت تَصْدر بانتظام. وقد اعتادت هذه التقاريرُ تناولَ أوضاعٍ جيوسياسيّة، وطرْحَ إشكاليّاتٍ ساخنة... وقد طلبتْ مني منشوراتُ Robert Laffont أن أضعَ مقدّمةً لترجمة التقرير أضمِّنُها رأيي في المعلومات الواردة فيه. ففعلتُ ذلك من دون أن أتخلّى عن تفكيري النقديّ. ما ورد في التقرير يهمّ العالمَ أجمع. وبدلًا من إرسال التقرير إلى شخصيّاتٍ مختارةٍ بعنايةٍ ودقّة، خطرتْ لوكالة الاستخبارات الأميركيّة فكرةُ نشر هذا التقرير على الملأ. والحق أنّي نسيتُ تمامًا السيناريوات والتوقّعات الواردة في التقرير. وكلمة ’كورونا‘ الواردة في التقرير هي كلمةٌ ترميزيّةٌ استعملَها الباحثون في مجال الفيروسات والأوبئة للدلالة على الوباء الأخطر. فمن وباءٍ إلى وباءٍ، سيأتي وباءٌ يعمّ أقطارَ الأرض كافّةً. لماذا؟ لأنّ العولمة بلغتْ مرحلةً متقدّمةً جدًّا. وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة لفتت الانتباهَ إلى ذلك، وحذّرتْ منه، وكنتُ أميلُ إلى تأييد ذلك..."[6]
وردًّا على سؤال: "هل كانت هناك ردودُ فعلٍ عالميّة عند صدور التقرير، وهل أُخِذ الإعلانُ عن انتشار الوباء بما يقتضي الأمرُ من جدٍّ ومسؤوليّة؟" أجاب آدلر: "أبدًا. لم يكن هنالك أيُّ ردّ فعل، سواء في فرنسا أو في البلدان الأوروبيّة الأخرى؛ فالتقرير كان واحدًا بين تقارير كثيرة."[7]
وفي حديثٍ آخر أدلى به آدلر إلى مركز التحقيقات الصحافيّة Mediapart في 25/4/2020، يعود إلى أزمة كورونا التي توقّعها التقريرُ ليتكلّمَ عمّا بعدها: "ستُشكّل هذه الجائحة منعطفًا تاريخيًّا يحمل إلى العالم تغييراتٍ جذريّةً وعميقة."[8]
غير أنّ آدلر لم يتطرّقْ إلى تفسير كيفيّة تيقُّن الخبراء الذين أعدّوا التقرير من أنّ كوفيد - 19 "سيتحوّل إلى وباءٍ عالميّ." ولم يكشفْ شيئًا من الشكوك التي تبعثها خفايا هذا التقرير. لذا قوبلتْ تصريحاتُه بردودٍ مستاءةٍ تتّهمه بالتبعيّة لماكرون وبدعم خطّته لمحاربة الوباء في فرنسا - - وهي خطّةٌ تعرّضتْ لانتقاداتٍ حادّةٍ من قِبَل بعض المفكّرين والإعلاميين، وأبرزُهم Edwy Plenel، الذي اتّهم الحكومةَ الفرنسيّةَ وماكرون بأنّهما كانا على علمٍ بقدوم الكارثة ولم يبادرا إلى الحدّ من خسائرها.[9]
إذا كانت أميركا توقّعت الوباء منذ سنين، فلماذا تهاجم الصين وتسمّيه "الفيروسَ الصينيَّ"؟
***
يؤكّد Jean-Baptiste Vilmer، مديرُ معهد البحوث الاستراتيجيّة في المدرسة الحربيّة، والملحق بوزارة الدفاع الفرنسيّة (IRSEM)، أنّ خطرَ الوباء الفيروسيّ موجود منذ العصور القديمة. وإذا نظرنا إلى التقرير الصادر عن وكالة الاستخبارات الأميركيّة عن كثب، نجد أنّه لم يكن استثناءً. فتوقّعُ المشتغلين بالتوقّعات المستقبليّة حدوثَ جائحةٍ قد حصل في السنوات الخمس عشرة الماضية بدقّةٍ متناهية في بعض الأحيان. وفي الآونة الأخيرة، ما علينا إلّا أن نتذكر كيف جرى توقّعُ وباء "سارس" في الفترة 2002-2003.[10
ومع ذلك يبقى السؤال: إذا كانت الولايات المتحدة قد توقّعتْ منذ سنوات طويلة وباءَ كورونا، ووصفتْه وصفًا دقيقًا، فلماذا تشنّ الدبلوماسيّةُ الأميركيّة هجومًا على الصين، فتسمّي فيروس كورونا "الفيروسَ الصينيَّ" وتتهم الصينَ بأنّها وراء فبركة هذا الفيروس ونشره في العالم؟
من المعروف أنّ هذا الفيروس لا تُمْكن فبركتُه في المختبرات. وفي هذا الصدد يؤكّد الباحثان الخبيران في علوم الفيروسات، البروفسور Astrid Vabret، ومساعدُه Meriadeg Le Gouil، أنّ "فيروس كورونا ذو أصل طبيعيّ، أيْ موجودٌ في الطبيعة، وليس من صنع مختبرات."[11] كما يجزم أربعةُ باحثين في ميدان العلوم البيولوجيّة "أنّ الجنس البشريّ وحده هو المسؤول عن وباء COVID-19، شأن مسؤوليّته عن أزمات التغيّرات المناخيّة والتلوّث البيئيّ. وذلك كلّه نتيجةٌ مباشرةٌ لأنظمتنا الماليّة والاقتصاديّة العالميّة، القائمة على أساسٍ محدودٍ لا يقيم اعتبارًا إلّا للنموّ الاقتصاديّ، مهما كان الثمن."[12] فلماذا لم تكن الولايات المتحدة أولى الدول التي تتخذ التدابيرَ اللازمةَ لحماية نفسها من هذا الوباء ما دامت قد توقّعتْه بهذا المقدار من الدقّة؟
باريس
[1]Alexandre Adler, Le Nouveau Rapport de la CIA - Comment sera le Monde en 2025? Paris : Ed. Robert Laffond, 2009
[5]Jacques Attali, La Crise et Après? Paris : Ed. Fayard, 2008