"لعن اللهُ الذّاكرةَ الصوَريّة ومَن أدخلها إلى هذه القرية! لا تتذكّروني بالصور، ولا تعلّقوا صورتي على الحائطِ بعد وفاتي."
كانت هذه وصيّتَه الأخيرةَ الّتي أسلم بعدَها الرّوحَ. لم يتركْ خلفَه سوى صورةٍ واحدةٍ يبتسم فيها بمشقّة، مواجِهًا الاختراعَ الذي حمله إليه شبّانُ القرية.
"ومضةٌ واحدةٌ ستختزنُكَ إلى الأبد!" يبدو الأمرُ صعبًا؛ فهل حقًّا يريد أن يُختزنَ إلى الأبد؟ ولماذا؟
ما هو إلّا متعضّيةٌ فانية.
"متعضّيةٌ فانية"؟!
هذه الفكرة أرعبتْ أهالي الضّيْعة، فمنعوا أولادَهم من زيارته، واتّهمه البعضُ بالجنونِ والإلحاد، وبأنّ سحرًا أُلقي عليه في إحدى رحلاته.
ولكنّه كان آسرًا دائمًا. يُشْبه الدُّمى المعبّأةَ بالحلوى، بابتسامةٍ قطنيّةٍ، وعينيْن تلمعان كالنّجومِ في سماءِ تمّوز.
كان عفويًّا بطريقةٍ مضحكة: يقهقه فاتحًا فمَه على اتّساعه حتّى ترى جذرَ لسانه. وعندما يبكي ينتحبُ بطريقةٍ لا تُناسب سنَّه.
حكايا أسفاره لا تنتهي. أحضَرَ الفونوغراف إلى الضّيعة، فعرفتِ الضيعةُ الموسيقى وثقافةَ الصّوت من خلاله. كما أنّه كان طاهيًا ماهرًا. وكان يخفي خلف شاربيْه الكثيفيْن ذوقًا عاليَ الانتقائيّة: يُبدي رأيَه في أثواب بناتِ الضّيعة وتسريحاتِهنّ برهافةٍ قلّ نظيرُها.
ولكنّه كان حزينًا على الدّوام.
***
"أفنيتُ عمري في ارتقابِ المُنى
ولم أذقْ في العيشِ طعمَ الهنا
وإنّني أشفقُ أن ينقضي
عمري وما فارقتُ هذا العَنا!"[1]
كانت هذه كلماتِ شيخ الضّيعة الأخيرةَ، وبعدها أسلم الرّوحَ. عشقُه لرباعيّات عمر الخيّام النيسابوريّ، زجاجةُ الخمر التي يُخْفيها تحت فراشه، أمّ كلثوم في المساء، الآياتُ القرآنيّة في الصباح، وأشياءُ كثيرةٌ أخرى، جعلتْ منه شخصيْن في عباءةٍ واحدةٍ، يختصمان على الدَّوام، ويتندّرُ بهما أهلُ القرية.
لم يكن واعظًا ثرثارًا في حياته، بل كان صامتًا متأمِّلًا، يُخْفي في نظراتِه أنواعًا مختلفةً من القلق.
لم يسافرْ مثلَ جدّه، ولكنّه احتفظ بالفونوغراف وبصورٍ له في المناسباتِ والأعياد.
أحبَّ النّساءَ، وتزوّج، وتشبّث بالدّين طوْقَ نجاةٍ، وأخفى بالزُّهد نظرتَه الماجنةَ التي يُقال إنّه ورثها عن جدّه.
كان زوجًا مخلصًا، وأكثرَ من الأولاد، كما يفعل رجالُ الدِّين في قريتِه. ولكنّ روحَه الجامحة جعلته نزّاعًا إلى شرب الخمرِ واللجوءِ إلى السُّخرية.
لطالما سأل نفسَه عن السبب الّذي يُبقيه في قريته قانعًا بالقليل، وروحُه توّاقةٌ إلى التّحليق؟
لم يجد في البداية إجابةً لسؤالِه، ثمّ لخّصها بكلمةٍ واحدةٍ: "الخوف."
أورثه جدُّه الكثيرَ، ولكنّه لم يورثْه السّحرَ. وورث عن أمّه شخصيّتَها المتردّدةَ وقلقَها، فآثر الهدوءَ والاستقرار، وأودع أحلامَه زجاجةَ الخمر التي يشربُها سرًّا.
شهد طفولةَ أولاده، وتوتّرَ بلوغهم، وعنفوانَ شبابهم، ونجاحاتهم.
ولكنّه كان حزينًا على الدّوام.
***
"سعيدةٌ لأنّها أنثى؛ فذكورُ عائلتنا مجانين!"
كانت هذه كلماتِها الأخيرةَ وهي تَهَبُ ابنتَها روحَها عندَ الولادة.
كانت أجملَ نساء القرية، وأكثرَهنّ ثقافةً وتعقّلًا. عُيّنت ْفي مدرسة القرية الابتدائيّة بعد التخرّج، وهناك تعرّفتْ إلى زوجها، الذي عُيّن بدوره مديرًا للمدرسة بعد انتقاله من مكانٍ بعيد.
كان قاسيًا معها، وتعدّدتْ نزواتُه، فأحبّتْه ثمّ كرهتْه ثمّ أحبّته.
لطالما شكّت في حبّها له وحبِّه لها. ولكنّها تأكّدتْ من حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر. سألتْ نفسَها عن سبب تعلّقها به، ثمّ وجدتِ الإجابةَ في اختلافِه عن رجالِ عائلتها.
تعبتْ منذ الطّفولة من تذبذبات والدِها وترنُّحِه بين الزّهدِ والإمعانِ في الطَّمع. وشهدتْ إخوتَها يكبرون على النحو نفسِه. كما سمعت الكثيرَ عن جدّها الأكبرِ، ابتداءً بأسفاره وانتهاءً بإشرافه على الجنون.
كلّ هذه الاضطرابات كانت بعيدةً عن الرّجل الذي اختارته. كان ثابتًا كالأشجار وفخورًا بثباته. لكنّ هذا الثّبات لم يشملْها، فتقاسمتْه مع نساءٍ أخريات، وظلّت تشعُر بأنّهما سيفترقان يومًا لأنّه يحمّلها فوق طاقتِها. لكنّه كان آخرَ وجهٍ رأته.
سقطتْ دمعةٌ باردةٌ من عينِها، وعرفتْ أنّها أحبّته إلى الحدّ الذي قادها إلى الشكّ في حبّها. عرفتْ أنّ شكّها كان إمعانًا في الحبّ، وأنّها ورثتْ هذه الطريقةَ عن رجال عائلتها.
كانت سعيدةً باكتشافها الأخير.
ولكنّها كانت حزينةً على الدّوام.
اللاذقيّة
[1]من رباعيّات عمر الخيّام النيسابوري، ترجمة أحمد رامي.