باحث سعودي وأستاذ في العلوم السياسية.
إنّ قراءة الطقوس الشيعيّة بعيدًا عن جذر الهويّة الذي ترتبط به، وعن المعتقَد الذي تُشتقُّ منه وتتفاعلُ معه، يجعل منها قراءةً سطحيّةً، ويُخرجها من إطار التحليل الصحيح.
تبدو الطقوسُ الشيعيّة، التي انفجرتْ على شاشات التلفاز، وكأنّها أهمُّ الإشارات الدالّة على "هويّةٍ خاصّة،" مختلفةٍ عن نظائرها. فالطقوس تمثِّل الوجهَ الفاقعَ لـ"الهويّة الشيعيّة" وعنوانَها. هي قمّةُ الجبل، ورسالةُ التحدّي السياسيّ والاصطفافِ العقَديّ.
والحقّ أنّ الترابطَ القويَّ بين "الهويّة الشيعيّة" والطقوس هو الذي منح هذه الأخيرةَ مكانةً متقدّمةً، ودفعَها إلى أن تحتلَّ صدارةَ الاختلاف مع الهويّات الأخرى. بل إنّ الهجسَ بتلك الطقوس تضخّمتْ لدى "الآخر" المذهبيّ (أي التابعِ للمذاهب الأخرى) بحيث تضاءل معها، في كثيرٍ من الأحيان، اهتمامُه بالقضايا الأساسيّة المتعلِّقة بالتشيّع، معتقدًا وفكرًا وثقافةً وتاريخًا.
الهويّة
نقصد بالهويّة: ثقافةً وانتماءً جامعيْن، يؤطِّران مجموعةً من البشر بمشاعرَ مشتركةٍ، تشدُّهم إلى إثنيّةٍ أو دينٍ أو مذهبٍ أو وطنٍ أو أرضٍ أو ثقافةٍ أو قوميّة، ويميّزانِها من غيرها من الجماعات البشريّة.
و"الهويّة الشيعيّة،" بمعنى الانتماء إلى ثقافة التشيّع ومعتقده ورموزِه وطقوسِه، تبدو للناظر إليها وكأنّها رابطةٌ "معطاةٌ" أو "فِطريّة،" تنشأ بميلاد الفرد، ويَرثُها من أبويْه، مثلما يرث منهما لونَ جلده وسحنةَ وجهه ولغتَه. لكنّها قد تكون، أيضًا، رابطةً "مصنَّعةً،" أيْ يمكن أن يعتنقَها الفرد، فيصبحَ جزءًا من "الجماعة" عن وعيٍ وإرادةٍ واختيارٍ حرّ، لا بالوراثة فحسب.
ثمّ إنّ هذه "الهويّة الشيعيّة" تمثّل انتماءً إلى جماعة بشريّة ليست مؤطّرةً جغرافيًّا، وليست عرقيّةً أو قبَليّةً. هذه الهويّة تسمو فوق هذه الانتماءات. بل إنّها (قد) تسمو فوق الانتماءات الوطنيّة، إذا نجحت البلدانُ التي في صناعة هويّة وثقافة وطنيّة، حافظةٍ لهويّة الجماعات المكوِّنة للشعب، قائمةٍ على المواطَنة، بما تتضمّنُه من مساواةٍ وعدلٍ واحترام.
ما يجمع الشيعةَ كمجتمعٍ دينيّ ليس الولاءَ لدولةٍ ما، بل الولاء لمخزونٍ عقديّ/ ثقافيّ/ فقهيّ/ تاريخيّ، وما يُنتجه كلُّ ذلك من مشاعرَ مشتركة. "الهويّة الشيعيّة" أكبرُ من أنْ تُحشَر (أو يقرَّرَ مصيرُها) في كيانٍ سياسيّ محدَّد، أو أن تُلصقَ بنظامٍ سياسيّ يتبنّی معتقدَ التشيُّع. هذه "الهويّة الشيعيّة" هي الأساس في صوغ نفسيّة المنتمين إليها، وفي تحريكِ عواطفهم، وممارسةِ معتقداتهم، وتحديدِ فلسفة وجودهم في الحياة. وهي التي ترسّم تطلّعاتِهم وآمالَهم، وتحدّد الطريقَ إلى صنع مستقبلهم دينيًّا.
إنّ البحث الدؤوب عن الحريّة، والكرامة، والعزّة، والكبرياء، والرضا عن الذات، واستجلابِ رضا الله، يجعل بعضَ المنتمين إلى عقيدة التشيُّع ملتحمين بها وبمتعلّقاتها، ولا يرضوْن المسَّ بها. إنّ التصاق بعض الشيعة بهويّتهم المذهبيّة عميق جدًّا. بل يمكن القولُ إنّ خوفَهم عليها وعلى أنفسهم محفورٌ في ذاكرتهم، في ماضيهم وحاضرهم، ويتوقّعون أنّه سيبقى معهم في مستقبلهم.
هل هذا مبرَّر؟ وهل يوضح هذا الالتحامُ بالهويّة بعدًا ما عن علاقة الشيعة بطقوسهم؟
کانت هويّةُ التشيّع مستهدَفةً بالاستئصال، أقلّه فترةَ الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، سواء للأفراد المُنتمين إليها، أو للرموز، الأحياء والأموات منهم. لم تكن تلك الهويَّةُ مَرْضيًّا عنها في بعض حقب التاريخ لطابعها السياسيّ المعارض، أو للاعتقاد بأنّها كذلك، ومن ثمّ كانت تُواجَهُ بالعنف بغيةَ إلغاء وجود الثقافة الكامنة وراءها. وهذا ما جعل هويّةَ التشيّع تتّخذ سمةً دفاعيّةً بشكلٍ تلقائيّ منذ نشأتها؛ كما اتّخذتْ طابعَ المخالفة (أو المعارضة) لِما هو سائد سياسيًّا، وفي بعض الأحيان ثقافيًّا.
تتّخذ هويّة التشيّع سمة دفاعيّة بشكل تلقائيّ منذ نشأتها
وبحسب ديفيد بيثام، فإنّ هناك ثلاثةَ عوامل متداخلة تُشعر الأقليّاتِ الثقافيّةَ (بما فيها الدينيّة) بأنّها مهدَّدة:
- القمع والتمييز ضدّها؛
- وجود حكومة مركزيّة قويّة تمارس سياساتِ استتباعٍ وصَهرٍ ثقافيّ؛
- وجود قوى اقتصاديّة ممزِّقة لنسيج الجماعة.[1]
بيْد أنّ ما يُرسِّخ قلقَ الشيعة حيال هويّتهم هو السلوكُ السياسيّ للأنظمة الحاكمة - أقلّيّةً أو أكثريّة - التي ترفض قبولَ التنوُّع الثقافيّ والمذهبيّ، وترى فيه خطرًا عليها أو معوِّقًا لسيطرتها في أدنى الأحوال. هنا، تنطوي الجماعاتُ المهدَّدةُ في ثقافتهاعلى نفسها، كخطوةٍ دفاعيّةٍ أولى، لتحصِّنَ ذاتَها من التبدُّد، وتعمد إلى تسويرها بأدواتِ ثقافةٍ مضادّة لثقافة الحاكم، وترفع نسبةَ الشعور بالغبن والاضطهاد، وتحفِّز الشعورَ الجمعيّ لمواجهة الخطر الداهم. وهنا يأتي شعورُ الاغتراب والانعزال لدى أفرادها، ولدى ثقافتهم وحياتهم، عن الدولة (الغريبةِ هي الأخرى).
في أقصى الأحوال يقوم أولئك الذين تتعرَّض هويّتُهم للتهديد بمقاومة مصدر الخطر، السلطة، إنْ لزم الأمر. فـ"الغريب" في وطنه، أكثريًّا كان أو أقلّويًّا، يرى السلطة "مُغتصبةً أو غيرَ شرعيَّة، وبالتالي يَسْهل عليه تطويرُ حسٍّ جمعيٍّ قويّ يعارض عمليّةَ الإدماج القسريّ التي تقوم بها الدولة."[2]
الطقوس: ملجأ وحماية
يستعر الخوفُ لدى كثيرٍ من الشيعة على "هويَّتهم،" شأنهم في ذلك شأن جماعاتٍ وأقوامٍ وأقلّيّاتٍ وقبائلَ عديدة تعيش في جوٍّ أكثريّ لا يعترف بحقوقهم أو بـ"ثقافتهم." وكلّما تعمّق الإحساسُ بالهويّة الدينيّة أو الإثنيّة أو القوميّة أو الوطنيّة، كان التعصُّبُ لها أكثر، وارتفعت الأسوارُ بين الجماعات والمناطق والطوائف الأخرى.
لكنّ الأسوار بين مكوّنات المجتمعات لا تنتصب عاليةً إلّا حين يكون الانتماءُ حادًّا لدى الأفرقاء، والفرزُ بينهم شديدًا. ذلك لأنّ مبرّرات الالتحام "المطلق" بالهويّة المذهبيّة تضعف في جوّ الاعتدال.
كلّما تعمّق الإحساسُ بالهويّة الدينيّة ارتفعت الأسوارُ بين الجماعات والطوائف
والذي يحدث، في أغلب الأحوال، أنّ الجماعات لا تذهب بعيدًا في تميّزها وتسوير ذاتها إلّا إذا شعرتْ بالخوف على ذاتها من الاعتداء، أو هي في الواقع في مواجهة اعتداء من جماعاتٍ خارجيّة. فيصحُّ، حينئذٍ، القولُ إنّ الفواصلَ والحواجزَ بين الجماعات عمليّةُ بناءٍ مشترَكة: فعلٌ وردُّ فعل. فالذي يحرِّك جماعةً ما لاضطهادِ أخرى هو دافعُ إعلاء الهويّة الخاصّة والمصلحة الخاصّة، وقد يتغطّى بأثوابٍ دينيّة أو قوميّة أو طائفيّة أو إثنيّة أو حتّى وطنيّة.
لهذا تصبح الثقافةُ الخاصّة - والطقوسُ هي من أهمّ جوانب تلك الثقافة - ملجأً للجماعات، فتلعب دورًا رئيسًا في تصليبها، أيًّا كانت، دينيّةً أو وطنيّةً أو غيرَ ذلك. وهي تمثِّل درعًا لحمايتها، ووسيلةً لاستمرارها وتوريثها وتعميقها وانتشارها. ومن هنا يمكن أن يستبسلَ كثيرٌ من المنتمين إليها عبر المشاركة في تلك الطقوس، والدفاع عنها بكلّ الشراسة الممكنة. إنّ حماية الهويّة الخاصّة (أو الفرعيّة) يعني تمتينَ خطوط الدفاع الأولى التي تمثّلها الطقوس؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا، فهي تحمل في ذاتها دفاعًا عن الذات الشخصيّة، وعن الجماعة: حاضرِها ومستقبلِها.
أزمة طقوس أمْ أزمة دولة؟
هجسُ الدولة القُطْريّة بالطقوس الشيعيّة يكشف عن أزمة سياسيّة بنيويّة فيها أكثرَ ممّا يكشف تأزّمًا لدى مَن يمارس تلك الطقوس. فالدولة القُطْريّة - العربيّة بوجه خاصٍّ لم تكن في تجربتها منذ نشأتها معنيّةً باحتضان التنوّع الثقافيّ والدينيّ والإثنيّ، بقدر ما كان قادتُها يسعوْن إلى الصهر والإدماج القسريَّين في بوتقة جماعةٍ خاصّةٍ أخرى، وإنْ أكثريّة أحيانًا، وليس في بوتقة وطنيّة وضمن الهويّة الوطنيّة بمعناها الواسع، لتتحوَّل مظلّةً لثقافات مواطنيهم المتنوّعين.
اليوم، تقترب أوساطٌ عديدةٌ في العالم من فهمٍ أعمقَ لقيمة التنوُّع الثقافيّ واللغويّ والدينيّ والإثنيّ، ودوره في إثراء المجتمعات؛ ما عنى التشديدَ لا على احترام التنوّع فقط، بل على حمايته وتعزيزه رسميًّا. وفي المقابل، لاتزال تجربةُ الدولة القُطريّة العربيّة بائسةً، ولا يزال قادتُها يتّكئون دومًا على جماعتهم الصغيرة، وما زال يجري - باسم الوطنيّة والقوميّة - قمعُ التنوُّع الثقافيّ واللغويّ والإثنيّ قسريًّا. ولم يكن الشيعة سوى حالةٍ من حالات عديدة قائمة تؤكّد هذه الحقيقة، وتشير إلى أنّ سببَ بقاء الهويّات الفرعيّة حيّةً قويّةً يعود إلى أزمةٍ في بنيان الدولة القطْريّة الحديثة، التي لم تكن "وطنيّةً" بصدق، ولا تستند إلى إرادة شعبيّة حقيقيّة في بقائها، بل إلى القمع والأثَرة السياسيّة.
وإذا كانت الطقوس الشيعيّة ملازمةً للهويّة، وحضورُها في الميدان سياسيًّا، ولا يمكن قمعُها بالقوّة، ولا القضاءُ على الثقافة الكامنة وراءها؛ فإنّه لا يمكن تجريدُها من أبعادها السياسيّة إلّا بحلولٍ سياسيّة، وذلك عبر معالجة مشكلة الهويّة والإدماج الوطنيّ في كلّ قطر من الأقطار العربيّة والإسلاميّة. ما كانت ممارسةُ الطقوس الشيعيّة لتُعدَّ مشكلةً سياسيّةً لو أنّ هذه الأقطار کانت ناجحةً في تأسيس نظام سياسيّ وطنيّ وحرّ. ولذا لا نجد دولةً ديمقراطيّةً حرّة تعتبر ممارسةَ الطقوس الشيعيّة مشكلةً، بما فيها الهند، أكبر دولة ديمقراطيّة في العالم.
الطقوس تسبِّب مشكلةً للأنظمة السياسيّة الرخوة، المستبدّة، القائمة على رؤى الاستئصال والتهميش. ولذا لا يتوقّعنَّ أحدٌ نظرةً مختلفةً من دون قيام نظام سياسيّ يحتضن التنوّعَ، وينأى عن الطائفيّة والمذهبيّة والقوميّة العنصريّة الشوفينيّة، ومن دون ترسيخ هويّة وطنيّة قُطريّة قويّة، تلغي التمييزَ الطائفيّ، وتؤكِّد المشتركَ الثقافيّ، وتفتح آفاق حريّة التعبير الدينيّ والسياسيّ.
إنّ مواجهة الطقوس على أرض الواقع (اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا) أمرٌ لا يتحقّق. فالطقس يأخذ صفةً رمزيّةً "لحماية الجماعة" من التذرّر والتفكّك. فكلّما زاد الضغطُ، تمسَّك الناسُ بطقوسهم، بالقشور وباللباب معًا.
إنّ حلّ مشكلة تضخّم الطقوس السياسيّ ليس بيد الأفراد بالضرورة، وليس بيد المؤسَّسة الدينيّة الشيعيّة (إنْ جازت تسميتُها بـ"المؤسَّسة")، ولا بيد المشايخ والرواديد وغيرهم ممّن يمارسون الطقوسَ العاشورائيّة، بل هو بيد سلطات كلّ دولة تنظر بعين الرَّيبة إلى تلك الطقوس من زاويةٍ سياسيّة أو زاويةٍ إيديولوجيّة أو كلتيهما.
إنّ وجود هويّة وطنيّة قويّة، وثقافة وطنيّة قائمة على عناصر مشتركة من ثقافة مكوِّنات المجتمع، ومواطَنة حقيقيّة تتعامل مع الأفراد بالتساوي ومن دون تمييز، يؤدّي إلى:
1) نزع الخوف من الأفراد على هويّتهم الخاصّة، خصوصًا أنّهم يستطيعون التعبير عنها في طقوسهم الدينيّة تحت المظلّة الوطنيّة.
2) نزع المخالب السياسيّة من الطقس، بمعنى عدم استخدامه ضدّ الوضع القائم، الذي سيكون مقبولًا ومدعومًا من الجميع، وممثَّلًا من الجميع.
3) إخراج الدولة من دائرة الانحياز إلى مذهب، ووضعها فوق المذاهب كافّةً، وفِرقِ الانتماءات كافّة. وهذا أفضلُ ما يمكن أنْ تصنعَه أيُّ دولة، خصوصًا في البلدان التي تشهد تنوُّعًا طائفيًّا أو مذهبيًّا أو عرقيًّا.
4) دمج الشيعة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة العامّة، بحيث تنتفي مسألةُ التمييز الطائفيّ، وتتأكّد العناصرُ الثقافيّةُ الحاضّة على الاجتماع والمصلحة المشتركة، وتنطبع الحياةُ العامّة بتنوّعها الثقافيّ والمذهبيّ تحت سقف قوانين الدولة.
ليست هويّةُ الشيعة هي التي يجب أن تتغيّر بل هويّةٌ النظم السياسيّة المستبدّة القائمة.
لندن
باحث سعودي وأستاذ في العلوم السياسية.