في ساعات الصباح الأولى تكون الوحدة رفيقًا طيّبًا، تمنح الأمَّ الغارقةَ في داخلها فترةَ هدوءٍ وطمأنينة، فتترك أطرافها حرّةً وهي تنتقل بين غرف بيتها، تعيد ترتيب الأشياء، كأنّها تردّ روحَها إلى الأمكنة التي تغادرها كلّما كانت محاطةً بالحزن والقهر.
يمرّ الوقت بين يديها طيّعًا ومنسابًا. لا يزعجها طنينُ منبّهِ الوقت، ولا طرْقاتُ عامل الصيانة، ولا رنينُ الهاتف واتصالٌ من صديقتها التي طلّقتْ مرتيْن وتبحث عن زوجٍ ثالث. تصير جميلة. عينُها، التي تكبر وتتسع وهي تسقي نبتاتِ نافذتها الصغيرة، نافذةٌ تسمح لها بأن ترى العالمَ من دون أن تدوسَه أو يخدشَها. هنا، في ساعات الوحدة، تحبّ جسدَها الضئيلَ الذي لان وخفّ وزنُه مع تقدّمها في العمر، وصار مرسومًا أكثر، ثناياه تُبرز أنوثتها الدافئة، تشعر به كلّما لامس طرفٌ منه قطعةً من بيتها، كأنّها به تتحسّس الحياة التي تدبّ فيه مرّة واحدة؛ حياةً تسري مثل نهرٍ جارفٍ من رأسها إلى قدميْها، يكفيها أن تدور دورتين على أطراف أصابعها وهي ترهف السمعَ إلى رغبة جسدها في بلوغه نشوته. هكذا تكون طقوسُ صباحها، حين تتسلّل الشمس إلى الغرف تلاحقها بشرائط النور، وهي ترتعش بنزوة الصبح مثل فراشة عند انطلاقة الفجر.
يعود الصغير مع أبيه الى البيت. كان يحمل قفصًا في داخله طائر كناري. ينادي أمّه بأعلى صوته من أجل أن يريها العصفور. في المطبخ الصغير وضع القفص فوق الطاولة أمامها، وبدأ يحكي.
كان الصغير فرحًا جدًّا، يدور حول القفص ويحكي. كانت الأم تلمّ روحَها من البيت وهي تحاول أن تسمع ما يحكيه . حكى عن أقفاصٍ كثيرة، كبيرةٍ وصغيرة، وعن طيورٍ ملوّنة. حكى عن سوق يبيعون فيها كلابًا وقططًا وعصافير. أخبر أمّه أنه هو من اختار هذا الطائر، وأنّ والده دفع ثمنه للبائع. ثم فتح كيسًا فيه طعام للكناري، وأراها أين يضع له الماء.
أزعج الأمَّ وجودُ طائر الكناري، لكنها كتمت انزعاجَها حتى ينتهي صغيرها من سرد مغامرته في سوق الطيور.
- لماذا تريد عصفورًا في قفص؟
- قال صاحب المحلّ إنّ الكناري يغرّد بصوت جميل. ثم إنني سأهتمّ به.
- الطيور لها كلّ الفضاء، وهي ستتكفّل برعاية نفسها. سيكون حزينًا في القفص، ولن يغرّد.
- وهل تحزن الطيور؟! وحدك، ماما، حين تحزنين لا تتكلّمين.
سكتت الأم وعادت إلى عملها. اعتاد الطفلُ صمتَ أمّه حين تقرّر أن تنسحب من نقاش بينهما، ليس هربًا من النقاش بل لتترك له مساحة كي يفكر. عرف أنّ أمّه غير سعيدة بوجود طائر الكناري رغم تظاهرها بالرضى. لكنّه يعرف أنّ أمّه حزينة طوال الوقت، وأنّ وجهها الذي يرافقه طوال النهار يتبدّل إلى وجه طفلةٍ تبتسم كلّما غفت إلى جانبه ونامت. لن يبدّل حضورُ العصفور أو غيابُه شيئًا من وجهها الحزين. حماسة الطفل تجاه الطائر غلبتْ رغبته في إرضاء أمه. حمل قفصه وابتعد عنها يريد أن يحمي أفكاره منها، كما يفعل والده الذي يظل غائبًا عن البيت طوال الوقت. أخذ يدور في البيت حاملًا القفص وهو يحدّث الكناري، وحين يتعب من الدوران بين الغرف يجلس قرب القفص يراقب طائره بعينين واسعتين اختفت لمعة الفرح فيهما؛ وبدا أنّ كلام أمه عن حزن العصفور قد أثّر فيه .
بينما كانت الأم تحضر العشاء كانت تعيد التفكير بالطائر وبكلام صغيرها. لعلّ الكناري سيغرّد وسيأْلف القفص، وسيألف جدران هذا البيت، وربّما لن يكون مشهدُ السماء من خلال النافذة سوى بقعة زرقاء أو رماديّة لا تعنيه في شيء. لعلّ الطائر لا يعرف معنى للحرية أو للطيران. ظنّت أنّها بصمتها تخفي مشاعرَ حزنها التي تخصّها وحدها، وأنّها ستداري نفسها التي وجدتْها مكشوفةً أمام صغيرها المرهف.
ليلًا غفا الصغير وهو إلى جانب القفص. حملته أمه إلى سريره. تركت الطائر في مكانه لم تزحزحه؛ كانت تتجنّب النظر إليه.
"لن يصمد طويلً، سيموت غدًا،" قالت في سرّها. حدست ذلك لأنّ الطائر كان هزيلاً وساكنًا.
في الصباح الباكر أيقظها بكاءُ ابنها.
بعد أن دفنا الطائر في الحديقة، حاولتْ جاهدةً أن تشرح لابنها أسبابًا مختلفةً أدّت إلى موت الكناري. كان الصغير حزينًا. فضّل الصمت والبقاء في غرفته يلهو بألعابه.
لم يطل الوقت حتى عاد إلى أمّه لينزوي في حضنها. بدا أصغر من سنواته الثماني بكثير وهو يلتصق بها وكأنه يحميها ويحمي نفسه.
انهمرتْ أسئلته عن الموت وعن السماء، عن الرحلة المجهولة، وإلى أين ترحل الطيور وإلى أين يرحل الناس.كان خائفاً وهو في حضن أمه. همس في أذنها: ماما سأصنع لك جناحين، لا أريدك أن تموتي من الحزن.
الكويت