مرحبًا يا حكيم.
تسعُ سنوات مرّت على رحيلك. أمورٌ كثيرة حصلتْ وليتها لم تحصل، وأمورٌ كثيرة تغيّرتْ وليتها لم تتغيّر. لا أريد النقَّ ولا التنكيد؛ اعتبرْها جلسةً سريعةً، أقدّمُ لكَ فيها بعضَ ما قد يهمّك من الأخبار والتعليقات السريعة؛ فأنا أعرفُ شدّةَ تألمّك من أن تكون بعيدًا إلى هذا الحدّ عن شعبكَ الذي التصقتَ به وبهمومِه طوالَ حياتك.
بعد أن غادرْتَنا بثلاث سنوات، اشتعلتْ ساحاتٌ عربيّةٌ كثيرةٌ بالتظاهرات ضدّ حكم العسكر والاستبدادِ والفساد. تونس، مصر، البحرين، اليمن، سوريا،... كان المشهدُ جميلًا في الشهور الأولى، وطار بن علي ومبارك. لكنْ، مهلًا، لا تفرحْ وتتوهّمْ أنّ جزءًا من أحلامِكَ في الحريّة والديمقراطيّة والعدالة قد تحقّق. فما هي إلّا شهورٌ أو سنواتٌ قليلة حتى تهافتتْ عناصرُ "الثورة المضادّة،" من مالٍ ونفطٍ وغازٍ ومذهبيّةٍ وطائفيّةٍ وتدخّلٍ خارجيّ: فإذا بمصرَ يحْكمُها طاغيةٌ جديد، وإذا بليبيا نهبٌ لصراعات القبائل، وإذا بسوريا ساحةٌ لصراعاتٍ دوليّة وإقليميّة ومذهبيّة بعد قتلٍ ودمارٍ عظيميْن، وإذا، وإذا...
ثورة مضادّة؟
قد لا يكون التوصيفُ دقيقًا يا حكيم، وأنت الحريصُ على توخّي الدقّة و"دراسةِ الأمور بشكلٍ علميّ وموضوعيّ" (هذه ربّما أكثرُ كلماتكَ تكرارًا في خطاباتك). صحيح أنّ الهبّات التي سُمّيتْ "ربيعًا عربيًّا" كانت، في جزءٍ رئيسٍ منها، استجابةً طبيعيّةً لعقودٍ من الظلم والفساد، لكنّك كنتَ ستلاحظ، وربّما قبلَنا جميعًا، أنّ عناصرَ الخلل كامنةٌ في أساس هذه الهبّات: في تركيزِها على إسقاط الرؤساء والرموز بدلًا من تغيير الهيكليّة العامّة للأنظمة، وفي الاستهانة بالأهداف الاستراتيجيّة البعيدة بذريعة "تحقيق الممكن" (أتذكّر للتوّ عبارتَكَ الشهيرةَ: "الثورة قامت لتحقيقِ المستحيلِ لا الممكن")، بل أحيانًا في قبول بعض "الثوّار الجدد" بالتواصل مع الأعداء التاريخيين (إسرائيل وأميركا) واعتبارِهم حلفاءَ آنيّين إلى حين التخلّص من الاستبداد، والأهمّ: في قبولهم "تأجيلَ" حلّ مأساة فلسطين إلى حين الخلاصِ من الاستبداد.
فلسطين؟ ماذا نخبرك عنها يا حكيم؟ ما زالت مقسومةً بين سلطتين، كلتاهما أشدُّ قمعًا وخواءً من ذي قبل. حركة حماس تعتقل رفاقكَ إذا تظاهروا لأمورٍ ذاتِ علاقةٍ بمشاكل الحياة اليوميّة (كالكهرباء). وسلطةُ عبّاس (وهنا الكارثة الفعليّة) تشرِّعُ "التنسيقَ الأمنيَّ" مع العدوّ، وتقدِّم إليه معلوماتٍ عن المقاومين، وتعتقلُهم.
تغضب؟
من حقّك أن تغضبَ يا حكيم. ولكنّني أعتقد أنّكَ لن تكتفي بالغضب، خصوصًا أنّ هؤلاء النصّابين الجدد، أدعياءَ الوطنيّة والتمسّكِ بالثوابت والمقدَّسات، استغلّوا حرصَكَ على "الوحدة الوطنيّة" ليمارسوا التنكيلَ بشرفاء الوطن، واستغلّوا قبولَ الجبهة الشعبيّة بالتكتيك المرحليّ ليجعلوه استراتيجيا نهائيّةً، وليَشطبوا حقَّ العودة، وليُلغوا صفد واللدّ وحيفا ويافا وطبريّا من خارطة فلسطين، وليتربّعوا على عروشٍ من المِنَح والهِباتِ الدوليّة.
الشعب الفلسطينيّ اليوم يدخل أنفاقًا مظلمةً يا حكيم: احتلالٌ أقسى، زيادةٌ في الوحدات السكنيّة الصهيونيّة، تهويدٌ أكبر للقدس، انقسامٌ داخليٌّ أشدّ، وضعٌ عربيّ مضطرب ومفكَّك وغامض في أحسن الأحوال، تسابقٌ رسميّ عربيّ على التطبيع. لكنّ شعبكَ، كما كنتَ تتوقّع يا حكيم، وأنتَ الذي عرفتَه عن كثبٍ طوال أكثر من ستّة عقود، ما زال يقاوم: بالسكّين، بالحجر، بالدهس، بالرصاص، بالصراخ، باقتحام قاعاتِ التطبيع داخل القدس وغير القدس. شعبُكَ يا حكيم لم يستكِنْ رغم الاحتلال، ورغم أموال الـNGOs وشعاراتِها التطبيعيّة، ورغم السلطة، ورغم الإخوانِ المسلمين، ورغم تراجعِ الحلفاء العرب التقليديّين. 69 عامًا وهو يقاوم. 69 عامًا وهو يرفض المخطَّطاتِ واحدًا تلو الآخر. 69 عامًا وهو يردّد: "إمّا فلسطينُ وإمّا النارُ جيلًا بعدَ جيلِ!"
لكنّ الوضع الفلسطينيّ يا حكيم بحاجة إلى بعض القيادات الجديدة، ولا أقول الشابّة بالضرورة؛ فكثيرٌ من الشباب اليوم بلا أملٍ ولا عزيمةٍ ولا خبرةٍ نضاليّة، وبعضُهم لا يَحلم إلّا بالهجرة. والوضعُ الفلسطينيّ بحاجةٍ إلى مناضلين يمارسون الإبداعَ ــــ نعم الإبداع! ــــ في العنف الثوريّ. أتعْلم يا رفيقي أنّ رفيقكَ جورج إبراهيم عبد الله ما زال في السجن الفرنسيّ منذ 33 عامًا؟ هناك تصميمٌ إمبرياليّ فرنسيّ إسرائيليّ على أن يموت جورج في السجن يا حكيم، هذا الذي أفنى شبابَه من أجل فلسطين ورفض أن يوقّع على صكّ التوبةِ عن حبّها. أين رفيقُكَ وديع حدّاد (أبو هاني)، يا أبا الميْس؟ لا أجد اليومَ مَن يعمل على "إنتاج" ثوريّين من طينة أبي هاني! وهؤلاء، كما علّمْتَنا، يُنتَجون، ولا يأتون مصادفةً في العادة.
أمر آخر أريد أن أصارحَكَ به يا حكيم، وهو الثقافة السياسيّة داخل الجبهة الشعبيّة بالتحديد. وليتّسعْ صدرُكَ لشكوايَ هنا، مثلمًا اتّسع قبل الآن، ودائمًا.
الجبهة الشعبيّة عرفتْ مع غسّان كنفاني بشكلٍ خاصّ، وخلال مرحلة بيروت (1982) على نحوٍ أقلّ، "انتفاضةً" ثقافيّةً إلى حدٍّ ما. كانت الجبهة تؤْمن فعلًا أنْ لا ثورةَ حقيقيةً بلا ثقافةٍ مواكِبةٍ، وكانت معملًا للأفكار والاجتهادات والرسوم والندوات والبوسترات. وكان عناصرُ الجبهة من أكثر فئات الشعب الفلسطينيّ قراءةً ووعيًا؛ وهذا على الأقلّ ما شهدتُه شخصيًّا وأنا شابٌّ في نهاية السبعينيّات في بيروت (أحدُ أصدقائي في حركة فتح قال لي آنذاك إنّ "مسؤولَه" نصحه بعدم الاستفاضة في النقاش مع "جماعة" الجبهة الشعبيّة وحزب العمل الاشتراكيّ العربيّ لأنّهم "بيفتلولك راسك فتْل!"). يؤسفني القولُ يا عزيزي إنّ الجبهة، منذ سنواتٍ طويلة، لم تعد تُنتج "ثقافةً" أو أفكارًا جديدةً، بل هي توقّفتْ تقريبًا عن إعادة إثارةِ القضايا المهمّة لشعبنا وقضيّته (حتى رفاقُنا في "الجبهة الديمقراطيّة" باتوا أكثرَ اعتناءً بالكراريس التثقيفيّة). وذاتَ يوم، في العام 2010 تحديدًا، طرحتُ في ندوةٍ أقامتها مجلةُ الآداب في "الدائرة السياسيّة في الجبهة" في دمشق، وبوجود بعض القياديين الأحبّة، ضرورةَ أن تُحْيي الجبهةُ الشعبيّة النقاشَ في مشروع "الدولة العَلمانيّة الديمقراطيّة في فلسطين التاريخيّة." لقد كانت الجبهة في السابق أكثرَ المتحمّسين لهذا المشروع، كما تعلم يا حكيم، ثم بدا أنّها ارتأت "تأجيلَه" إلى ما بعد تحريرِ فلسطين، وكأنّ التحريرَ والديمقراطيّةَ والعَلمنة أمورٌ متناقضة، أو كأنّ التأمّلَ في ما يتخطّى "الأولويّاتِ الراهنةَ" باتجاه مشروعٍ ذي طابعٍ استراتيجيّ (ولو كان بعيدَ التحقيق فعلًا) لا يفيدُ في تجذير رؤيتنا الحاليّة إلى الصراع باتجاهٍ لاطائفيّ ديمقراطيّ ذي أفقٍ اشتراكيّ وحدويّ عربيّ. وما يزيد في حاجة الجبهة إلى إنعاش مشروع "الدولة الديمقراطيّة الواحدة" (وهي غيرُ الدولة الثنائيّة القوميّة طبعًا) هو أنّ الفلسطينيين "الآخرين" يطرحون مشروعَهم الخاصَّ بالدولة (دولتان، دولة إسلاميّة،...)، فيما الجبهةُ الشعبيّة غائبةٌ أو شبهُ غائبةٍ عن موضوع الدولة. في رأيي المتواضع، يا حكيم، أنّ إحياءَ هذا الموضوع قد يكون عاملَ استقطابٍ وتمايزٍ، وعاملَ تثقيفٍ وتعبئةٍ، من أجل إنتاج تيّارٍ ثالثٍ في الساحة الفلسطينيّة، هو تيّارُ الانتفاضة والعروبةِ والاشتراكيّةِ (غير الستالينيّة) والتحرّرِ الاجتماعيّ، وسط تيّاريْن طاغييْن:
1) تيّار "دولة" الاستسلام والفساد في الضفّة الغربيّة، وهي في الواقع ليست بدولة، بل محضُ "مَعازل" (بانتوستانات على النمط الجنوبأفريقيّ) بلا سيادةٍ ولا كرامةٍ ولا استقلال.
2) تيّار الإسلام السياسيّ. فباستثناء بيئاتٍ متفرّقةٍ، أبرزُها بيئةُ "حركة الجهاد الإسلاميّ" التي طَرحتْ وتَطرح نموذجًا متقدّمًا للإسلام الوطنيّ المقاوم، فإنّ الجسمَ الأساسَ لتيّار الإسلام السياسيّ، وإنْ أفلحَ ــــ ببطولةٍ لا تُنْكر ــــ في صوْنِ قطاع غزّة من الاختراق الصهيونيّ، قد أغرقَ القضيّةَ الفلسطينيّةَ في مسائل اجتماعيّةٍ "أخلاقويّةٍ" لا علاقة لها البتّةَ بهمّ التحرير، ومارس القمعَ السياسيَّ والأمنيَّ (والتربويَّ أحيانًا)، وورّط جزءًا من الفلسطينيين في صراعاتٍ وتحالفاتٍ إقليميّةٍ تُبعده عن ساحة الصراع الأساسيّة.
وفي هذا الإطار ألا ترى معي، يا حكيم، أنّ الجبهة الشعبيّة لم تؤدِّ الدورَ المتوقَّعَ منها، والمطلوبَ بشدّة، في مجال مقاطعة "إسرائيل" وعزلِها، مع أنّ المقاطعة الاقتصاديّة والسياسيّة والفنّيّة والثقافيّة والأكاديميّة لا تتعارض مع الكفاح المسلّح بل تكمّلُه؟
***
هل أتعبتُكَ بنقدي الرقيق والودّي لتنظيمكَ، الذي صرفتَ عقودًا في رعايته يا رفيق؟
ربّما. ولكنْ ألم تقل لنا ذاتَ يومٍ بعيدٍ إنّ "مُحاكمة منظّمةِ التحرير الفلسطينيّة وما وصلتْ إليه من مأزق، بقدْرِ ما يعني محاكمةً للبرجوزايّة الفلسطينيّة المهيمنة، فإنّها يجب أن تعني، من جانبٍ آخرَ ومن زاويةٍ مختلفة، مُحاكمةً لقوى اليسار الفلسطينيّ، وخاصّةً الجبهة الشعبيّة..."(1)؟
أمْ أنّك تتوق إلى سماع أخبارٍ جديدةٍ تفرح القلب؟
إذن اسمعْ يا حبيب! شعبُكَ في أمّ الحيران ينتفض. يومُ الأرض يتكرّر. السكاكينُ تتكاثر. العمليّات العسكريّة لم تتوقّف في القدس وتل ابيب وفي المستعمرات الصهيونيّة. الشعور الفلسطيني يتعاظم بأن لا سلام ممكنًا مع العدوّ، وأن لا تعامل ممكنًا معه إلّا بالسلاح والعزل. مقاطعةُ "إسرائيل" في العالم تتطوّر وتتجذّر باستمرار. بعضُ قادة العدوّ لا يجرُؤون على دخول دولٍ أوروبيّة بسبب خوفهم من القبض عليهم لمحاكمتهم بتهمِ ارتكابِ جرائمِ حرب. شركاتٌ كبرى تسحب استثماراتِها من الكيان الغاصب. مؤسّساتٌ كبرى أوقفتْ تعاملَها مع شركاتٍ تخدم الاحتلال. البارحة، أحدُ الرفاق في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان جال في شارعيْن في بيروت، فاتّضح له أنّ مصرفًا عربيًّا كبيرًا ومجمّعًا استهلاكيًّا ضخمًا ومؤسّسةً دوليّةً هائلةً قد توقّفتْ عن التعامل مع شركة G4S الداعمةِ للاحتلال، وهذا كلُّه بفضل ناشطاتِ الحملة وناشطيها. كما أنشأت الحملةُ المذكورة قبل شهور تطبيقًا هاتفيًّا ضدّ أبرز الشركاتِ الداعمة للاحتلال، وستعيد إطلاقَه في الشهر القادم بعد أن حجبتْه غوغل فترةً بسبب زعمها أنه يبثّ "خطابَ كراهية."
وأما الخبران الشخصيّان الجميلان اللذان أزفّهما إليك يا حكيم، فالأول أنّ الآداب، التي حرّضتَني على مواصلةِ إصدارها، قد استمرّت إلكترونيًّا، وتحظى بجمهورٍ يتخطّى الجمهورَ الورقيّ بخمسةَ عشرَ ضعفًا على الأقلّ. والخبر الثاني هو أنّ رفيقاتِك ورفاقَكَ في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان بدأوا قبل أيّامٍ تشكيلَ أنويةٍ لمقاطعة داعمي "إسرائيل" في كلّ مخيم، وقد عقدتُ اجتماعًا معهم قبل أسبوعين، و"السكّة ماشية."
لقد تركتَ في قلوبِ الآلافِ، يا حكيم، جمرةً من الإخلاصِ والأحلامِ المتّقدة. وجميعُهم يعملون كي لا تخبوَ هذه الجمرةُ... حتى تحريرِ الوطنِ والإنسان.
بيروت
1- استحقاقات الراهن والأفق القادم، منشورات الهدف 1992، ص 21 (نقلًا عن مقال الرفيق خالد بركات في الإصدار الجديد من الآداب الإلكترونيّة).