إصابات كوفيد 19 في لبنان: سؤالان مستجدّان
24-05-2020

 

هل الإصابات جرّاء كوفيد-19 كما يُعلن عنها رسميًّا في لبنان دقيقة؟

من المؤكّد أنّ عددَ الإصابات في لبنان يفوق ما أُعلِن عنه رسميًّا. وهذا لا يعني أنّ السلطات المعنيّة "أخفت" الأعدادَ الصحيحة، بل يعني أنّ الفحوص لم تكتملْ. فعادةً ما يقتصر الفحصُ على المشتبَهِ بإصابتهم بالفايروس - - أيْ على مَن لديهم أعراضُ الفايروس أو خالطوا مصابين به. وهنا علينا أن نتطرّقَ إلى الحديث عمّن يصابون بالتهابٍ "صامتٍ" جرّاء الفايروس ولكنْ لا يمكن الكشفُ عن إصابتهم بسبب غياب المسح العشوائيّ بفحوص PCR في كلّ المناطق اللبنانيّة، وخصوصًا في المناطق التي ازداد فيها الاحتكاكُ والاختلاط.

***

هل للبنانيّ مناعةٌ أكثرُ من غيره؟

لا أستطيع الجزمَ. هناك ملامحُ علميّةٌ تُسنِد هذه الفرضيّة. فمعدّلاتُ الأطفال والمراهقين مرتفعة في المجتمع اللبنانيّ، الأمرُ الذي يُكسبه مناعةً. إذ حين يَكثر الأطفالُ والمراهقون في المدارس والحضانات، فإنّهم يتناقلون الفايروسات على نحوٍ كثيف؛ ومن بين هذه الفايروسات: فايروس كورونا بأنواعه الأربعة التي تصيب الأطفالَ بشكلٍ كبير. ثم ينقل هؤلاء الأطفالُ، بدورهم، الفايروسات إلى أهلهم، وربّما إلى الجدّيْن أيضًا. ونتيجةً لذلك، يطوّر هؤلاء الأطفالُ مناعةً لا بأسَ بها ضدّ فايروسات الكورونا المختلفة. لكنّ هذه المناعةَ لا تدوم مدى العمر، كما هو الحالُ مع فايروس الحصبة مثلًا. بل إنّ الإصابات المتكرّرة بهذه الفيروسات تعيد تنشيطَ "الذاكرة المناعيّة" مع كلّ إصابة.

المعلوم أنّ لبنان يختلف عن كثيرٍ من المجتمعات الغربيّة، وعن الصين مثلًا، من حيث نسبةُ مخالطة الأحفاد لأجدادهم. ففي الولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وغيرها، يعيش عددٌ كبيرٌ من الأجداد وحدهم، أو في دُور العجزة أو الرعاية. لذلك فإنّ هذه المخالطة قد تلعب دورًا مهمًّا في تنشيط الذاكرة المناعيّة عند المسنّين في بلادنا، بينما يفتقر مسنّو الغرب وأقصى الشرق إلى هذه الميزة.

في الأسبوع المنصرم صدرتْ دراسة [1] في مجلّة Cell، وهي أهمّ مجلّة للعلوم الأساسيّة (Basic Science). هذه الدراسة لا تزال في حاجةٍ إلى تدقيقٍ ومتابعة، لكنّها مهمّة، ويمكن الاستنادُ إليها. وهي وَثّقتْ نتائجَ اختبارٍ أُجْريَ على عيّنةٍ من المتطوّعين بين العاميْن 2015 و2018، وظهر أنّ الناس يمكن أن يطوّروا مناعتَهم، بنسبة 40-60%، من خلال الخلايا المناعيّة (T Cells)، ضدّ فايروس SARS-CoV-2. وهذا يعني أنّه قد كانت لديهم، قبل ظهور الفايروس، مناعةٌ في مواجهة بروتيناتٍ مشتركةٍ بين فايروسات الكورونا المعروفة بـ "أمراض الرَّشْح" من جهة، وفايروس SARS-CoV-2 المسبِّبِ لـ COVID–19 من جهةٍ أخرى. وهو ما قد يفسِّر لنا لماذا تصاب نسبةٌ عاليةٌ من الناس بهذا الفايروس من دون أن تظهرَ عوارضُ ذلك عليهم. وبكلامٍ آخر، فإنّ مناعتَهم استطاعت التعاملَ مع هذا الفايروس والتخلّصَ منه وكأنّه فايروسٌ "مألوفٌ" لديهم.

***

الخلاصة: عددُ الأطفال في عائلاتنا اللبنانيّة، بشكلٍ عامّ، أكبرُ من نظيره في المجتمعات الغربيّة. والمخالَطةُ مع الأهل والأقارب، بوتيرةٍ مستمرّةٍ، جزءٌ من التقليد الاجتماعيّ اللبنانيّ (والعربيّ). هذا الأمر وذاك يؤدّيان إلى انتشار فايروسات الكورونا الأربعة القديمة انتشارًا واسعًا في كلّ العائلة اللبنانيّة. ولأنّ هذه المجموعة تحفِّز المناعةَ التي كشفتْ عنها دراسةُ مجلّة Cell، فثمّة احتمالٌ كبيرٌ جدًّا أن تَخلق مناعةً أيضًا ضدّ SARS-CoV-2.

أعود فأكرّر أنّ هذا الكلام كلّه نظريّ حتى الآن. غير أنّنا بدأنا نبني على أساسه معطياتٍ علميّةً صلبةً تفسِّر لنا نسبةَ الإصابات القويّة والوفَيات المنخفضة في لبنان مقارنةً بدولٍ أخرى.

بيروت

 

غسّان دبيبو

مدير مركز أبحاث الأمراض الجرثوميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وهو بروفيسور في قسم الكيمياء البيولوجيّة والعلوم الوراثيّة، ورئيس قسم الأمراض الجرثوميّة، وطبيب أطفال وناشئة، في المركز الطبّيّ التابع للجامعة المذكورة (AUBMC).