الأخلاق أوّلًا
01-05-2020

 

لم تكن تختلف كثيرًا عن الحشد الفنّيّ والأدبيّ المكتظّ بالمجاملات و"البريستيج." ولطالما صادقتْ أهلَ الأدب والكتابة، واستعملتْ سلاحَ أنوثتها كي تصلَ إلى مبتغاها، علّها تنجح في اصطياد تاج الشُّهرة فتضعه على رأسها وتتباهى به أمام صديقاتها.

وفي حفل توقيع روايتها، الأخلاق أوّلًا، كانت أشدَّ تألّقًا من أيّ يومٍ مضى. لم تكن الروايةُ لتخرج إلى النور لو لم يقع مديرُ دار النشر الشهيرة تحت سطوة ابتسامتها الساحرة، وهمس في أذنها أنَّه يحبّ "هذا النوعَ" من الجمال، قبل أن تكتشف سريعًا أنّه يحبّ أنواعَ الجمالِ كلَّها بلا استثناء.

اقترب منها غسّان، الكاتبُ والناقدُ المعروفُ بصراحته التي تكاد تلامس الفظاظة، إلى الحدّ الذي يجعل الكتّابَ غيرَ الواثقين بما يفعلون يفرّون من أمامه متجنّبين مواجهتَه في أيّ محفلٍ عامّ. وبابتسامةٍ رصينة، وكلماتٍ مقتضبة، أعلمها أنّه سيعطي رأيَه في الرواية بعد قراءتها إنْ شاءت، وتمنّى لها التوفيقَ. كان كلامُه الرصين ناشزًا بين عبارات الثناء والإطراء والتملّق التي تحيط بها من كلّ جانب، ولكنّه كان متوقَّعًا من رجلٍ مثله لا يعرف المجاملة.

علقتْ كلماتُ غسّان في ذهنها على حياديّتها؛ ربَّما لأنّ الأشياء غيرَ الاعتياديّة أكثرُ التصاقًا بقاعِ الذاكرة. هي تعرف غسّان عن بُعد، من خلال آراء الآخرين به، ولكنْ لم يحدث أن التقيا من قبل.

***

بعد أسبوع، أضاءت شاشةُ هاتفها كاشفةً عن رقمٍ غير محفوظ في ذاكرته الإلكترونيّة. ومن الكلمة الأولى التقطتْ نبرةَ غسان. وبدلًا من أن يحدّثَها عن روايتها كما توقّعتْ، فوجئتْ به يدعوها إلى حفل توقيع مجموعته القصصيَّة.

حضرتْ بكامل أناقتها. وبعد انفضاض الجمع، استطاعت أن تسرقَ حديثًا قصيرًا معه. سألتْه عن روايتها فأجاب: "أنا واثق أنّ في استطاعتكِ أن تكتبي أفضلَ منها بكثير."

لم ينفع تهذيبُه في التقليل من استيائها، لكنّها أخفت هذا الاستياءَ رأفةً بكبريائها. وقبل أن تودّعَه، نصحها بلطفٍ أن تقرأ قصّتَه القصيرةَ جدًّا في الصفحة 81، طالبًا رأيَها فيها.

***

في المساء، جلست حاملةً كتابَ غسّان، وفتحتْه على الصفحة 81، لتجدَ قصَّةً لا تتجاوز بضعةَ أسطرٍ بعنوان "خواطر لطيفة."

كانت القصّة تحكي عن شخصٍ يُنشئ حسابًا وهميًّا على الفايسبوك باسم "لطيفة،" تتصدَّره صورةُ فتاةٍ تبدو لطيفةً فعلًا، وينشر من خلاله خواطرَه التي يخشى نشرَها باسمه لأنّه لا يعلم مدى جودتها وصلاحيّتها للنشر، فيفاجئُه تفاعلُ الناس مع ما يكتبه، ويفاجئُه ما يكيلونه له من مدائح، فيشجِّعه ذلك على إنشاء حسابٍ آخرَ باسمه الحقيقيّ، ويضيف إليه الأصدقاءَ أنفسَهم، وينشر من خلاله الخواطرَ ذاتَها أو أخرياتٍ تشبهها، لكنّه يقابَل بالتجاهل التامّ! يشعر بالأسى والإحباط، قبل أن يتنبّهَ سريعًا إلى السبب الحقيقيّ، فيكتب منشورًا يحكي فيه قصَّتَه مع لطيفة، ويذيِّله بعبارة: "رحم الله أيّامَ لطيفة وخواطرَها، وكم من لطيفٍ ولطيفةٍ بيننا!"

كانت تقرأ وابتسامتُها تزداد اتساعًا. حتى إذا أنهت القصَّة والتقطتْ حكمتَها، هاتفتْه بحماسٍ وشيءٍ من التسرّع، وشكرتْه بحرارةٍ على ذوقه في إيصال الفكرة، فأجابها ضاحكًا: "الأخلاق أوّلًا!"

***

اليوم، في حفل زفافها من غسّان، تتذكّر كلماتِ مدير دار النشر وقد تناهت إلى مسمعه حكايتُهما:

"هذه هي آخرتُكِ أيّتها اللطيفة: غسّان!"

وتتذكّر أيضًا وقفتَها الواثقة، وهي تخاطبُه بقوّةٍ لم تعهدْها في نفسها من قبلُ:

"الأخلاق أوّلًا يا حضرة المُدير. الأخلاق أوّلًا!"

فريتاون

اماني أحمد

لبنانية تعيش في فري تاون - سيراليون.