الانتخابات الفلسطينية: موت الواقع السياسي
21-04-2021

 

بحسب لجنة الانتخابات المركزيّة، تنافستْ11 قائمةً في الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة سنة 2006. أمّا اليوم، فقد تقدّمتْ 36 قائمةً انتخابيّةً للتنافس في الانتخابات المقرَّرِ إجراؤها في أيّار (مايو) القادم: 8 منها تمثِّل فصائلَ منظّمة التحرير وحركةَ حماس، و28 قائمةً غير حزبيّة تمثِّل حَراكاتٍ اجتماعيّةً ونقابيّين ومستقلّين ونشطاءَ مجتمعٍ مدنيّ. وقد جاءت هذه المشاركةُ الجديدةُ الواسعة وسط تأييدٍ لافتٍ انعكس في تحليلات نخبةٍ واسعةٍ من المثقّفين والإعلاميّين والمؤسّسات الأهليّة والأكاديميّة والمراكز البحثيّة.

ترى الفصائلُ والقوى المشاركة في الانتخابات التشريعيّة المقبلة أنّ هذه الانتخابات وسيلةٌ لتحقيق أهدافٍ مختلفة. فهنالك مَن يرى فيها مدخلًا لإنهاء الانقسام وتحقيقِ الوحدة الوطنيّة وترتيبِ البيت الداخليّ وإخراجِه من أزمته. في حين يعتبرها آخرون وسيلةً مهمّةً لإحداث تغيير/إصلاح سياسيّ، وللمحافظة على حدٍّ أدنى من الثوابت الوطنيّة. وهناك مَن يتطلّع إليها كوسيلةٍ تُسهم في كسر هيمنة قطبَي الانقسام (فتح-حماس)، وإحداثِ تغييرٍ اقتصاديّ-اجتماعيّ، وتحسينِ الظروف المعيشيّة للناس، ومحاربةِ الفساد، وتوسيعِ مشاركة الشباب والنساء في "صنع القرار،" وإنجازِ "استحقاقٍ ديمقراطيّ" لا بدّ منه.

هذا التعاطي مع الانتخابات المقبلة، سواءٌ على صعيد المشاركة الواسعة فيها والتأييدِ الكبيرِ لها، أو على صعيد الأهداف المرجوّةِ منها، يدفعنا إلى تلمّس تحوّلٍ جوهريٍّ في مكانة السلطة الفلسطينيّة في الوعي والممارسة السياسيّة، وفي علاقة قوى المعارضة بها. وهذا التحوّل يتجاوز بكثيرٍ ما كانت عليه الحالُ في انتخابات العام 2006. فالمعارضون قد يختلفون مع السلطة، وعليها، وعلى سياق تشكّلها؛ إلّا أنّهم باتوا يتّفقون على أهمّيّة أن يكونوا جزءًا منها. وقد يختلفون في قراءتهم للواقع الراهن والموقف منه، ولكنّهم مُجْمِعون على ضرورة هذه السلطة للتعامل مع هذا الواقع. لقد أصبحت السلطةُ الفلسطينيّةُ مركزًا للفعل السياسيّ لجميع قوى المجتمع، بما فيها المعارضة، بعد أن كانت محلَّ جدلٍ وطنيّ في أحسن الأحوال.

هذا التحوّل له، بالضرورة، أثرُه وانعكاساتُه على مجمل الواقع السياسيّ والوطنيّ. فهذه الفصائل والقوى المعارضة ليست هامشيّةً في المجتمع والسياسة، بل مركزيّة وأساسيّة وتأسيسيّة. ومن ثمّ فإنّها، بإصرارها على القفز في قلب المنظومة القائمة والعملِ ضمن معطياتها ووفقًا لأدواتها، ترسِّخ فلسفةً خاصةً ومنهجًا عامًّا في العمل السياسيّ والوطنيّ. بمعنًى آخر، من التضليل اعتبارُ المشاركة في انتخابات تشريعيّة (ورئاسيّة) للسلطة الفلسطينيّة مجرّدَ تعاطٍ مؤقّتٍ واضطراريٍّ مع المرحلة الراهنة: فالمجرَّد هنا تأسيسيٌّ لقواعدَ في الفعل السياسيّ، وبلورةٌ لمرتكزاتٍ في الثقافة السياسيّة، بل تشكيلٌ للواقع برمّته، وذلك بغضّ النظر إنْ أجريت الانتخاباتُ التشريعيّةُ الشهرَ القادم أمْ لم تُجْرَ.

فكيف تحوّلتْ مكانةُ السلطة الفلسطينيّة حتى أصبحتْ مركزَ الفعل السياسيّ لدى مختلف قوى المجتمع؟ وما هو أثرُ هذا التحوّل في الواقع السياسيّ الراهن؟

 

نهجٌ كانت له شرعيّتُه

مثّلت الانتخاباتُ التشريعيّةُ الأولى في العام 1996 تدشينًا لمسار أوسلو، ومدخلًا تأسيسيًّا للسلطة الفلسطينيّة. وفي المقابل، اعتُبرت الانتخاباتُ الثانيةُ في العام 2006 فرصةً للخروج عن هذا المسار؛ فقد رأت قوى المعارضة آنذاك أنّ الانتفاضة الثانية سنة 2000 إعلانٌ ضمنيٌّ عن فشل مشروع أوسلو ووصولِه إلى نهايته، خصوصًا أنّ "إسرائيل" أعادت اجتياحَ مناطق السلطة الفلسطينيّة، ما دفع مختلفَ الفصائل الفلسطينيّة (بما فيها حركةُ فتح) وأعضاءَ الأجهزة الأمنيّة إلى مواجهتها بكفاحٍ مسلّح. وهذا الظرف، الذي أعقب الانتفاضةَ الثانية، شكّل لدى بعض القوى المعارضة اعتقادًا بأنّ الفرصة باتت سانحةً للدخول في مؤسّسة السلطة، ولقيادة نهجٍ بديل، من دون أن يشكّلَ ذلك اعترافًا منها بنهج هذه السلطة. وقد بدا أنّ الشارع دعم تلك القوى، وعلى رأسها حركةُ حماس، في توجّهها هذا بمنحها أغلبيّةً كبيرةً من مقاعد المجلس التشريعيّ. ومثّل ذلك تحوّلًا استراتيجيًّا لا يقلّ أهمّيّةً عن قرار الدخول في "عمليّة السلام" نفسها.

ولكنْ سرعان ما تبيّن أنّ هذا التوجّه الذي سلكتْه قوى المعارضة ليس سهلًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، وأنّ موتَ أوسلو لا يتحقّق بالبساطة التي اعتقدتْها. فقد ربط "المجتمعُ الدوليّ" تمويلَه للحكومة الجديدة التي شكّلتها حركةُ حماس، وتعاطيَه السياسيَّ معها، باعتراف هذه الحركة بـ"إسرائيل" و "نبذ العنف." بكلامٍ آخر: لقد أعلن هذا المجتمعُ الدوليّ أنّ هناك قواعدَ للعمل، وعلى كلّ مَن يصبح جزءًا من السلطة الفلسطينيّة التقيّدُ بها. وقد حرصتْ "إسرائيل،" بطريقتها الخاصّة، على التذكير بضرورة هذا التقيّد: فعطّلتْ عملَ المجلس التشريعيّ باعتقال عددٍ من أعضائه، وأعادت فرضَ حضورها المباشر في تفاصيل حياة الفلسطينيّين، وهو حضورٌ كان يتوارى خلف أسوار أوسلو حتّى ظن البعضُ أنّه اختفى. ولمّا رفضتْ حركةُ حماس تلك القواعدَ، فرض العدوُّ حصارًا على حكومتها وعلى عموم المجتمع.

كشف هذا التصادمُ بين حماس و"إسرائيل" أنّ الواقعَ الفلسطيني في ظلّ سنوات أوسلو (1993-...) أصبح أكثرَ هشاشةً من أيّ مرحلةٍ سابقة. فقد ظهر جليًّا أنّ أسسَ حياة المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وقطاعِ غزّة قد تغيّرتْ وأعيدَ بناؤها ضمن سياقٍ مختلف، سمح للمجتمع الدوليّ و"إسرائيل" بفرض حصارٍ سياسيّ-اقتصاديّ يهدِّد الناسَ ويبتزُّهم في حياتهم اليوميّة والمعيشيّة بسهولةٍ مطلقة (كقطْع الرواتب عن موظّفي السلطة). ومن جهةٍ أخرى، ظهر أنّ وجودَ هذه السلطة وتعريفَها و"فاعليّتَها" مرتبطةٌ عضويًّا بموقف "الطرف الآخر" منها وقبولِه لها. بمعنًى آخر، في حين سُوِّقت السلطةُ الفلسطينيّةُ على أنّها خطوةٌ في اتجاه بناء حياةٍ مستقلّةٍ عن الاحتلال، تبيّن أنّ وجودَها عمّق التبعيّة لهذا الاحتلال وأضاف إليها تبعيّةَ المموِّل والراعي الدوليّيْن. إنّها تغيّراتٌ بنيويّةٌ، وواقعٌ جديدٌ، يختبرها الفلسطينيُّ للمرّة الأولى. وربّما كان كشفُ تلك الهشاشةِ وهذه التبعيّة، بالتجربة والملموس، الحسنةَ الوحيدةَ من دخول المعارضة إلى حضن السلطة.

وجدتْ قوى المعارضة أنّ ما اعتقدتْه "فرصةً" قد تحوّل إلى أزمةٍ دخل فيها كلُّ فلسطينيٍّ في الضفّة والقطاع. ولهذا كان يُفترض بها أن تعيدَ قراءةَ الواقع وأن تقوِّم خطوتَها. وفي اعتقادنا المتواضع أنّه كان عليها أن تقرأ في تلك الأزمة مسألتيْن:

- أوّلًا: أنّ مشروع أوسلو ليس مجرّدَ اتفاقيّاتٍ سياسيّةٍ وترتيباتٍ ميدانيّةٍ وتحوّلاتٍ في طريقة التعاطي السياسيّ لتحقيق الأهداف الوطنيّة، وإنّما هو أيضًا نزعٌ لكامل المجتمع من سياقه التحرّريّ وأنماطِه الثقافيّة ووسائلِه النضاليّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وزرعُه ضمن سياقٍ مغاير. بكلامٍ آخر: مشروع أوسلو إعادةُ هندسةٍ مجتمعيّة ضخمة.

- ثانيًا: أنّ حالةَ الهشاشة والتبعيّة التي ظهر بها الواقعُ الفلسطينيُّ تُبرهن استحالةَ محاربة أوسلو بأدواته ذاتِها. لا مفرَّ من الخروج التامّ عن هذا المسار! وهذا الخروج يستدعي مواجهةً شاملةً على الصعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة، قبل السياسيّة والوطنيّة. وهذه مواجهةٌ لا يمكن أن يتصدّى لها فصيلٌ بعينه، وإنّما تحتاج إلى جبهةٍ وطنيّةٍ عريضة.

فكيف جرت المواجهة؟ والى أين انتهى ذلك النهج؟

 

سلطةٌ برأسيْن، ومفترق طرق

يمكن أن نستبقَ سياقَ التحليل هنا ونقول إنّ قوى المعارضة، وكلَّ مَن واصل مساندةَ سياساتها، قد ارتكبتْ كارثةً وطنيّةً بسبب الطريق الذي سلكتْه في مواجهة مأزق وجودها، أو ما نفضِّل تسميتَه "محاصرتَها داخل السلطة الفلسطينيّة." ولكنْ حتى نبيّنَ ذلك بوضوحٍ أكبر، فإنّ علينا العودةَ إلى سياق الانتخابات الرئاسيّة في العام 2005. فإذا كان معارضو أوسلو قد تطلّعوا إلى الانتخابات التشريعيّة في السنة التالية من أجل الخروج من الواقع السياسيّ والانقلابِ عليه آنذاك، فهنالك مَن قرأ الانتفاضةَ سنة 2000 بصورةٍ مغايرة، ورأى فيها فرصةً ليس فقط لتكريس مشروع أوسلو، بل للقفز به إلى الأمام أيضًا. فقد خرج الفلسطينيُّ من تلك الانتفاضة منهكًا من دون أن يلمسَ إنجازًا، خصوصًا بعد أن سادت الفوضى في مراحلها الأخيرة. وقد استثمر محمود عبّاس ذلك لصياغة شعاراته الانتخابيّة التي أوصلتْه إلى رئاسة السلطة. وبهذا، يمكن تلخيصُ المشهد السياسيّ في ذلك الوقت كالآتي:

هناك حركةٌ مركزيّةٌ كـ"حماس" ذهبتْ إلى المجلس التشريعيّ رافعةً شعارَ "الإصلاح والتغيير،" ومعها بقيّةُ قوى المعارضة. وقبلها بعامٍ كان قد وصل إلى رأس السلطة نهجٌ مضادٌّ يحمل شعارات: "وقف الانتفاضة" و"إنهاء عسكرة الانتفاضة" و"لا سلاحَ غير السلاح الشرعيّ" و"الانفتاح على فرص السلام." وهكذا أصبحت السلطةُ الفلسطينيّةُ برأسيْن ونهجيْن متعارضيْن.

المفارقة أنّ الشارعَ نفسَه قد اختار النهجيْن المتناقضيْن. ولكنْ من التبسيط فهمُ ذلك على أنّه تناقضٌ في الشارع، وإنّما هو تعبيرٌ عن خلخلةٍ حقيقيّةٍ في جذور المرحلة، أو أنّ تناقضاتِ الواقع ذاته قد اكتمل نضوجُها:

- فهنالك فعلًا خطٌّ سياسيّ وصل إلى طريقٍ مسدود، ونظامٌ زبائنيّ نما وانتشر بسرعةٍ حتى ضاقت به الناس.

- وفي الوقت ذاته، هناك انتفاضةٌ لم تُدَرْ بالكفاءة اللازمة، ولم يُفتح المجالُ للانخراط الشعبيّ فيها، وكان تدفيعُ الثمن فيها باهظًا، فوصلتْ هي الأخرى إلى طريقٍ مسدود.

ما فعله الشارعُ باختياراته تلك أنّه عبّر عن مجمل الحالة وانسداداتِها. وهذا ما وضعها على مفترق طرق. بمعنًى آخر، كان لأحداث تلك المرحلة أثرُها الحاسمُ في مستقبل القضيّة الوطنيّة برمّتها. فقد انتقل الصراعُ من ميدان الانتفاضة إلى قلب السلطةِ الفلسطينيّة نفسها. بيْد أنّه سرعان ما نجمتْ عن ذلك الصراع شهادةُ ميلادٍ جديدةٌ لأوسلو، ولكنْ هذه المرّة وفق أسسٍ اقتصاديّةٍ وأمنيّةٍ أكثر شموليّةً وجذريّة.

 

معارضة سلبيّة خارج السلطة، معارضة سلبيّة داخل السلطة

يقوم مشروعُ أوسلو على مكوّناتٍ ثلاثةٍ رئيسة: سياسيّة، واقتصاديّة، وأمنيّة. وقد تركّزت السنواتُ الأولى من هذا المشروع على المكوِّن السياسيّ بالدرجة الاولى، فكانت "المفاوضاتُ" عنوانَ تلك المرحلة. ولكنْ جاءت الانتفاضةُ الثانية لتشكّل انعطافةً جذريّةً كان يُمْكن أن تعيدَ الصراع إلى مربّعه الأوّل وفق معطياتٍ جديدة. لذلك كان لا بدّ لـ"معسكر أوسلو" من محاولة إحداثِ قطيعةٍ مع تلك المرحلة ووعيِها وظرفِها الاجتماعيّ، حتى لا يتكرّر الانقلابُ على أوسلو. ولهذا نُقل الاهتمامُ من المكوِّن السياسيّ لصالح تدشين مرحلةٍ جديدةٍ ارتكزتْ على التدجين الاقتصاديّ لعموم الفلسطينيّين في الضفّة والقطاع، وعلى بلورة عقيدةٍ أمنيّةٍ تَحُول دون ذلك الانقلاب. ويمْكننا اعتبارُ مؤتمر المانحين في باريس سنةَ 2008 الإعلانَ الرسميَّ عن تلك المرحلة.

كُتب الكثيرُ عن تلك السياسات الاقتصاديّة والأمنيّة التي نعيش تحت ثقل ظلالها اليوم، ولا نجد حاجةً إلى الخوض فيها هنا. ولكنّ ما نريد قولَه هو أنّ تلك السياسات نجحتْ في تحويل أوسلو، الذي كان يقف على مفترق طرق، من مشروعٍ سياسيّ إلى نمطٍ اقتصاديّ واجتماعيّ، وإلى ثقافةٍ وممارسةٍ يوميّة، بينما كانت المعارضةُ (من أحزابٍ ومستقلّين وقوًى أهليّة) تجلس في قلب السلطة وتمثّل أغلبيّةً في برلمانها. وهذا يعني أنّ المشكلة لم تكمن فقط في فشل تلك القوى في إحداث التغيير والإصلاح الذي وَعدتْ به وجعلتْه مبرِّرًا لمشاركتها في الانتخابات التشريعيّة، وإنّما تكمن أيضًا في فشلها في التصدّي لتحوّلاتٍ جذريّةٍ كانت تصيب عمقَ المجتمع.

والفشل المركّب هذا له أسبابُه. فعلى الرغم من الأزمة التي نشأتْ وبرهنتْ على استحالة إحداث تغييرٍ يُذكر من خلال أُطُر السلطة، فقد اختارت قوى المعارضة الطريقَ الأسهلَ، المتمثِّلَ في المعارضة السلبيّة، أي الرفض من دون البحث عن سبلٍ بديلة. وهو الطريق الذي اعتمدتْه أغلبُ تلك القوى، وعلى رأسها اليسار، منذ الانتخابات التشريعيّة الأولى، حين انطلق ياسر عرفات في بناء مؤسّسات السلطة الفلسطينيّة من جهة وفي مسار المفاوضات من جهةٍ أخرى. فقد بقي اليسارُ متمسّكًا برفضه من موقع المراقِب السلبيّ: فلم يحاولْ، مثلًا، الانخراطَ في الشارع وأطرِه الشعبيّةِ والنقابيّةِ والشبابيّة، واستنهاضَها، ولو للدفاع عن لقمة عيشها وحقوقِها الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي أخذتْ تُسلب منها بفعل السياسات النيوليبراليّة. وعندما حوصر هذا اليسارُ مع بقيّة القوى داخل السلطة، استمرّ في انتهاج السلبيّة ذاتها. بل إنّ جزءًا من هذا اليسار ساهم في تهيئة القبول الاجتماعيّ بأوسلو من خلال تبنّيه خطابَ المموِّل الدوليّ والمفاهيمَ النيوليبراليّةَ في عمله ضمن المؤسّسات الأهليّة. وإذا أردتم المزيدَ في هذا المجال، فهو قد ساهم أيضًا في تعزيز مركزانيّة المؤسّسات الأهليّة المموَّلة ونمطِ عملها على حساب الأطر القاعديّة وأنماطِ عملها ومفاهيمها. فكأنّ اليسار يرفض أوسلو سياسيًّا، في حين يساهم في تمهيد الطريق له اجتماعيًّا ومفاهيميًّا.

هذه ليست خطيئةَ اليسار وحده؛ فقد انخرط معه في ذلك الكثيرُ من المثقّفين والباحثين والمؤسّسات الأكاديميّة والنسويّة، فضلًا عن مناضلين وثوريّين سابقين من مشاربَ مختلفة. وكان من أخطر نتائج ذلك إقصاءُ الشارع من مركز النشاط السياسيّ ومن المشاركة في تقرير مصيره، وتحويلُه إلى متفرِّجٍ سلبيّ. ذلك لأنّه يَصْعب على هذا الشارع أن ينشطَ ويشاركَ في الفعل في ظلّ تحلّل الأطر القاعديّة واندثارِها، وفي ظلّ انفصال الحزب عنه وانشغاله في عملٍ سياسيّ نخبويّ.

أمّا حركة حماس، وعلى الرّغم من كلّ التطوّرات التي أعقبتْ حصارَ حكومتها، والتدهورِ الاقتصاديّ الاجتماعيّ الذي نجم عن ذلك الحصار، والانقسامِ الذي أعقبه، فإنّها لم تحاولْ مطلقًا بحثَ تكتيكاتٍ أخرى غير التمسّكِ بتلك السلطة مهما كان الثمن؛ وكأنّ السلطة لم تعد وسيلةً نحو استرداد الواقع المسلوب بقدْرِ ما أصبحتْ هدفًا في ذاته. وهذا التمسّكُ ساهم كثيرًا، في اعتقادنا، في وصول قطاع غزّة إلى المربّع الضيّق الذي يعيشه منذ سنوات، وساهم في وصول الضفّة الغربيّة إلى التيه الذي هي فيه الآن. كما أنّ حماس تشترك مع اليسار في أنّها لم تبذل الجهدَ اللازمَ لتحصين الشارع وحمايتِه من الغرق في ثقافة أوسلو، ولم تعملْ معه على محاربة ذلك المشروع. وبدلًا من ذلك انشغلتْ في "مناكفة" عرفات من خلال التأثير في مسار المفاوضات. هذه خطيئةٌ ارتكبتْها قوى المعارضة عمومًا منذ التسعينيّات حتى اليوم: أنّها تَركت الشارعَ الفلسطينيَّ مكشوفًا أمام تمدُّدِ أوسلو وتجذّرِه اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا من جهة، وأقصتْه عن مركز الفعل السياسيّ.

قد يقول البعض إنّ محاصرةَ حكومة حماس، والانقسامَ السياسيّ الفلسطينيّ، والحربَ التي شُنّت على القطاع سنة 2008، والحصارَ الذي فُرض على سكّانه؛ كلّ ذلك يجعل الأمورَ أكثرَ تعقيدًا من أن يكون الحلُّ بمجرّد التخلّي عن السلطة. وهذا قولٌ محقّ -- فالسياسة ليست لعبةً في الثنائيّات. وفي المقابل، فإنّ السياسة، في جزءٍ منها، هي طرحُ الأسئلة الصعبة. وسؤال "ما العمل؟" هو الذي غاب عن قوى المعارضة، وما زال غائبًا حتّى اليوم، ولا يبدو أنّ هنالك جرأةً لطرحه، أو ربّما لم تعد المسألةُ متعلّقةً بالجرأة بقدْرِ ما هي مرتبطةٌ بتحوّلاتٍ مسّتْ فصائلَ المعارضة ذاتَها.

هنالك إشكاليّتان جوهريّتان في الحركة النضاليّة الفلسطينيّة عمومًا. تتمثّل الأولى في ضعف العمل الوطنيّ على مستوًى جمعيّ. فرغم المأزق الوطنيّ الكبير الذي واجه المجتمعَ والقضيّةَ بعد الانتخابات التشريعيّة الثانية، ورغم مسلسل التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّ ذلك لم يكن كافيًا لدفع قوى المعارضة إلى العمل وفق رؤيةٍ موحّدة. أما الإشكاليّة الثانية فتتمثّل في غياب التراكم في العمل الوطنيّ؛ فلا أحد يقوِّم تجاربَه، ولا أحد يدرس تجاربَ الآخرين -- ما يجعل نضالَنا وكأنّه يدور في حلقةٍ مغلقةٍ تكرِّر ذاتَها.

بالمناسبة، لم تكن محاولةُ المزاوجة بين الوجود داخل السلطة والخروج عن قواعد أوسلو هي الأولى سنة 2006. فقد سبق أن حاول عرفات ذلك بذهابه إلى الانتفاضة، أو بالحثّ عليها، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000؛ وهذا ما شجّع "إسرائيلَ" وأطرافًا دوليّةً على وضع حدٍّ لمسيرته. كانت لدى عرفات فلسفةٌ تتلخّص في السير على خيطٍ رفيعٍ بين الثورة والدولة، وهي الفلسفة التي اعتمدتْها حركةُ حماس أيضًا منذ دخولها السلطةَ حتى اليوم. وهذا ما أوصل المجتمعَ والقضيّةَ معًا إلى حالةٍ هجينةٍ تجمع بين دولةٍ لم تتحقّقْ، وثورةٍ لم تُنجزْ مهمّتَها. بكلماتٍ أخرى: أوصلتْنا هذه الفلسفةُ إلى مجتمعٍ يَحمل "ثقافةَ دولة" في سياقٍ استعماريّ. صحيح أنّ حركة حماس استطاعت، حتى في ظلّ سيرها على ذلك الخيط الرفيع، تطويرَ قدراتها الكفاحيّة، وخصوصًا العسكريّة (وظهر ذلك جليًّا في أدائها خلال العدوان الذي شنّه الاحتلالُ على القطاع سنة 2014 مقارنةً بعدوان 2008). ولكنْ كان واضحًا أيضًا كمُّ الاعتبارات السياسيّة التي تكبِّل تلك القدرات؛ وهي اعتباراتٌ نابعةٌ من موقعها في السلطة، ومن التحالفات الإقليميّة التي يقتضيها هذا الموقعُ، ومن مسؤوليّاتها عن إدارة حياةٍ يوميّةٍ لحواليْ مليونيْ إنسان، أكثرَ ممّا هي نابعةٌ من فلسفة "البندقيّة المسيَّسة." قد يكون أكثرَ ما خسرتْه القضيّةُ الوطنيّةُ بوجود حركة حماس داخل السلطة هو تحوّلُ مقاومتها من استراتيجيا إلى تكتيك.

 

موتُ الواقع السياسيّ

ربّما نحن في حاجةٍ إلى الكثير من الكوميديا السوداء لاستيعاب منطق التعاطي مع الانتخابات الحاليّة. فما كان مرفوضًا بالأمس يجري تبنّيه الآن، والدفاعُ عنه، على نطاقٍ عامّ. فقد نجح ذلك السياقُ الطويلُ من الأحداث والتحوّلات، في النهاية، في بلورة واقعٍ جديدٍ يتجاوز جدليّةَ المعارضة/السلطة، حتى تكاد لا توجدُ اليومَ معارضةٌ في الجوهر... أو على الأقلّ لم تعد هناك معارضةٌ مركزيّةٌ للمنظومة، بقدْرِ ما هي معارضةٌ إصلاحيّةٌ في المنظومة.

لقد بات الاختلافُ الجذريّ مع ما هو قائم تيّارًا هامشيًّا، وهو غالبًا ما يأتي من خارج المؤسّسة - حزبيّةً كانت أو مدنيّةً. وهذا انزياحٌ جوهريٌّ في خريطة المواقف والمواقع الوطنيّة.

يمكن أن نقرأ هذا الانزياحَ الذي نتحدّث عنه في عمليّة تحضير القوائم الانتخابيّة -- بدءًا من طرح فكرة إنشاء قائمة موحَّدة بين حركتيْ فتح وحماس، إلى الجهود التي بُذلتْ لتشكيل قائمةٍ موحَّدة بين أحزاب اليسار، وانتهاءً بتشكيل كلٍّ من مروان البرغوثي وناصر القدوة قائمةً واحدةً منفصلةً عن قائمة فتح الرئيسة. فكما هو واضح، ليس هنالك من تمايزٍ في الرؤى أو المواقف يَمنع جمعَ هذه الأطراف والأسماء ضمن قوائم واحدة، بل قد لا يكون هنالك من تمايزٍ جوهريّ يمنع وجودَ كلّ تلك القوى في قائمةٍ واحدة! فهي قوائمُ وتحالفاتٌ تنطلق من بديهيّة الظرف القائم، الذي هو حدودُ وعيها وممارستها السياسيّة.

لم تعد القضيّةُ الوطنيّة ضمن هذا الواقع شرطًا أو محدِّدًا للفعل السياسيّ، بقدْرِ ما تحوّلتْ إلى مجموعةِ قضايا يمكن تأجيلُها إلى حين. فقد انفصلت السلطةُ الفلسطينيّةُ عن وظيفتها الوطنيّة المفترضة، باعتبارها "مرحلةً باتجاه الدولة،" منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000 وتوقُّفِ المفاوضات ومجملِ العمليّة السياسيّة منذ أكثر من عشر سنوات، إذ كان مؤتمرُ أنابوليس عام 2007 آخرَ مناسبةٍ دوليّةٍ للحديث عن "حلّ الدولتيْن." وخلال ذلك، أجهز الاحتلالُ عمليًّا على ذلك "الحلّ،" وأنجز سيطرتَه الفعليّةَ على الضفّة الغربيّة، وبات جاهزًا للإعلان عن ضمّها رسميًّا. ومع ذلك، فقد جاء مطلبُ "تجديد شرعية النظام السياسيّ" (والمقصود السلطة الفلسطينيّة) أولويّةً وحاجةً تَسْبق ضرورةَ "إعادة إحياء منظّمة التحرير" – وهو شعارٌ غالبًا ما يأتي على شكل "كليشيه" لسدّ عورةٍ في الخطاب. ولم يُجْهد أصحابُ هذا الشعار أنفسَهم في تفسير منطق تقديم السلطة على المنظّمة، وهو في اعتقادنا ليس تقديمًا عَرَضيًّا بقدْرِ ما هو تعبيرٌ عن تقدّم الفعل السياسيّ على الفعل الوطنيّ التحرريّ. والفعل السياسيّ، بدوره، لم يعد محرِّكُه تغييرَ الواقع وتجاوزَه، وإنما "تحسين" شرط الحياة فيه. وهذا ما يظهر جليًّا في وجود 28 قائمةً غير حزبيّة، لديها أولويّاتُها الاقتصاديّةُ الاجتماعيّة، وتسعى إلى تحسينها ضمن شروط المنظومة، بعيدًا عن السياق الاستعماريّ نفسِه، وكأنّ ذلك السياق قد اختفى خلف خطاب "الدولة"!

تُمْكن تسميةُ المرحلة الراهنة بـ"مرحلة ما بعد أوسلو." في هذه المرحلة باتت المنظومةُ المهيمنة على الحياة السياسيّة الفلسطينيّة، بيمينها ويسارها، تنظر إلى نتائج ذلك المشروع في وصفها بديهيّاتٍ عليها التعاملُ معها ضمن "فنّ الممكن." وقد ذهبتْ تدريجيًّا إلى مواءمة أنماط فعلها السياسيّ مع تلك "البديهيّات" ومع معطيات الواقع الجديد برمّته. وإلّا فكيف أصبح النضالُ من أجل القدس يتمثّل في استجداء الاحتلال لإشراك سكّانها في الانتخابات؟ وماذا يمكن أن يفعلَ المرشَّحُ من أجل القدس بعد وصوله إلى المجلس التشريعيّ؟ وماذا عن أنماط الفعل والنضال من خارج هذا المجلس والأطر الرسميّة؟ كيف يُمْكن انتخاباتٍ لا تجري من دون موافقة الاحتلال وإرادته أن تكون "انتصارًا وطنيًّا"؟ ولماذا القفزُ عن احتمال أن يَرفض "المجتمعُ الدوليُّ" نتائجَ تلك الانتخابات إنْ لم تأتِ كما يرغب؟ ألسنا أمام تحوّلٍ شبهِ تامٍّ من الفعل النضاليّ بشموليّته إلى الفعل السياسيّ النخبويّ المفصول عن الشارع والمحصور في نطاق المرحلة وممكناتها الضيّقة؟ لم يكن في مقدور هذه السورياليّة أن تسودَ من دون وجود خطابٍ مهيمنٍ نجح في "عقلنتها."

لقد دخلت الحالةُ السياسيّةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّة منعطفًا حادًّا في الانتخابات التشريعيّة الثانية سنة 2006. ويبدو أنّها تدخل الانتخابات الثالثةَ هذا العام بإعلانها موتَ النقد والفعل الجذريّ، أو أنّ تلك الجذريّة قد باتت خارج المنظومة الحزبيّة الأهليّة ومحصورةً ضمن هوامشَ نضاليّةٍ تقوى وتخبو من فترةٍ إلى أخرى وفقًا للظرف. لقد بات الواقعُ محكومًا بالتماثل... إلى حين انتصار الفكر الجذريّ على هامشيّته أو تهميشه.

رام الله (فلسطين المحتلّة)

معز كراجة

صحافيّ وأكاديميّ فلسطينيّ.

كلمات مفتاحية