الفعل النضالي الفلسطيني: بين وهم "الدولة" واستعادة الذات
25-04-2018

 

الفارق بين التشاؤم والتفاؤل لا يعتمد على الواقع في ذاته، بقدْرِ ما يعتمد على كيفيّة قراءتنا لهذا الواقع.

وهذا ما ينطبق على الحالة الفلسطينيّة اليوم، وبخاصّةٍ حَراك الشارع. فقد انخرط الفلسطينيون في السنوات القليلة الماضية في جدلٍ (لا نهايةَ له حتى الآن) حول ماهيّة الفعل النضاليّ وأدواتِه وحدودِه وجدواه. وكلّما توسّع هذا الفعلُ أو تعمّق، زاد الجدلُ صخبًا واضطرامًا.

بيْد أنّ هذاالجدل لم يَرْقَ بعدُ إلى ما يكتنف الواقعَ من تحوّلات، ولا ينسجم في جزءٍ كبيرٍ منه مع السياق الاستعماريّ ــــ التحرريّ. وقد أسهمتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّ في تمييع هذا الجدل، وحرفِه عن مقاصده، وتجريدِه من موضوعيّته. تضاف إلى ذلك عواملُ تفرضها تعقيداتُ الراهن، وبيئةُ الفعل، وغيابُ الحزب الفاعل، وغيابُ الحوامل المؤسّساتيّة القاعديّة (بحسب تعبير جرامشي) القادرة على قيادة المرحلة وتوجيهِها.

ولكنْ يبقى العاملُ الأهمّ وراء هذا الصخب ــــ الجدل، على المستوييْن الشعبيّ و"النخبويّ،" هو ما سنسمّيه هنا "ثقافة (وهْمِ) الدولة" التي تأسّستْ على أنقاض الثورة.

فالحال أنّ ثمّة فعلًا نضاليًّا شعبيًّا يتبلور منذ خمس سنوات على الأقلّ، وهو يسير عكسَ الواقع القائم، وبغيرِ أدواته، فيدفعه نحو تحوّلاتٍ بطيئةٍ، لكنّها جوهريّة، وتتّجه نحو الشمول. وعنوانُ هذه التحوّلات هو محاولةُ الشارع الفلسطينيّ استردادَ زمام المبادرة، بعد أن سُلبتْ منه قبل أكثر من عشرين عامًا، وتحديدًا بعد أن أُسكت صوتُ الانتفاضة الأولى (بدأتْ نهايةَ العام 1987 ـــ الآدابوانتقلنا من مرحلة "شعبيّة الفعل النضاليّ" إلى مرحلة "نخبويّة الفعل السياسيّ." وقد رافق هذا الانتقالَ تفكيكٌ ممنهجٌ لبُنى المقاومة الشعبيّة، من لجانٍ واتحاداتٍ ونقاباتٍ وقوًى وطنيّةٍ وثقافةٍ نضاليّة.

وحتى عندما ظهرتْ أنماطُ نضالٍ جديدةٌ في سياق تلك المرحلة الجديدة، كنمط العمليّات العسكريّة الذي استأنفتْه حركةُ حماس بشكلٍ خاصّ في مطلع التسعينيّات، فإنّها ــــ على أهميّتها ــــ أنماطٌ "غير شعبيّة،" بمعنى أنّها لا تَسمح بانخراط مختلف فئات المجتمع فيها. وبذلك اتّخذ الشارعُ دورَ المتفرِّج والمراقِبِ لـ"النخبة" ولفعلها السياسيّ التفاوضيّ حينًا، ودورَ المترقّب للعمل العسكريّ حينًا آخر... باستثناء هبّاتٍ شعبيّةٍ محدودةٍ من وقتٍ إلى آخر.

***

على أنّ العوامل والظروف الموضوعيّة التي دفعت الشارعَ إلى اتّخاذ دور المتفرّج أو المراقب دأتْ تفقد حضورَها وتأثيرَها في السنوات العشر الأخيرة. وهذا الفقدان هو الذي نعتقد أنّه المفسِّرُ الرئيس لتنامي النضال الشعبيّ بأوجهه ووسائله المختلفة.

هنا، كان على الفعل السياسيّ "النخبويّ" (أي الرسميّ التفاوضيّ)، لكي يبدو منسجمًا مع نفسه وأدواته، وليتّكئ على "شرعيّةٍ" ما، أن يؤسِّس لنفسه سياقًا يلائمه؛ إذ لا يمْكن "دولةً" أن تنمو في سياقِ ثورةٍ أو أن تُبنى بأدواتها. فللدولة قانونٌ، ومؤسّسات، وانتخابات، وعلاقاتٌ دبلوماسيّة، وشرعيّةٌ دوليّة. ولكنْ، أنّى ذهبتْ هذه "الدولةُ" اصطدمتْ بحقيقة السياق الاستعماريّ ــــ التحرريّ. فالدولة هنا لم تأتِ تتويجًا للثورة، وإنّما على حسابها وبديلًا منها. وهذا ما خلق واقعًا مركّبًا متناقضًا:

فإذا كان الفعلُ النضاليّ تعبيرًا عن السياق الاستعماريّ ــــ التحرّريّ، فإنّ الجدلَ الجاري منذ نشوء السلطة هو، في جزءٍ كبيرٍ منه، تعبيرٌ عن "ثقافة الدولة" أو "وهم الدولة." بمعنًى آخر، تتمّ مناقشةُ الفعل النضاليّ، بل محاكمتُه أيضًا، من خارج سياقه، وبغير منطقِه وأدواتِه.

لطالما تحدّث مهدي عامل عن علاقة الفكر والثقافة بالواقع والتجربة، وعن تأثير تلك العلاقة في النضال والثورة: فكلّما انسجمت الثقافةُ مع التجربة، واقتربتْ من الواقع، وشكّلتْه، وتشكّلتْ به... كانت أصدقَ، وأقدرَ على الفعل، وحمت نفسَها من خطر التجرّد؛ وفي المقابل، فإنّ هذه الثقافة تفقد دورَها في التغيير إذا انفصم الفكرُ عن الواقع.

وهذا الانفصام تحقّق فعلًا في الحالة الفلسطينيّة الراهنة. ومن تجسيداته ذلك النقاشُ الذي دار مؤخّرًا حول "مسيرة العودة" في قطاع غزّة، وتحديدًا حول "جمعة الكاوشوك." وهو يأتي امتدادًا للنقاش الذي دار حول "انتفاضة السكاكين" نهايةَ العاميْن 2015 ــــ 2016، وغيرهما من الأفعال النضاليّة التي تشقّ طريقَها وسط هذه الثقافة. ففي هذا النقاش يَظهر المنطقُ القانونيّ ـــ الحقوقيّ ـــ المدنيّ ـــ الإنسانيّ في محاكمة فعلٍ نضاليّ، له منطقُه المختلف وسياقُه المناقض.

هذا لا يعني أنّ هذاالمنطق هو المشكلة في حدّ ذاته، أو مرفوضٌ لذاته، بقدْرِ ما يعني أنّه غيرُ متّسقٍ مع السياق الاستعماريّ القائم. كما لا يعني أنّ ممارسةَ الفعل النضاليّ ينبغي ألّا تَخضع لمنطق العقلانيّة وللجدوى منه، وإنما يعني أنّ الاختلاف على مبدأ الفعل وضرورته هو الذي لا يُعقل.

فحينما بدأتْ "ثقافةُ (وهْم) الدولة" بالتبلور بأدوات النظام السياسيّ الوليد بعد أوسلو، وبأدوات مؤسّسات "المجتمع المدنيّ" وخطابِها المموَّلِ غربيًّا، كان الاعتقاد أنّ الدولة ستتبلور بشكلها النهائيّ على أنقاض "السياق الاستعماريّ." غير أنّ ذلك لم يحدث أبدًا، بل وُلد الجديدُ من دون أن يغيبَ القديم، ووقع التداخلُ بين السياقات المتناقضة. بل من المهمّ هنا التشديدُ على أنّ الجديد وُلد بمؤسّساته وأدواته في ظلّ تفكّك مؤسّسات القديم وأدواته، فحقّق الأولُ هيمنتَه على الثاني، خطابًا وممارسةً، وبات على الفعل النضاليّ أن يُثْبت شرعيّتَه بمدى اتساقه مع "القانون الدوليّ،" لا بمدى تعبيره عن "الحقّ الوطنيّ." ولم يعد الموقفُ من القانون الدولي نقديًّا (بحيث تُحصى إيجابيّاتُه كما سلبيّاتُه) بقدرِ ما أصبح تابعًا له تبعيّةً مطلقة.

هذه التبعيّة هي التي أنجبتْ أيضًا خطابَ "الجدارة بالحياة" الذي يتبنّاه "مثقفُ (وهْم) الدولة" بشكلٍ خاصّ. وهذه الجدارة ليس مصدرُها مدى قدرة المستعمَر على تحقيق الانعتاق من الاستعمار، وإنّما مدى تحقيق هذا المستعمَر لـ"الشرط الحضاريّ" للمستعمِر، بحيث تصبح قيمةُ "الديمقراطيّة" لشعبٍ يعيش تحت هيمنة المستعمِر أعلى من قيمة التحرّر، بل تصبح الثانيةُ نقيضةً للأولى!

وتدليلًا على ذلك نسأل: أمازلنا نذكر كيف طلب "المجتمعُ الدولي" من حركة حماس، حين وصلتْ إلى هرم السلطة في العام 2006 بانتخاباتٍ ديمقراطيّة، أن تتخلّى عن "العنف والإرهاب" (أيْ عن فعلها النضاليّ الذي ينتمي إلى "السياق القديم") كي تكون مقبولةً لديه وتحصل على "الشرعيّة"؟

أما زلنا نذكر كيف تعرّضتْ هذه الحركةُ للحصار والمقاطعة حين رفضتْ قبولَ "الشرط الحضاريّ" للمستعمِر؟

هكذا إذن: كان يُراد من المستعمَر أن يتّخذ من الديمقراطيّة قيمةً نسبيّةً في تعامله مع المستعمِر، وأن يحوّلَها إلى قيمةٍ في حدّ ذاتها... وإنْ تناقضتْ مع قيمة التحرّر!

وإذا أردنا مثالًا أوضحَ للتدليل على ما نقول، فتأمّلوا مشروعَ "بناء مؤسّسات الدولة" الذي نادى به رئيسُ الوزراء السابق سلام فيّاض في السنوات 2008 ــــ 2011. فهذا المشروع يقوم على ضرورة بناء مؤسّسات حديثة ديمقراطيّة، أساسُها "الحكمُ الرشيد،" لكنْ تحت حراب الاحتلال، وذلك لكي نُثْبتَ للمستعمِر مدى "جدارتنا" بدولةٍ، ومدى قدرتنا على إدارة أنفسنا بأنفسنا! هنا لم يعد وجودُ الاستعمار نقيضًا لوجودنا، وإنما بات معيارًا لجدارتنا بهذا الوجود، وأصبح النضالُ من أجل الانعتاق والتحرر هو النقيض.

المثير هنا أنّ هذا المشروع لم يكن نخبويًّا مجرّدًا، بل حقّق حالةً من الجدل والانقسام على المستوى الشعبيّ ومستوى "مثقف (وهْم) الدولة." فـ "ثقافة (وهم) الدولة" سمحتْ بتمدّد هذا المثقّف، وأعطته "الشرعيّةَ" الكافية. ولذلك بقيتْ هذه الثقافة قائمةً حتى عندما رحل فيّاض وفشل مشروعُه، واستمرّ الجدلُ حول مظاهر أخرى شبيهة، من دون الحاجة إلى البحث عن بديلٍ لهذه الثقافة. لقد أصبحت المؤسّساتُ التي أنشأها المستعمِر، كالأمم المتحدة ومحكمة لاهاي، حلبةً بديلةً لتحصيل الحقّ، بل عقيدةً "نضاليّةً" في حدّ ذاتها. لم يعد المهمّ جدوى هذه الحلبة، أو حدودُ الاعتماد عليها، بقدرِ ما يجب التمسّكُ بها وحدها (أو إلى جانب التفاوض "الذكيّ") كي تستوفي "الشرطَ الحضاريّ" الذي يطلبه المستعمِر، فيبقى للمستعمَر في هذه المنظومة الاستعماريّة مَن يؤيِّد حقَّه في "دولة."

وعليه، تكون هذه "الدولة" أيضًا، وبغضّ النظر عن "تفاصيلها" (حدودها، سيادتها، حقوق مواطنيها،...)، أهمَّ من الوطن. الدولة هنا قيمة في حدّ ذاتها.

***

على أنّ وهْمَ هذه الثقافة، والسعيَ نحو تحقيق "الشرط الحضاريّ" للمستعِمر، لا يقتصران على حدود "دولة أوسلو،" وإنّما نجده متجسِّدًا أيضًا داخل فلسطين المحتلّة عام 48، وتحديدًا لدى مَن يتّخذ من الكنيست الإسرائيليّ "حلبةً نضاليّةً" له. فهو يرى أنّه يقارع منظومةً استعماريّةً من داخلها وبأدواتها، متّكئًا بنضاله هذا على خطابٍ أساسُه "العقلانيّة" (في مواجهة الغوغائيّة والطوباويّة) و"خصوصيّةُ" وضع فلسطينيّي 48 الخاضعين للاستعمار الإسرائيليّ المباشر واليوميّ. غير أنّ الفعل النضاليّ نفسه اليوم ينمو ويتبلور في فلسطين 48 من دون القبول بوهم "التعايش" مع الدولة الإسرائيليّة، ومن دون الرهان على "ديمقراطيّة" المحتلّ. إنّ الفعل النضاليّ ضمن فلسطين 48 هو فعلٌ يتّجه ضدّ المنظومة الاستعماريّة بأكملها، لا من أجل تحسين المواقع فيها. وهو يتمثّل، بشكلٍ خاصّ، في تنامي رفض "الخدمة العسكريّة" الإسرائيليّة، وفي مسيرات العودة، وفي "برافر لن يمرّ،" بل في الاشتباك المباشر مع الاحتلال أيضًا.

***

هذه الجدليّة، جدليّةُ الفعل النضاليّ ووهم "الدولة،" تتجسّد أيضًا عربيًّا في تنامي حركات المقاطعة ومجابهة التطبيع. فهذه الحركات لم تلتزمْ سقفَ "الدولة" وأوهامَها ورهاناتِها، ولا سياقَ السياسات التقليديّة العربيّة (سلطاتٍ وأحزابًا) داخل الوطن العربيّ، بل اختطّت لنفسها سبيلًا مختلفًا أساسُه رفضُ الاستكانة إلى "الواقع" الاستعماريّ.

أما على الصعيد الدوليّ، فقد نجحت حركة المقاطعة العالمية (BDS) بأن تختطّ لنفسها، هي الأخرى، مسارًا مختلفًا عن مسار السياسات التقليديّة، لصالح التعامل مع الحركات الأقرب إلى نبض الناس وتفاعلات المجتمع ــــ من طلابٍ وكنائسَ ونقاباتٍ عمّاليّة وفعاليّاتٍ جامعيّةٍ وفنيّةٍ وثقافيّة.

***

ليست الثقافة محايدةً. ليست مجرّدَ منظومةٍ من القيم والمُثل والمعايير الطوباويّة، وإنّما هي تعبيرٌ عن مصالح وهيمنة. وهذا ينطبق على "ثقافة (وهْم) الدولة" أيضًا: فهي الأُخرى تعبيرٌ عن مصالح وهيمنة، أكثرَ منها تعبيرًا عن منظومةِ قيم. ومحاكمتُها للفعل النضاليّ لا يعبِّر عن موقفٍ أخلاقيّ أو عقلانيّ منه، بقدْرِ ما هو دفاعٌ عن سياقٍ جديدٍ نقيض، فيه تتحقّق المصلحةُ والهيمنة. والمصلحة، هنا، لم تعد تقتصر على التصنيف الطبقيّ الكلاسيكيّ، وإنّما وصلتْ إلى حدّ خطر فقدان لقمة العيش. بمعنًى آخر، ليست وراء كلّ مصلحةٍ هيمنةٌ بالضرورة.

يقول باولو فريري إنّ الناس يخافون الحريّةَ ولكنّهم قلّما يعبّرون عن ذلك صراحةً، فيغلّفون خوفَهم ذاك في إطارٍ من "العقلانيّة." والسبب هو عدمُ رغبتهم في أن تؤثّر هذه الحريّة في "وضعهم الاجتماعيّ،"(1)أيْ في مواقعهم الطبقيّة. وإذا كان مهدي عامل يعتبر الثقافةَ المنسجمةَ مع الواقع "إنتاجًا للعالم في حقلٍ أو حلمٍ أو مصنع،" فإنّ الثقافة المنفصمة عن الواقع "تؤبِّد الواقعَ" وترفض "ولادة الجديد".

وعليه، فإنّه لا يكفي التدقيقُ في الفعل النضاليّ وفي عقلنته، بقدر ما يجب النظرُ أيضًا في مصلحة كلٍّ من الفاعل والمعقلِن لفعله، وفي السياق الذي ينطلقان منه.

***

غير أنّه لا يمكن حصرُ الأنماط الثقافيّة الموجودة في السياق الفلسطينيّ الراهن بنمطٍ مهيمنٍ سائد، وآخر مضادّ ــ ــ أيْ بنمط "وهم الدولة،" ونقيضِه نمط التحرّر. فبسبب تداخل الاثنيْن، نشأتْ أنماطٌ كثيرة داخل كلّ سياق. وهذا ما أشاع حالةً من "اللايقين" تجاه الأسئلة الوطنيّة المطروحة.

ما يعمِّق حالةَ "اللايقين" هذه غيابُ برنامجٍ وطنيّ واحد، ومرجعيّةٍ مؤسّساتيّةٍ واحدة. وهذا يجعل الاجتهادَ الفرديّ سيّدَ الموقف، فينشأ من ثمّ جدلٌ عبثيٌّ حول أصغر سؤالٍ وأكبره. ومثلما اختلفنا حول ماهيّة الفعل النضاليّ وأدواته وجدواه، بتنا نختلف حول ماهيّة التطبيع وحدودِه.

وهناك، كمثلٍ آخر، مَن يقرأ الحاضرَ الفلسطينيّ بعيون الماضي، ولذلك يريد استنساخَ الانتفاضة الأولى بكلّ أدواتها وتفاصيلها، ولا يعوِّل على جدوى أيّ فعلٍ لا يشبه تلك المرحلة اليوم. وهو من هذا المنطلق يصف كلَّ ظاهرةٍ نضاليّةٍ جديدة كأنّها استكمالٌ للانتفاضة الأولى (ديسمبر 1987) أو تنويعٌ عليها. ولذلك يتساءل، مع كلّ فعلٍ نضاليّ يَظهر، إذا بتنا اليوم أمام "انتفاضة ثالثة" أو"انتفاضة سكاكين." وفي المقابل، هنالك من هو "عالقٌ" عند الانتفاضة الثانية (سبتمبر 2000) ويخاف تكرارَ الفوضى التي اعترتْها، ولهذا فهو يتوجّس شرًّا من كلّ فعل نضاليّ جديد ويمارس "العقلانيّة" الصارمة إلى حدّ رفض كلّ أشكاله.

وفي الحالتين يبدو وكأنّنا نرى الحاضر طبعةً ثانيةً للماضي، كما يقول ريجيس دوبريه، صاحب كتاب ثورة في الثورة.


 

***

مهما جهد المستعمَر، فلن يستطيعَ تحقيقَ "الشرطُ الحضاريّ" الذي يتطلّبه المستعمِر منه. والسبب هو وجودُ نظرة ثابتة من الثاني إلى الأوّل، تحدِّد جوهرَ العلاقة بينهما.

يشرح مصطفى حجازي هذه النظرة،(2) فيقول إنّها تشير إلى أنّ المستعمِر لا يَعتبر المستعمَرَ إنسانًا فعليًّا، وإنّما "شيئًا،" ومن هنا تأتي القسوةُ في تعامله معه. وبدلًا من علاقة "أنا ــــ أنت" التي تتضمّن الاعترافَ المتبادلَ بإنسانيّة الآخر وحقّه في الوجود، تقوم علاقةُ " أنا ــــ ذاك."(3)

هذه النظرة يسمّيها حجازي "العمى الإدراكيّ،" لأنّ المستعمِر لا يرى في الشعب المقهور سوى العجز والضعف. غير أنّ "الإنسان المقهور" نفسه، بحسب حجازي، يَستبطن هذه النظرة في مرحلةِ  "ما قبل التمرّد،" فلا يرى نفسَه إلّا عاجزًا.(4) وتُستثنى من ذلك محاولاتٌ فرديّةٌ هنا وهناك، وهي ذاتها المحاولات التي تثير الجدلَ الفلسطينيّ ــــ الفلسطينيّ الذي نتحدّث عنه.

ربّما نجد ملامحَ استبطان الضعف والعجز هذا في الحالة الفلسطينيّة ما بعد الانتفاضة الأولى وبدايات "مرحلة (وهْم) الدولة." فقد طرأتْ، على سبيل المثال، تحوّلاتٌ سلبيّةٌ على صورة الشهيد في الوعي الشعبيّ، إذ لم يعد جزءٌ من هذا الوعي يرى جدوى أو بطولةً في فعل الشهيد. لذا انتشرتْ في ذلك الوقت مقولة "خسارة عليه،" وكأنّه ضحّى بنفسه من أجل لاشيء. واليوم، نرى في الجدالات القائمة أنّ صورةَ الشهيد كإنسانٍ "عاديّ،" ذي أحلامٍ وطموحاتٍ فرديّة، تسبق صورتَه كبطل. وبات كثيرون منّا يبحثون عن أسباب اجتماعيّة وظروف اقتصاديّة، بل نفسيّة، خلف فعله وشهادته، قبل أن ينظرواإلى دوافعه التحرّريّ... هذا إذا رأوْها أصلًا!

ومن العوامل التي تفسّر تحوّلَ هذا الوعي انتهاءُ الانتفاضة الأولى إلى ما هو أقلُّ بكثيرٍ من حقوق الفلسطينيّ وطموحاته ونضالاته في تلك المرحلة. لذلك، لا يمكن اعتبارُ "تحييد" الشارع في هذه الحالة، وانتزاع الفعل النضاليّ منه على الرغم من بقاء الاستعمار، مجرّدَ "تحوّلٍ عفويّ في أدوات النضال." فما جرى هو إعادةُ هندسةٍ لوعي الناس، وتكريسٌ لهزيمتهم المعنويّة، وإغراقٌ لهم في الاتكاليّة. وإذا كانت هذه الاتكاليّة قد تجسّدتْ في بدايتها بـ"ترقّب" نتائج المفاوضات مع العدوّ أو حصول عمليّات عسكريّة ضدّه، فقد باتت تتجسّد منذ أكثر من عشر سنوات في ترقّب إنهاء الانقسام بين حركتيْ فتح وحماس، من دون أن يرى الشارعُ في نفسه القدرةَ على فرض نفسِه وقرارِه عليهما. كما تتجسّد هذه الاتّكالية اليوم في انغماسِ أقسامٍ من الشارع الفلسطينيّ في حال من "العقلانيّة" لتبرير التقاعس عن الفعل.

***

غير أنّه لا بدّ من الفعل ،أوّلًا، وقبل كلّ شيء، من أجل استعادة الثقة بالنفس وبالجماهير، وللتخلّص من سلبيّة الترقّب وانتظارِ المخلِّص، وللتخلّص أيضًا من الوهم والخوف، ومن استبطاننا للضعف والعجز. ولا بدّ من هذا الفعل، ثانيًا، من أجل إعادة بناء الهويّة الوطنيّة وحمايتها من خطر التشظّي.

بهذا المعنى ينبغي عدمُ اعتبار الحَراك الشعبيّ (مثار الجدل اليوم) نضالًا ضدّ الاحتلال فحسب، وانما استردادًا للذات وللثقة بالنفس أيضًا.

يقول فرانتز فانون إنّ النضال بالنسبة إلى الإنسان المقهور تطهيرٌ للذات. ومن هنا فإنّه لا بدّ من أن ينتقل الجدلُ الفلسطينيُّ، القائمُ اليوم حول كثير من القضايا الوطنيّة والأفعال النضاليّة، إلى مرحلة النقاش وإدراك السياقات التي يجري فيها. وهذا الانتقال لا يتمّ بعمليّة ذهنيّة ميكانيكيّة، وإنّما بالتفاعل مع الواقع والأنماط الثقافيّة السائدة، وبمزاوجة التجربة والنظريّة.

رام الله

(1) تعليم المقهورين (بيروت: دار القلم، الطبعة الأولى 1980)، ص 11 ــــ 12.

(2) التخلّف الاجتماعيّ: مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور (بيروت: دار الطليعة).

(3) المصدر السابق، ص 39.

(4) المصدر السابق، ص 42.

معز كراجة

صحافيّ وأكاديميّ فلسطينيّ.