الخطاب والممارسة والحاضر الأبدي
28-11-2020

 

بقدْرِ ما يساهم الخطابُ في بناء المعاني والتصوّرات حول الواقع ويوجِّه سبُلَ الانخراط فيه، فقد يشكّل أيضًا عائقًا بيننا وبين إدراكِه وفهمِ تحوّلاته، وقد يساهم في تشكيل وعيٍ زائفٍ به ويجرِّدُنا من القدرة على الالتصاق به والتفاعلِ الحيِّ معه. وذلك كلُّه يتوقّف على جملة عوامل، منها:

- طبيعةُ العلاقة التي نبنيها بينهما. فقد يحصل أحيانًا أن نطوِّع الواقعَ لمقاساتِ خطابنا، بدلًا من أن نُدخلَهما معًا في علاقةٍ جدليّةٍ متوتّرة. وهذا، بدوره، يُحْبط قيامَ حركةٍ نقديّةٍ تخترق عمقَ هذا الواقع وتفكِّكُه.

- ماهيةُ المفاهيم وسياقُ اشتقاقها وميكانيزماتُ استخدامها. لا يمكن أن تكون المفاهيمُ محايدةً؛ فهي أدواتٌ لإنتاج المعرفة، ومن ثمَّ يجب أن تحاكي التجربةَ وتبتعدَ عن التجريد. ولكنْ قد يُقحَم الحاضرُ في منظومةٍ مفاهيميّةٍ من خارج السياق أو تنتمي إلى الماضي؛ وهذا ما يَخلق خطابًا منفصلًا عن هذا الواقع، أو واقعًا "مشيَّأً" لا يتعدّى أن يكون موضوعًا للقراءة والتحليل.

تطويعُ الواقع، والوعيُ الزائفُ به، والانفصالُ عنه، والمفاهيمُ المجرَّدةُ والمفصولةُ عن سياقها وعن التجربة: كلُّها سماتٌ تَحْكم الخطابَ المهيمنَ عربيًّا، والمتمثِّلَ في ذلك السيلِ الهائلِ ممّا يُقال ويُكتب يوميًّا في وسائل الإعلام ومن خلال المنصّاتِ الثقافيّةِ المختلفة. ومع اتّساع نطاق هيمنة التكنولوجيا، وازديادِ حجم المعلومات وسرعةِ تدفّقها، والتنوّعِ اللانهائيّ في "المنصّات الخطابيّة،" والكمِّ الضخمِ من القراءات اليوميّة للراهن وأحداثه، امتلك هذا الخطابُ سطوةً أكبرَ على "الوعي العربيّ" وبنائه، ودورًا رئيسًا في تحديد معنى السياسة وآليّاتِ العمل السياسيّ ومجالاتِه، وفي تعريف العقلانيّة والواقعيّة والمنطق والممكن وتحديدِ لحظة الخروج عنها جميعِها؛ ففي الخطاب تتمفصل السلطةُ والمعرفةُ على حدّ تعبير ميشيل فوكو. وبالتالي، فإنّ توصيفَ هذا الخطاب وفهمَه ضرورةٌ لفهم الراهن؛ كما أنّ تفكيكَه ونقدَه حاجةٌ وأولويّةٌ لاستعادة القدرة على الانخراط بفاعليّةٍ في واقعنا العربيّ ودفعِه إلى الأمام.

 

احتلالُ اللغة بأكملها

اهتمّ مهدي عامل (حسن حمدان) بتحليلِ ونقدِ ما كتبه المثقّفون العرب عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة بشكلٍ خاصّ، وسمّى ما كتبوه "الفكرَ اليوميّ." وقد ذهب إلى رسم ملامحِ كلِّ فكر، ومرجعيّتِه الإيديولوجيّة، ومفاهيمِه المركزيّة. كان ذلك في زمنٍ عربيٍّ مزدحمٍ بتيّاراتٍ سياسيّةٍ فاعلة، وبإيديولوجيّاتٍ حيّةٍ ومتناحرة. ولذلك وصف لنا مهدي، بشكلٍ دقيق، الخطوطَ الفاصلةَ بين فكرٍ وآخر، بهدف إظهار ضرورة الفكر المادّيّ القادرِ على إدراك الواقع إدراكًا علميًّا.

 

اهتمّ مهدي عامل بتحليلِ ما كتبه المثقّفون العرب، وسمّاه "الفكرَ اليوميّ."

 

لكنْ، نتيجةً لتحوّلاتٍ كثيرةٍ منذ ذلك الزمن حتّى اليوم، وتحديدًا على مدى العقود الثلاثةِ الماضية، لم يعد هنالك ذلك التمايزُ الظاهرُ بين خطابٍ أو "فكرٍ يوميٍّ" وآخر، ولم يعدْ من اليسير تقسيمُ المشهد الإعلاميّ والثقافيّ العربيّ بين خطابٍ مهيمنٍ وآخرَ نقيضٍ وناقد.

الإشكاليّة القائمة اليوم أنّ الخطابَ المهيمن، بصفاته الراهنة وبمنطلقاته الإيديولوجيّة، قد تسرّب إلى لغتنا بأكملها، باختلاف مواقعِنا، وبات له مكانٌ في ثنايا قراءاتنا للواقع على اختلاف توجّهاتِها، وأصبح منطلقًا لوسائلنا الإعلاميّة بجميع هويّاتها، ومنطقًا يَحْكم المثقّفين بغضّ النظر عن منطلقاتهم. صحيح أنّ الساحةَ العربيّة تعجّ بخليطٍ من الخطابات، يمكن في الظاهر تقسيمُها إلى يمين ويسارٍ وعَلمانيّ وإسلاميّ ووسطيّ، لكنّها – بوعيٍ أو من دونه – تدور ضمن إطارٍ مفاهيميٍّ ومعرفيٍّ واحدٍ فَرض نفسَه "حقائقَ" لا يمكن تجاوزُها. وهذا ما أفشل، حتى الآن، فرصةَ بناء خطابٍ نقديٍّ مضادّ، له هويّتُه المستقلّةُ وأدواتُه المعرفيّةُ الخاصّةُ به، باستثناء بعض المحاولات والمبادرات التي لم تستطعْ أن تتحوّلَ إلى خطابٍ متكاملٍ قادرٍ على المواجهة.

وما يُديم هذا الفشلَ ويُعمِّقه، ويتيح لتلك "الحقائقِ" التجذّرَ في وعينا وفي ممارساتنا، جملةُ تحوّلاتٍ طرأتْ على مفهوم العمل السياسيّ، وجاءت بالتوازي مع تحوّلات الخطاب ونتاجًا له. من هذا كلّه، ظهر لدينا، بدلًا من النقد، ما يمكن تسميتُه "ظاهر النقد،" أيْ نقدٌ هو أسيرُ المنقود وأسيرُ أدواتِه و"حقائقِه." كلاهما، الناقدُ والمنقودُ، يسكنان لغةً واحدة. وعلى صعيد الممارسة، فإنّ ذلك جعل الحاضرَ العربيَّ أشبهَ بحلقةٍ مغلقةٍ ندور فيه من دون القدرةِ على تجاوزه، وكأنّه حاضرٌ أبديٌّ يجترُّ الماضي، ومبتورٌ عن المستقبل. والحال أنّه لا يمكن تجاوزُ الحاضر إلّا بكسر حقائقه المزعومة.

 

نبذُ الإيديولوجيا، انتصارُ الإيديولوجيا

مسارُ تشكّلِ هذه الهيمنة الخطابيّة، واجتياحِها للّغة بأكملها على صعيدٍ عربيّ، وتحديدِها لإطار الممارسة السياسيّة، بدأ مع ما سُمّي "انتهاءَ عصر الإيديولوجيا" أو "موتَ الإيديولوجيا." وهذا هو التحوّلُ الأبرز، بل ربّما الانتصارُ الأهمّ، الذي حقّقتْه المنظومةُ الغربيّةُ الرأسماليّةُ بانهيار المنظومة الاشتراكيّة وتراجُعِ المدّ التحرّريّ في "العالم الثالث." لم تقدِّمْ المنظومة الغربيّةُ الرأسماليّةُ نفسَها كإيديولوجيا منتصرة مقابلَ أخرى مهزومة، وإنّما فرضتْ وجودَها باعتبارها "ما بعد إيديولوجيا" تمثِّل روحَ العصر والعلم والمعرفة الموضوعيّة، وباعتبارها معيارَ القيم الحضاريّة، مقابلَ ماضٍ إيديولوجيّ قاتمٍ ومتطرّف.

في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ، لحظةِ انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتراجُعِ المدّ التحرّريّ في "العالم الثالث،" عمل الغربُ الرأسماليُّ على إعادة بناء صورته بلغةٍ مختلفةٍ ترتكز على تعبيراتٍ وتمثّلاتٍ ثقافيّة وحضاريّة، فأحلَّ محلَّ الصراع ذي الجوهر المادّيّ صراعًا قيميًّا وصِدامًا حضاريًّا. وهنا بدأ تناسلُ مصطلحاتٍ ومفاهيمَ شكّلتْ عنوانَ المرحلة: كـ"محاربة الإرهاب" و"تكريس حوار الأديان" و"بناء التحوّل الديمقراطيّ" و"الحرص على المشاركة السياسيّة" و"التنمية" و"الاهتمام بالنوع الاجتماعيّ" و"فرض القانون الدوليّ"... الخ. وهذه جميعُها ترسّختْ عبر الممارسة المؤسّساتيّة الدوليّة والإقليميّة والمحلّيّة، وعبر الإعلام والاشتغال الثقافيّ، لتكون مدخلًا إلى كيفيّة تعريف المجتمعات لنفسها، ورؤيتِها لواقعها وتعاملِها معه، ولتحديد موقعِها على سلّم "التقدّم/التخلّف." والمهمّ أنّ قوّةَ هذه المفاهيم الوليدة تكمن في معناها المحدَّد مسبَّقًا، وفي نمذجتها وتوظيفِها وفرضِها "الناعم" على كلّ مجتمع، واعتبارِها صالحةً لكلّ أزمةٍ لكونها معرفةً "موضوعيّةً" و"شرطًا حضاريًّا."

من حقائق هذه الإيديولوجيا التي تزعم أنّها فوق الإيديولوجيا، جرى بناءُ "واقعٍ عربيٍّ جديد" على أنقاض "واقعٍ قديمٍ" أعلن موته؛ أو بكلماتٍ أدقّ: جرى بناءُ وعيٍ جديد على جثّة وعيٍ قديم (فما الواقعُ غيرُ الوعي به؟). لذلك، وعلى الرغم من أنّ هنالك تاريخًا من الفشل في بناء الدولة العربيّة ومن اختزالها في نظام الحزب الواحد؛ ومع أنّ ذلك أدّى إلى فشل بناء مجتمعٍ حديثٍ له هويّتُه الحديثة؛ فإنّ "الوعيَ الجديد" اختزل هذه الأزمةَ الوجوديّةَ في مجرّد "سوءِ إدارة" و"فساد" و"غياب التحوّل الديمقراطيّ" و"عدم وجود انتخابات وحريّات فرديّة وجندريّة"؛ أي اختزلها في تمظهرات الأزمة التي يجري توصيفُها وقياسُها سنويًّا ضمن أوزانٍ معيّنةٍ في تقارير التنمية العربيّة والدوليّة. كما جاء نموُّ التيّارات السياسيّة الإسلاميّة وسيطرتُها في تسعينيّات القرن العشرين ليساهما في توسّع جدليّة "تقدّم/تخلّف" التي عمّقت النقاشَ الثقافويّ وفرضتْه، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، مدخلًا لبناء التصوّرات والمعاني حول واقع المجتمع العربيّ وعلاقته بـ"الآخر."

لهذا كلّه، ومنذ الثلث الأخير من القرن العشرين، انشغل المثقّفُ والفنّانُ والخبيرُ القانونيّ والناشطُ السياسيّ والمؤسّساتُ الأهليّة والرسميّة، والجامعاتُ عبر البرامج الأكاديميّة، بالبحث عن حلولٍ مشتقّةٍ من هذا التوصيف "الموضوعيّ" للمشكلة العربيّة. وجاء الإعلامُ الفضائيّ والإلكترونيّ في التسعينيّات أيضًا ليعطيَ هذه المفاهيمَ وهذا الخطابَ قوّةً إضافيّة. فقد أغرقتْ وسائلُ الإعلام الواقعَ العربي - بل قتلتْه - بقراءاتٍ لانهائيّةٍ للحدث اليوميّ، حتى بات اليوميُّ هو حدودَ وعينا.

 

ثورةٌ في الخطاب، ثورةٌ على الخطاب

تجاوزت "الثورةُ" في كلٍّ من تونس ومصر (2010-2011) دلالاتِها المباشرةَ كحدث، لتبدو وكأنّها جاءت تعبيرًا عن فشل المنظومة الخطابيّة المهيمنة، بقراءاتِها وتوصيفاتِها وحلولِها. ففرضتْ منطقَها المختلف ومطالبَها الجذريّةَ على مختلف القوى السياسيّة والاجتماعيّة. وهذا ما خلق آمالًا عريضةً في أنّ هذه "الثورة" قد تعيدُنا من جديد إلى الانخراط في الأسئلة التاريخيّة المعلّقة ومحاولةِ حسمِها، وهذا قد يعيد - بدوره - إلى العمل السياسيّ معانيَه وأطرَه الغائبةَ عبر نشاطٍ جماهيريٍّ يتدفّق في كلّ حيّزٍ عامّ.

لقد كان على "الثورة" إنجازُ ثلاث مهمّات أساسيّة: 1) كسْر حقائق الحاضر عبر بلورة خطابٍ نقيضٍ ونقديّ. 2) تدشين ممارسة سياسيّة متحرّرة من النخبويّة. 3) تحرير الواقع بإعطائه قراءةً جديدةً تفتح الطريقَ أمام المستقبل. هذه مهمّاتٌ لا نُسقطُها على هذه الثورة بقدْرِ ما هي نابعةٌ من سياق تشكّلها: فقد نضجتْ وانطلقتْ من ذلك الهامش الذي تنمو فيه التناقضات، متجاوزةً الفواعلَ السياسيّةَ بكلّ تيّاراتها، ونزلتْ إلى الشارع مباشرةً متحرّرةً من مساحات العمل السياسيّ النخبويّ، وحملتْ شعاراتٍ ومطالبَ تعبِّر عن حسٍّ شعبيٍّ بجوهر الأزمة، لا بتمظهراتها وبتعبيراتها الثقافويّة. بمعنًى آخر: كان ثمّة هامشٌ يتقدّم نحو المركز للمرّة الأولى منذ ثورات منتصف القرن العشرين، محاولًا فرضَ وجودِه ولغتِه وأدواتِه.

لكنْ سرعان ما اصطدمتْ هذه "الثورةُ" بجدار الخطاب المهيمِن، ووقعتْ أسيرةً له ولـ"الوعي الجديد." أو لنقلْ إنّ الخطابَ لم ينكسرْ أمامها، ولم يفسحْ لها الطريقَ بسهولة، بل استردّ هيمنتَه سريعًا، ونجح في إعادة توجيهها وتحديدِ أدواتها وأهدافِها ونطاقِ تحرّكها، فبدت وكأنّها ثورةٌ محكومةٌ بشروط هذا العصر النيوليبراليّ، على حدّ توصيف عالم الاجتماع الإيرانيّ آصف بيات في كتابه ثورة بلا ثوّار. يَعتبر بيات أنّ "الربيع العربيّ" قد فشل في أن يكون جذريًّا لأنّه وُلد من دون إيديولوجيا؛ ولذلك فإنّ جُلَّ ما حقّقه هو فرضُ "إصلاحات" على النظام. ومع أنّ بيات يصف جزءًا كبيرًا من هذا الفشل، لكنْ يبقى من الضروريّ التأكيدُ أنّ غيابَ الإيديولوجيا عن ثورةٍ وليدةٍ قد استُبدل باعتناقٍ غيرِ واعٍ لإيديولوجيا "ما بعد الإيديولوجيا" وبتبنٍّ للحقائق السائدة وكأنّها "بديهيّاتٌ" أو مسلَّماتٌ معرفيّةٌ وسلوكيّةٌ وقيميّة. إنّها "ثورةٌ" وُلدتْ في حضن ثقافةٍ إصلاحيّة، غيرِ ثوريّة، تشكّلتْ على مدى العقود الثلاثة الماضية. لذلك نجد أنّ الخطابَ المهيمنَ اليوم لم يعد محصورًا ضمن قوًى وفواعلَ ومؤسّساتٍ تمارسه على الشارع، بقدر ما بات الشارعُ نفسُه - بقواه الاجتماعيّة والسياسيّة، وبتوجّهاته اليمينيّة واليساريّة والوسطيّة - يَحمل هذا الخطابَ بدرجاتٍ متفاوتةٍ في لغته وسلوكِه ومحدَّداتِه القيميّة، ويعيد إنتاجَه.

إعادةُ الإنتاج اللاواعي هذه قد نجدها متمثّلةً في مفهوم "العنف"الذي هيمن إلى حدٍّ بعيدٍ على مجريات العمل "الثوريّ." لقد بدأت "الثورةُ" في تونس بتعبيرٍ مكثّفٍ عن أعلى درجات العنف، وهو ما تمثّل في إحراق مواطنٍ نفسَه نتيجةً للعنف البنيويّ الذي مارستْه المنظومةُ الاقتصاديّةُ-السياسيّةُ على مدى عقود. وهو ما ينطبق على حَراك الشارع المصريّ بعد قتل الشرطة للشابّ خالد سعيد. لكنْ سرعان ما بدا الإرباكُ في تحديد ماهيّة "العنف" ومجالاتِه ومدى الحاجةِ إليه، وانتشر حرصٌ مُبالَغٌ فيه (ساهم الإعلامُ في ترويجه) على إظهارِ الطابع "السِّلْميّ" والوجه "الحضاريّ" للثورة، والاهتمام بتوثيق عنف النظام وقمعِه للقوى الثوريّة بهدف فضحه و"محاسبتِه قانونيًّا." فكأنّ الوعيَ السائد هنا يخشى العنفَ في حدّ ذاته، ويَخلط بينه وبين العنف الثوريّ الذي يعبّر عن الإرادة العامّة للشعب ويهدف إلى ازالة الاستبداد، ويضعه مرادفًا للفوضى وعدمِ الاستقرار، بغضّ النظر عن هدفِه وسياقِه؛ فالعنف هنا سلوكٌ "غيرُ حضاريّ." وهذا ما تَعزّز صدقُه لاحقًا عندما انتقلت الأحداثُ إلى ليبيا وسوريا؛ فقد جاءت الممارسةُ السياسيّةُ في هذيْن البلدين لتتحالفَ وتتواطأَ مع "الخطاب الجديد" في سبيل تعزيز الربط السائد بين العنف والفوضى.

 

قتل خالد سعيد نتيجةٌ للعنف البنيويّ الذي مارستْه المنظومةُ الاقتصاديّةُ-السياسيّةُ طوال عقود

 

لا نناقشُ هنا العنفَ كضرورةٍ ملازمةٍ للثورة، ولا نفترضُ أنّ هنالك مسارًا إجباريًّا لها؛ فلكلّ ثورةٍ ظروفُها وشروطُها التاريخيّة. لكنّنا نحاول فهمَ سياق هذا الإرباك المستجدّ أمام العنف، مقارنةً بتاريخ الثورات السابقة، وفهمَ دلالة تجنّبِه أو تقنينِه ، وفهمَ محاولة احتكارِه ضمن سلوكيّاتٍ "مقبولة" محدَّدة، وبالتالي محاولة إخراجِه من قاموس الفعل السياسيّ والوطنيّ لشعوبٍ ما زالت تعيش مرحلةَ التحرّر الوطنيّ والقوميّ والاجتماعيّ في بداياته.

أهمّيّةُ هذه الدلالة المتعلّقة بمفهوم العنف تأتي من انعكاسه المباشر على معنى التغيير ومجالاتِه والمدى "المقبول" أن يصلَ إليه؛ ذلك لأنّ التسليمَ بحقائقَ مفاهيميّةٍ خطابيّةٍ معيّنةٍ لا يبقى محصورًا في نطاق اللغة والوعي، بل لا بدّ من أن يُترجَمَ بمسلَّماتٍ وبديهيّاتٍ في الممارسة أيضًا. من هنا هيمنتْ على الفضاء الإعلاميّ والثقافيّ مفاهيمُ "الوحدة الوطنيّة" و"السلْم الأهليّ" و"المصلحة العامّة" و"الاستقرار" و"مقدّرات الدولة" و"الملْكيّة العامّة،" حتى بدا المجتمعُ فوق-ماديّ، خاليًا من التناقضات وغيرَ محكومٍ بها، وبدا النظامُ الذي نريد إسقاطَه مجرّدَ رئيسٍ أو وزراء، ومعهم وحدهم ينحصر التناقض. وفق الخطاب الجديد السائد، لم يعد يُنْظر إلى النظام في كونه تعبيرًا عن طبقةٍ مسيطرةٍ، يرعى مصالحَها ويحميها؛ طبقةٍ تتجاوز "السياسةَ" إلى الاقتصاد والإعلام والتعليمِ والثقافةِ والفنّ، وتمتدُّ إلى القرية والمدينة، وبين الرجال والنساء، وفي الدينِ والعَلمانيّة. هذا المفهوم السائد للنظام هو، بطبيعة الحال، غيرُ محايد، بل فيه:

"تبرئةٌ للطبقات المسيطرة، تبريرٌ لنظام سيطرتها الطبقيّة، لأنّ فيه تغييبًا للطابع الطبقيّ لهذا النظام وللقمع فيه. فالنظام قمعيّ، لا لأنّه نظامُ سيطرةٍ طبقيّة، بل لأنّه مجرّد نظام. لذا القمعُ نظاميّ، وليس طبقيًّا."[1]

لذلك، من دون أن ندرك، انصَعْنا ضمنيًّا إلى الخطاب المهيمِن، ولغتِه، وروحِه الثقافويّة، و"وعيه الجديد." وانصبّ اهتمامُنا واحتفاؤنا بـ"الثورة" على "معانقة الهلالِ للصليب،" وعلى قياس نسبةِ مشاركة النساء والشباب فيها (من دون الاهتمام بانتماءاتهم السياسيّة والإيديولوجيّة والطبقيّة)، وغير ذلك من مظاهرَ وتمظهراتٍ مماثلة. لقد رأينا المشهدَ الثوريَّ من خارجه، ولم ننخرطْ في عمليّة تفكيكِه بكامله، ولا الغوصِ في تناقضاته المادّيّة وشبكةِ المصالح المعقّدة التي تَحْكمه، ولم نتتبّع التناقضاتِ ومستوياتِها وفقًا للمرحلة -- ابتداءً من رأس النظام، لا انتهاءً به. بمعنًى آخر، نجح الخطابُ المهيمن في حصر وعينا بـ"مُجريات هذه الثورة" في العموميّات، حيث "على التجريد يقوم التعميم."[2]

يبقى أن نقول، وفقًا لهذا التعميم والتجريد والتصوير فوق-المادّيّ للمجتمع وحصرِ النظام في كونه مجرّدَ نظامٍ "سياسيّ،" إنّ "الديمقراطيّة الانتخابيّة" تغدو حلًّا ملائمًا، بل بديلًا للثورة وأدواتها. بكلامٍ آخر: تصبح حدودُ "ثورة ما بعد الإيديولوجيا" أو "الثورة المحكومة بشروط العصر النيوليبراليّ" هي صندوقَ الاقتراع الذي هرول إليه كثيرون من صفوف اليمين واليسار والخطّ الإسلاميّ والقوميّ بمجرّد رحيل رأس النظام، من دون أن يَطْرحوا سؤالًا عن علاقة الثورة بالديمقراطيّة. فالديمقراطيّة الانتخابيّة ليست مجرّدَ سلوكٍ إجرائيّ، بل هي حدودُ التغيير "المقبول،" وبديلٌ مفترَضٌ للتغيير الجذريّ؛ بديلٌ ينتمي - زعمًا - إلى "عصر الإيديولوجيا المندثر." التغيير، بحسب الخطاب السائد، يجب أن يتمَّ ضمن "الحقائق" لا بتجاوزِها. وهذا ما جعل ترشُّحَ أحمد شفيق، رئيسِ الوزراء السابق في نظام حسني مبارك، إلى الانتخابات الرئاسيّة أمرًا "مقبولًا" وغيرَ شاذٍّ عن "المشهد الثوريّ." وفقًا لذلك الخطاب، ثمّة مكانٌ للجميع، للمسيطِرين والمسيطَرِ عليهم، في "الديمقراطيّة" و"في الانتخابات النزيهة." ومن هذا المنطق أيضًا تولّدَ شبهُ إجماعٍ بين المثقّفين العرب على أنّ التجربة التونسيّة ناجحةٌ ورائدة، مقارنةً بالتجربة المصريّة وببقيّة التجارب العربيّة، لأنّ التجربة التونسيّة حقّقتْ - ودائمًا وفقًا للخطاب السائد او الوصفة الديمقراطيّة النموذجيّة - "انتقالًا وتداولًا سلميًّا للسلطة،" ولأنّ الصراع انحصر بين تيّاراتها السياسيّة داخل مؤسّسات النظام - - مع أنّ تونس (كما مصر) لم تحقّقْ قطيعةً مع البنى الاقتصاديّة السياسيّة المهيمنة منذ ما قبل الثورة، ولم تقم بإرساء قواعدِ نظامٍ جديدٍ قادرٍ على تحقيق العدالة الاجتماعيّة؛ أيْ لم تتمّ عمليّةُ تخليق المجتمع التي تُحْدثها الثورةُ عادةً.

لكنْ إذا تحرّرنا من هذا المنطق المهيمن، فقد نرى أنّ جلَّ ما حقّقتْه "ديمقراطيةٌ" بديلةٌ للثورة (لا نتاجٌ لها) هو أنّها صادرت الفعلَ السياسيَّ من الشارع وأعادته إلى أطرِه النخبويّة، وحَجبتْ فرصةَ ولادةِ قوًى سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وشعبيّةٍ جديدةٍ (من خارج المركز) كان يمكن أن تتبلورَ في الميدان، وأبقت على القراءة السائدة للواقع، وعلى القوى القديمة ذاتِها، مع تعديلٍ في المواقع والأدوار. وبذلك أعاد النظامُ إنتاجَ نفسه، في ظلّ مجريات الثورة نفسِها، وعاد الهامشُ لينكفئَ على ذاته، وعاد الحاضرُ ليأخذ شكلَه الدائريَّ المنغلق على نفسه.

وهذا يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ خطورةَ الخطاب المهيمن لا تكمن في الوعي الذي يفرضه علينا فحسب، وإنما في الوعي الذي يَحْجبه عنّا كذلك، وفي مصادرته لخيالنا ولقدرتنا على تصوّر حياةٍ وتجاربَ وممارساتٍ وحلولٍ من خارج "حقائقه."

 

فراغُ الميدان، استبدالُ الفواعل، سرقةُ الواقع

بطبيعة الحال، لا يمكن حصرُ مآلات الثورة في ما ذهبنا اليه؛ فهذا ليس كلامًا في الثورة، بقدْرِ ما هو كلامٌ في الخطاب. كما لا يمكن اختزالُ أثر الخطاب في موضوعة الثورة، وإنّما هو أثرٌ ممتدٌّ في السلوك والممارسة في لبنان وفلسطين وفي غير مكانٍ عربيّ. ومن الصعب أيضًا إدراكُ الفعل السياسيّ من خلال الخطاب فقط؛ فهو كما أشرنا في بداية هذه المقالة مرّ بتحوّلاته الذاتيّة كذلك.

فقد ترافقت الهيمنةُ الخطابيّةُ و"موتُ الإيديولوجيا" مع ضعف الحزب السياسيّ وتراجعِه كإطارٍ ناظمٍ وحاضنٍ للفعل والنشاط السياسيّ والاجتماعيّ المؤدلج، ومع تحلّل الكثير من أطر العمل القاعديّة أو اندثارِها. وقد أدّى ذلك إلى انحسار العمل السياسيّ، بمفهومه الواسع والشامل على المستوى الجمعيّ الشعبيّ، وأخذ تدريجيًّا يغادر الميدانَ ليتقوقع ضمن مساحاتٍ نخبويّةٍ ورسميّةٍ ومجالاتٍ ضيّقة. وهذا فسح الطريقَ أمام هيمنة أطرِ عملٍ بديلةٍ، لها منطقُها المختلف، واهتماماتُها التي تتمركز في المجال الاجتماعيّ والثقافيّ والحقوقيّ والقانونيّ، المفصولِ عن السياسيّ، على اعتبار أنّ السياسة فعلٌ "إيديولوجيٌّ بذيءٌ وغيرُ موضوعيّ"؛ وهي الأطر التي قلنا سابقًا إنّها مثّلتْ جزءًا من أدوات هيمنة المفاهيم التي بدأتْ بالتناسل قبل ثلاثة عقود وساهمتْ في إعادة ترتيب أولويّات المجتمع العربيّ وهندسةِ اهتماماته.

الأهمّ في هذا المجال أنّ هذا التحوّل أقصى الكتلَ الشعبيّة من المجال العامّ، وذرَّرها إلى شرائحَ اجتماعيّةٍ تعمل منفصلةً بعضها عن بعض، لكلٍّ منها واقعُها الخاصّ. وكبديلٍ لهذه الكتل، امتلأ المجالُ العامُّ بجيوشٍ من "الخبراء" و"النشطاء" و"المختصّين" و"المحلِّلين." الإشكاليّة في عمل هذه الجيوش أنّها منفصلةٌ عن الواقع، وتشتغل به أكثرَ ممّا تشتغل معه، وتُسْقط عليه نظريّاتِها وقراءاتِها الجاهزةَ، وتُطوِّعُه ليلائمَها، أكثرَ ممّا تتفاعل مع جدليّاته الداخليّة وتُطوِّر نظريّاتِها وفقًا لمعطياته. الواقع بالنسبة إليها ثابتٌ لا حياةَ فيه. وهي بذلك تمارس فعلًا إيديولوجيًّا بامتياز... لكنْ باسم "نبذ الإيديولوجيا."

وعلى الرغم من أنّ أثر هذه التحوّلات نجدها في السياق العربيّ عمومًا، إلّا أنّ نجاحَها في السياق الفلسطينيّ بشكلٍ خاصٍّ لافتٌ للانتباه والاهتمام، لكونه سياقًا تحرّريًّا يجب أن تكونَ له شروطُه الخاصة. ولكنّ الممارسة السياسيّة البديلة، وبالاتساق مع الخطاب المهيمن، استطاعت أن تُقْصي أشكالَ الممارسة السياسيّة الخارجة عن نطاقها، بل أخضعت الفعلَ الوطنيَّ التحرّريَّ أيضًا لمنطقها، وقوّمتْه انطلاقًا من "قيمها" ومعاييرها. لقد جرى تجريفُ الواقع الفلسطينيّ، وبناءُ واقعٍ موازٍ. وفي هذا "الواقع الجديد" تجري مواجهةُ الفقر بالمطالبة بتعديل قانون، ومحاربةُ البطالة بتعليم الشباب مفاهيمَ "الريادة" و"الابتكار،" وتصبح الوحدةُ الوطنيّةُ مفهومًا مجرّدًا يَحجب عنك حركةَ الواقع وتناقضاته، ويساوي فيه الإعلامُ بين أباطرة الاقتصاد ومواطنٍ غيرٍ قادرٍ على تكاليف العلاج. وفي هذا الواقع الموازي أيضًا، يكون إنهاءُ الانقسام السياسيّ بالهرولة إلى "انتخاباتٍ ديمقراطيّة،" والزعم أنّ الديمقراطيّة والتنمية شرطان للتحرّر.

نريد من هذا التوصيف القولَ إنّ هيمنةَ الخطاب الجديد قد اقترنتْ بهيمنة نمطٍ محدّدٍ من الممارسة السياسيّة المتّسقة معه. وبذلك بات الوعيُ العربيّ محاصَرًا بالخطاب والممارسة معًا. بمعنًى آخر، لا توجد ممارسةٌ سياسيّةٌ قويّةٌ بما يكفي لكي تواجه الخطابَ المهيمنَ أو تنفيه.

رام الله

 


[1] مهدي عامل، نقد الفكر اليوميّ (بيروت: دار الفارابي للنشر والتوزيع)، ص 59.

[2]المرجع السابق، ص42.

معز كراجة

صحافيّ وأكاديميّ فلسطينيّ.