الأسرى الفلسطينيون: ميدانٌ للتضامن الدوليّ
02-11-2018

 

لم تخفّف الأيّامُ من دقّة مقولة غسّان كنفاني إنّ "فلسطين اليوم ليست قضيّةً للفلسطينيين وحدهم؛ إنّها قضيّةُ كلّ ثوريّ، وقضيّةُ الجماهير المضطهَدة والمستغَلّة في عصرنا."[1] بل ربّما كان لها اليوم صدًى أعظمُ من أيّ وقتٍ مضى، وخصوصًا عندما تتجلّى الإمبرياليّةُ الأمريكيّةُ وشركاؤها الأوروبيون تهديدًا مستمرًّا للوجود الفلسطينيّ، ولحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وتهديدًا لأيّ شكلٍ من أشكال الوحدة العربيّة، بل للاستقلال الحقيقيّ ذاته.

هناك حملاتٌ كثيرةٌ تستحوذ على انتباه حركة التضامن الدوليّة، وكلُّها جديرةٌ بالاهتمام فعلًا، وتتحدّى بعضَ جوانب المشروع الصهيونيّ في فلسطين المحتلّة ــ ــ بدءًا من حملات كسر الحصار على غزّة، مرورًا ببناء حركاتٍ لمقاطعة الشركات والهيئات الرسميّة والمؤسّسات الأكاديميّة والثقافيّة الإسرائيليّة، وصولًا إلى العمل مع الجاليات الفلسطينيّة في دول المنفى من أجل محاربة القمع والعنصريّة. والحال أنّ النضالَ من أجل الدفاع عن الأسرى السياسيين الفلسطينيين ونيلِ حريّتهم يقع في صميم التضامن مع الشعب الفلسطينيّ، ومع ثورته وحركةِ تحرّره الوطنيّ والاجتماعيّ.

ولا شكّ في أنّ الحركة الصهيونيّة والكيانَ الصهيونيّ يُقرّان بمركزيّة قضيّة الأسرى. وفي هذا الصدد تجدر الإشارةُ إلى أنّ جلعاد أردان، الوزيرَ الصهيونيّ الذي يحمل حقيبةَ "الأمن العامّ،" وضمنَها ملفُّ مصلحة السجون الإسرائيليّة، مسؤولٌ أيضًا عن مبادراتٍ عديدةٍ لمناهضة مقاطعة "إسرائيل."[2] والحقّ أنّ الحملات الصهيونيّة ضدّ الأسرى الفلسطينيين، أكانت حملاتٍ دعائيّةً في وسائل الإعلام الدوليّ أمْ حملاتِ قمعٍ وتبئيسٍ تهدف إلى تحطيم معنويّات الأسرى، تدرك مدى أهمّيّة هؤلاء الأسرى، رجالًا ونساءً وأطفالًا وشيوخًا، في النضال من أجل تحرير فلسطين.

بالنسبة إلى المحتلّين كما إلى ضحايا الاحتلال، وإلى بُناةِ حركات التضامن كما إلى من يجرّمونها، يُمثِّل الأسرى الفلسطينيون إرادةَ الشعب الفلسطينيّ الحازمة في مقاومة الاحتلال ومؤسّسة القمع بكلّ الوسائل الضروريّة. الجدير ذكرُه أنّ الاحتلال الإسرائيليّ اعتبر الكتابةَ على مواقع التواصل الاجتماعيّ عن المقاومة الفلسطينيّة "تحريضًا،" واعتقل مئاتِ الفلسطينيين بسببِ ما نشروه هناك في دعم المقاومة الفلسطينيّة.[3] كما أنّ الاحتلال يقابل أيَّ انخراطٍ في حركة التحرّر الفلسطينيّة ــ ــ من الانتماء إلى منظّمةٍ "محظورة،" وصولًا إلى ممارسة الكفاح المسلّح المباشر ــ ــ بالسجن سنواتٍ وعقودًا.

إنّ الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، والقيامَ بحملاتٍ من أجل حريّتهم، جزءٌ لا يتجزّأ من الدفاع عن المقاومة الفلسطينيّة وعن الحقّ الفلسطينيّ في ممارسة الكفاح المسلّح. حتى في حالة الأطفال الفلسطينيين الأسرى، فإنّ "التهمة" الأشيع التي يرميها بهم الإسرائيليون هي "إلقاءُ الحجارة،" في حين أنّ هذا الفعل ذاتَه ليس إلّا طريقةً مباشرةً لمقاومة المحتلّ.[4] وعليه، فإذا كان اعتقالُ الفلسطينيين محاولةً لعزل المقاومة الفلسطينيّة، فإنّ الدفاعَ عن الأسرى الفلسطينيين وسيلةٌ لكسر هذه العزلة، بل لإعادة حرْفها باتجاه عزلِ الكيان الصهيونيّ.

هناك، بالطبع، منظّماتٌ كثيرةٌ في فلسطين تقوم بعملٍ ممتازٍ ومهمّ في الدفاع عن الأسرى، والسعي إلى تحريرهم. ومع ذلك فقد جرى، وعلى نحوٍ متزايد، استبدالُ الجانب السياسيّ في قضيّة الأسرى الفلسطينيين بمقاربةٍ "إنسانويّةٍ" بحتة، أو مستندةٍ إلى "حقوق الإنسان" فقط. وأصبحتْ قضيّةُ الأسرى، شأنَ العديد من جوانب النضال الفلسطينيّ الأخرى، ذاتَ طابعٍ "مِهْنويّ،" ومجالًا محصورًا بالمحامين والخبراء القانونيين. ويجري التعاملُ مع الأسرى الفلسطينيين، في المقام الأوّل، وكأنّهم محضُ "ضحايا،" لا أبطالٌ في نضالٍ ثوريّ دؤوب من أجل تحرير فلسطين.

والحقيقة أنّ قضيّة أيّ أسيرٍ/ة فلسطينيّ /ـة هي معركة سياسيّة أكثرَ بكثيرٍ من كونها قانونيّةً. ومع ذلك، فإنّ استراتيجيّاتِنا في الدفاع عن الأسرى تنحو، وبشكل متنامٍ، منحًى قانونيًّا، على الرغم من اعترافنا سياسيًّا بأنّ النظامَ بأكمله غيرُ صالح وغيرُ شرعيّ. وفي اعتقادنا أنّ الأسرى السياسيين الفلسطينيين لا يمكن أن ينالوا حريّتَهم بالاكتفاء بعرض قضيّتهم بشكلٍ قانونيٍّ كامل، وكأنّ ما يواجهونه محضُ محاكمَ عسكريّة أو محاكمَ إسرائيليّة "مدنيّة"؛ ذلك لأنّهم في الحقيقة يواجهون نظامًا قائمًا على نفي وجودِهم من أساسه، وإلغاءِ تنظيماتهم ومقاومتِهم بشكلٍ أكثر تحديدًا. وهذا ينعكس أيضًا في الاستجابة العنيفة التي يمارسها نظامُ السجون الصهيونيّة حيال أيّ محاولةٍ يقوم بها الأسرى الفلسطينيون في إطار ممارسة فعّاليتهم الفكريّة والسياسيّة في النضال الوطنيّ التحرّريّ الفلسطينيّ.

لطالما قيل إنّ أفضلَ مكانٍ للعثور على قيادةٍ فلسطينيّةٍ لم تخضعْ للمساومة، ولا للتصفية السياسيّة، جرّاء عمليّة أوسلو، إنّما هو خلف القضبان الإسرائيليّة. ولهذا يتعرّض الأسرى الفلسطينيون داخل السجون الإسرائيليّة إلى هجماتٍ متواصلةٍ وعنفٍ ونقلٍ قسريٍّ وعزْلٍ، وذلك ردًّا على مواقفهم الجذريّة أو مقابلاتهم الصحفيّة اللامهادنة أو أعمالهم الإبداعيّة المقاومة، التي تُنقَل إلى الخارج عبر الرسائل السرّيّة، والهواتفِ المحمولة المهرَّبة، وغيرِها من التقنيّات التي تتحدّى العزْلَ الإسرائيليّ. ولقد أثارت المقابلةُ التي أُجريتْ مؤخّرًا مع أحمد سعدات، الأمينِ العامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، في صحيفة المصري اليوم،[5] غاراتٍ إسرائيليّةً قاسيةً وقمعًا شرسًا ضدّ الأسرى الفلسطينيين في سجن رامون.[6] كما نُقل الأسيرُ والمناضلُ المخضرم وليد دقّة إلى السجن الانفراديّ بعد نشره كتابًا جديدًا للأطفال؛ وجاء ذلك إثر وقف التمويل عن مسرح حيفا عقب عرض مسرحيّةٍ مستندةٍ إلى عمله.[7]

إنّ الجانب الدوليّ من نضال الأسرى الفلسطينيين لا يمكن، ولا يجب، أن ينحصرَ في أروقة الأمم المتحدة، والهيئات القانونيّة الدوليّة. وهنا علينا ألّا ننسى أنّ الدول الإمبرياليّة، كالولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبيّ، هي شريكٌ كاملٌ في سجن الفلسطينيين وتشريع الأحكام ضدّهم، وذلك من خلال الإجراءات القانونيّة التي تتّخذها هذه الدولُ ضدّ المقاومة الفلسطينيّة.

وللتذكير، فإنّ "قوانينَ مكافحة الإرهاب" في أوروبا اليوم لها سوابقُ قانونيّةٌ مختلفة ــ ــ أبرزُها القوانينُ التي استُخدمتْ في بلدان الغرب لقمع الحركات المناهضة للاستعمار والتحرّر. غير أنّها تنبع مباشرةً من القوانين التي أُقرّت في الولايات المتحدة منتصفَ التسعينيّات من القرن العشرين، ومن ثمّ صُدِّرتْ إلى جميع أنحاء العالم بعد هجمات 11 أيلول 2001. وكانت القوانينُ الأميركية الأصليّة قد بُرّرتْ، بشكلٍ واضح وصريح، بكونها قوانينَ داعمةً لـ"عمليّة السلام في الشرق الأوسط،" أيْ لعمليّة أوسلو، وداعمةً لتجريم الفصائل الفلسطينيّة التي رفضتْ هذه العمليّة.[8] ولهذا نرى أنّ "لوائح الإرهاب" في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وكندا، والاتحاد الأوروبيّ، والمملكة المتحدة، وأستراليا، مليئةٌ بأسماء المنظّمات الفلسطينيّة المناضلة، التي رفضت اتفاقيّاتِ أوسلو، مثل الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وحركة حماس، وحركة الجهاد الاسلاميّ... بل مثل مقاتلين من حركة فتح قاوموا مشروعَ "التسوية" هم أيضًا.

هذه القوانين يجري استخدامُها اليوم لتجريم نضال الفلسطينيين في هذه البلدان، كما حدث مع "قضيّة الخمسة،" أعضاءِ "مؤسّسة الأراضي المقدّسة" في الولايات المتحدة، وبعضُهم يُمضي عقوباتٍ تصل إلى 65 سنةً في السجون الأمريكيّة بسبب دورهم في العمل الخيريّ لدعم الشعب الفلسطينيّ. كما يقضي المناضلُ اللبنانيُّ جورج عبد الله 34 سنةً في السجون الفرنسيّة في إطار تجريم المقاومة، ولو من باب تجريم المقاومة المسلّحة ذاتها. ذلك أنّ الهدف هو تجريم المقاومة الفلسطينيّة في كلّ الحالات.

إنّ دعمَ الأسرى الفلسطينيين، والتعريفَ بهم وبحياتهم ومواقفِهم السياسيّة، إسهامٌ في الدفاع عن المقاومة في ميدان الأفكار. ولقد أدرك الكيانُ الصهيونيّ والاتحادُ الأوروبيّ أهمّيّةَ هذه المعركة. ولذا رأينا توقّفَ التمويل الأوروبيّ عن المدارس الفلسطينيّة التي تحمل أسماءَ الشهداء والمناضلين الذين وَهبوا حياتَهم من أجل تحرير فلسطين. فقد توقّفتْ بلجيكا والنرويج عن تمويل مدرسةٍ تحمل اسمَ الشهيدة دلال مغربي، وشُنّت حملاتٌ ضدّ مدارسَ وساحاتٍ كَرّمت الشهيديْن شادية غزالة وخالد نزال. وليست هذه الحملاتُ في حقيقة الأمر ضدّ "اسم" المدرسة أو المؤسّسة في ذاته، بل جميعُها حملاتٌ تستهدف طمسَ الذاكرة الفلسطينيّة والتاريخ الفلسطينيّ.[9] والحال أنّنا مسؤولون عن الردّ على هذه الحملات بدعم قادة المقاومة الفلسطينيّة لكونهم قادةً للعدالة الاجتماعيّة في العالم أجمع.

إنّ معركةَ الأفكار هذه بالذات هي السببُ الذي دفع الوزيرَ الإسرائيليّ جلعاد أردان إلى أن يَشمل، في حملته ضدّ حركة المقاطعة العالميّة المتنامية، شبكةَ "صامدون" للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، وذلك ضمن عشراتٍ من المجموعات الدوليّة الأخرى.[10] وإنّ الصورة الموصولة بخطٍّ أحمر إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين على جدول جلعاد أردان تعكس اهتمامَ المشروع الصهيونيّ بالربط المقصود والوثيق الذي أقامه معهدُ رويت الإسرائيليّ بين ما يصفه بأنّه شبكةُ عملٍ "لإزالة الشرعيّة عن إسرائيل" وشبكةِ عمل "المقاومة."[11] والهدف إشاعةُ الخوف، وعزلُ قضيّة الأسرى عن عمقها السياسيّ والحقوقيّ والإنسانيّ، وبمعنًى ما "إزالة الشرعيّة عن المقاومة" وارتباطها بالنضال على المستوى الأمميّ.

إنّ نضالَ الأسرى الفلسطينيين من أجل الحرّيّة هو جزءٌ لا يتجزّأ من النضال الفلسطينيّ من أجل التحرير، كما ذكرنا. ونستطيع أن نجدَ فيه بذرةَ العلاقة المنشودة التي تنطوي على إمكانيّة بناء نوعٍ من التحالفات العميقة التي يمكن أن تتحدّى الصهيونيّةَ، والإمبرياليّةَ، والرأسماليّةَ، وحلفاءها من الأنظمة الرجعيّة.

ولأنّ النضال من أجل حرّيّة الأسرى الفلسطينين لا يبتعد ولا ينفصل عن النضال من أجل التحرّر على المستوى الأمميّ، ولا عن حرّية المعتقلين المناضلين في سجون الفيليبين وتركيا والهند ومصر والولايات المتحدة وغيرها، تتعاظم المصلحةُ المشتركة التي تجمع بين مختلف الحركات الثوريّة التي تقاتل من أجل العدالة والتحرّر وتواجه معًا قوانينَ القمع والفاشيّة والعنصريّة والاستغلال.

برلين

[1]“Tribute to Ghassan Kanafani,” in “Ghassan Kanafani,” Tricontinental Society, London, 1980.  http://www.newjerseysolidarity.net/resources/kanafani/kanafani6.html

[2] Gilad Erdan, https://www.gov.il/en/Departments/People/minister_of_public_security

[3] "عندما يتعّلق الأمر بـ’التحريض‘ عبر الفيسبوك، فإنّ الفلسطينيين هم الذين يُعتقلون، لا الإسرائيليين اليهود، " دانييل ألما رافيتسكي ، موندوفييس ، 22 أيّار 2018

https://mondoweiss.net/2018/05/facebook-incitement-palestinians/

[4] Defense for Children International – Palestine, “Number of Palestinian Children (12-17) in Israeli Military Detention,” July 2018,
https://www.dci-palestine.org/children_in_israeli_detention

[5] حسين البدري مع أحمد سعيدات ، المصري اليوم ، 20 أكتوبر 2018

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1334883
[6] Handala Center for Prisoners and Ex-Prisoners, “Repressive forces storm Ramon prison,” October 23, 2018

http://handala.ps/ar/post/2292/

[7] Ahmed Melham, “Jailed Palestinian writer pens story for children of prisoners,” October 13, 2018
http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2018/09/palestines-prison-literature.html#ixzz5VDLbkK1U

[8] Executive Order 12947, “Prohibiting Transactions with Terrorists Who Threaten to Disrupt the Middle East Peace Process,” https://www.treasury.gov/resource-center/sanctions/Documents/12947.pdf

[9] Norwegian government, “Unacceptable glorification of terrorist attacks,” https://www.regjeringen.no/en/aktuelt/unacceptable-glorification-of-terr... Times of Israel, “Belgium halts PA education funding because West Bank school named for terrorist,’ https://www.timesofisrael.com/belgium-halts-pa-education-funding-after-s...

[10] Samidoun, “Gilad Erdan wants to shut us down while attacking prisoners,” June 20, 2018;
https://samidoun.net/2018/06/gilad-erdan-wants-to-shut-us-down-while-attacking-prisoners-well-keep-fighting-for-palestinian-freedom

[11] Reut Institute, “ The Delegitimization Challenge: Creating a Political Firewall,“ 2010; http://reut-institute.org/Publication.aspx?PublicationId=3769

 
شارلوت كيتس

المنسّقة الدوليّة لشبكة التضامن مع الأسير الفلسطيني (صامدون).

نور صفي الدين

 صحافيّة وعاملة في الشأن الاجتماعيّ. أشرفت على موقع مجلة الآداب الإلكترونيّ بين نيسان  ونهاية تشرين الثاني من العام 2018. كتبتْ في العديد من الجرائد المحلّيّة والعربيّة. صدر لها في الشعر: أردتكَ عندما رحلتَ، وحين تراكم الموتُ ولم يأتِ. وهي في صدد كتابة رسالة الماجيستير في علم الاجتماع.