الإسلام السياسي على مفترق طرق
30-04-2019

 

معظمُ الإسلاميين نظروا إلى الغرب نظرةً هويّاتيّة، ومن منطلقٍ صراعيّ. ولأن كلّ منطلقٍ هوياتيٍّ لا بدّ من أن يبدأ بلحظةٍ ما، فقد بدأت مقاربةُ المنتمين إلى هذا التيّار، سنّةً وشيعةً، من سقوط الخلافة العثمانيّة. أغلبُهم ظنّ أنّ "الغرب" هو المسؤولُ الوحيدُ عن إسقاط السلطنة العثمانيّة، وتحويلِ النظام الإسلاميّ فيها إلى نظامٍ أتاتوركيّ علمانيّ، الأمرُ الذي ضرب فكرةَ "الإسلام" ضربةً قاضيةً شبيهةً بتلك التي تلقّتها المسيحيّةُ في أوروبا خلال العصور الوسطى.

بالنسبة إلى الإسلاميّين، لم يكن في حسبان الغرب أن تؤدّي هذه النقلةُ السياسيّة ــ الإيديولوجيّة السريعة إلى بناء سدٍّ منيعٍ بين الفكر الغربيّ من جهة، والشعوب والحركات الإسلاميّة من جهةٍ ثانية. وفي مرحلةِ ما بعد سقوط الخلافة العثمانيّة، طفتْ على سطح المشهد السياسيّ ثلاثُ قوًى مختلفة:

- حركةُ الإخوان المسلمين، الحنفيّة المنشأ. وقد وُلدتْ سنة 1928، أيْ بعد ثماني سنوات من توقيع معاهدة سيفر، القاضية بتفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة.

- المملكةُ العربيّة السعوديّة، الوهّابيّة. وقد تأسّستْ سنة 1932[1] بعد توحيد أراضي نجد سنة 1921.

- الثورةُ الإسلامية في إيران، الاثني عشريّة. وقد بدأتْ كثورةٍ سنة 1963، ثم استحالتْ نظامَ حكمٍ ودولة سنة 1979.

في سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته، اتّضحتْ معالمُ الصحوة الإسلاميّة جليًّا، فانتشرتْ كلٌّ من:

- الوهّابيّة "السياسيّة" في شبه الجزيرة العربيّة، والوهّابيّة "القتاليّة" في أفغانستان والشياشان والبوسنة والهرسك وغيرها.

- حركة الإخوان المسلمون على حوض البحر المتوسّط، بالقرب من خطوط التجارة المائيّة، أيْ في مصر وسوريا وتركيا. وقد ظهر هؤلاء بتسميات عدّة، من بينها: حزبُ العدالة والتنمية، والجماعةُ الإسلاميّة، وحماس، وحركةُ النهضة.

- أمّا الامتداد الشيعيّ فنجده في الأماكن التي تحمل تراثَ هذا المذهب، من إيران إلى العراق وصولًا إلى لبنان. وقد عبّرتْ هذه الجماعاتُ عن نفسها من خلال: المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق، وأفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل) وحزب الله في لبنان، وحزب الدعوة والتيّار الصدريّ في العراق، والشباب المسلم في باكستان، وبعض التيّارات الصغرى على مستوى الحضور في آذربيجان وتركيا والهند.

والحقّ أنّ ظهورَ الإسلام السياسيّ لم يكن بعيدًا عن تاريخ مَنبعه. ففي ظلّ الحرب الباردة، اهتمّت القوى الكبرى بالإسلام السياسيّ على اعتباره خطرًا متصاعدًا قد يؤثّر في نتائج الحرب. ففي سنة 1979 قامت ثورةٌ إسلاميّة تطالب بقيام حكم الدين من جديد في قلب العالم الإسلاميّ، مهدِّدةً المُعسكرَ الشرقيَّ في عقر داره،[2] والغربيَّ في وسط سوقه.[3] ولقد كانت تلك لحظةً مفارقةً بالنسبة إلى الإسلام السياسيّ، الذي كان قد بنى جزءًا رئيسًا من تاريخه قبل تلك الثورة على نوعٍ من "التخادم" بينه وبين الغرب.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ، رفعت الولاياتُ المتّحدة شعارَ مواجهة الحركات الإسلاميّة العابرة للدول. لكنّها كانت تولي اهتمامَها الداخلَ الأمريكيّ، وإصلاحَ منظومة شرق أوروبا. آنذاك، ذهب الرئيس كلينتون نحو المفاوضات، ونحو السعي إلى الإصلاح الاقتصاديّ الداخليّ لأمريكا؛ ما أعطى الحركاتِ الإسلاميّةَ فرصةً لتنظيم صفوفها والتحرّكِ بمرونةٍ أعلى. في لبنان، استطاعت المقاومةُ الإسلاميّةُ إخراجَ العدوّ الصهيونيّ من أرضها. وفي فلسطين، اندلعتْ أعمالُ مقاومةٍ غيرُ منظّمة، قادتْها حركتا الجهاد الإسلاميّ وحماس. أمّا تنظيمُ القاعدة فشهد في تلك المرحلة نوعًا من المساكنة عاشها زعيمُها (أسامة بن لادن) في السودان مع الغرب بشكلٍ عامّ، ودامت ما بين عاميْ 1994 و1998. ولم تستيقظْ أمريكا على "الإرهاب الإسلاميّ" إلّا بُعيْد قيام "القاعدة" بضرب مجموعةٍ من السفارات الأمريكيّة سنة 1998.[4] في الفترة نفسها، في البوسنة، توحّد المالُ السعوديّ مع التسهيلات التركيّة لنصرة المسلمين في حربهم ضدّ آلة القتل الروسيّة.

مع نهاية حكم كلينتون، ووقوعِ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بدا أنّ بوش الابن سيُكمل ما ابتدأه الأب، فذهب إلى المواجهة المباشرة: بغزو العراق وأفغانستان، والبدءِ بضرب "رأس مواجهي الغرب،" فقضى على حركة طالبان وحاصر إيرانَ. غير أنّ الولايات المتّحدة ما لبثت أن عاشت حربَ استنزافٍ في العراق، ما أخرجها مُنهَكةً اقتصاديًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا. وكان أن اندفعتْ نحو الحلّ الجديد: "علمنة الإسلام."

 

اهتمّت القوى الكبرى خلال الحرب الباردة بالإسلام السياسيّ باعتباره خطرًا قد يؤثّر في نتائج الحرب

 

هنا، يبدو من الأهمّيّة بمكانٍ ذكرُ كتاب الإسلام الديمقراطيّ المدنيّ، الذي قدّمته شيريل بينارد ورقةً أوّليّةً إلى مركز راند سنة 2003، وسرعان ما اعتَمدتْ دوائرُ القرار الأمريكيّ العديدَ من نقاطها ركائزَ للعمل، قبل أن تعيدَ بينارد نشرَ النقاط في كتابٍ مفصّلٍ يحمل العنوانَ نفسَه، لتجد هذه النقاطُ سبيلَها إلى الواقع منذ بداية عهد أوباما. وقد قامت بينارد بتقسيم الإسلام إلى أربع مراتب:

1- الأصولية: وهي المرتبة الأدنى والأبعد، ويندرج تحتها كلُّ المتمسّكين بأصول الدين والملتزمين بالنصّ الدينيّ. وتُعتبر هذه الفئةُ الأخطرَ على الغرب لتمسّكها ببناء سلطةٍ تخضع  لقوانين الشريعة وتجعل بناءَ الدولة جزءًا من مهمّة الدين. وقد وضع الغربُ إيرانَ والسعوديّةَ في هذه المرتبة لناحية سعي الطرفيْن إلى تحكيم الشرع أو الشريعة الإسلاميّة.

2 - التقليديّون: وهم فئة محافظة، قريبة من الأصوليّة على المستوى القيميّ، ولكنّها أقلُّ حدّةً في التعاطي مع الغرب. نشهد هذه الفئةَ عند الإخوان المسلمين؛ فهم شموليّون يسعون إلى بناء دولة الإسلام، ولكنّهم يُناورون للبقاء في الحكم، ولجذب الناس إليهم.

3 - الحداثويّون: وهم الذين يسعوْن إلى بناء إسلامٍ ينسجم مع الحداثة الغربيّة عبر تأويل حداثويّ للقرآن والحديث.

4 - الإسلاميّون العلمانيّون: وهم الفئة الساعية إلى فصل الدين عن الدولة وجعل الإسلام جملةً من الطقوس والعبادات التي تُقام في المساجد لا غير.

ترافق إسهامُ بينارد وصعودُ "جماعة العدالة والتنمية" في تركيا إلى سدّة الحكم سنة 2002. لم يتوجّس الغربُ من تركيا كنموذج "علمانيّ ــ إسلاميّ" يمكن تعميمُه ونمذجتُه في العالم الإسلاميّ. كانت الولايات المتحدة آنذاك تعتبر الإسلاميين الأتراك جماعةً معتدلة، فلم تعترض على وصولهم إلى سدّة الحكم. كان ذلك يزداد وضوحًا مع الوقت وهو ما تجلّى  في ثنايا خطاب أوباما في القاهرة سنة 2009.[5]

أمّا في العراق، ومع خروج القوّات الأمريكيّة منه وتقارُبِ الأصوليّين والتقليديّين (من خلال دخول إيّاد السامرّائي والحزب الإسلاميّ ــ الإخوان المسلمين العراقيين  ــ الانتخابات، وفوزه برئاسة البرلمان)، لم يكن للولايات المتحدة، كما تقول بينارد، غيرُ إعادة استنبات الخلاف بين جملة هذه الأطراف، بدعمٍ وتوظيفٍ من قوًى إقليميّة.

تشكّل الأزمةُ السوريّة، في وجهٍ من وجوهها، معركة يتقاتل فيها الأصوليّون والتقليديّون أشدّ القتال. في بيئة المعارضة، على سبيل المثال، تمّت تصفيةُ تنظيم "أحرار الشام،" ذي الخلفيّة الإخوانيّة "المرنة،" لصالح تنظيماتٍ أكثر خطرًا، مثل تنظيم الدولة الإسلاميّة.  وهذا ما تطمح إليه أمريكا من أجل إضعاف الطرفيْن وإظهارهما بأبشع الصور الوحشيّة والدمويّة، "ما يولّد حالةَ نفورٍ عامّ ستؤدّي إمّا للإلحاد أو الحداثويّة ــ المنصبّتين في العلمنة الليبيراليّة."[6] وهذا ما أدّى بدوره إلى يأس الشارع الإسلاميّ من قيام الدولة الإسلاميّة العادلة التي تَحلّ مشاكلَ الحياة، وإلى اعتباره الأطراف الإسلاميّة محضَ متصارعين على السلطة. وفي المقابل، خاض التقليديّون تجربةً فاشلةً في مصر بعد وصولهم التاريخيّ إلى الحكم، وهذا ما أضعف وصول الإسلاميّين مرةً أخرى.

على مستوى الحداثيّين و"الإسلاميين العلمانيّين،" سعت الولايات المتحدة، بحسب بينارد، إلى تقويتهم عبر بناء منابرَ وقنواتٍ ومراكزِ دراساتٍ ودُور نشر. كان سعيُ الإدارة الأمريكيّة إلى جعل الشعوب المسلمة متعاطفةً معها، ومنجذبةً إليها، وتحديدًا إلى العناوين البرّاقة غير الموجودة ــ في زعم الولايات المتحدة ــ في الإسلام الأصوليّ أو التقليديّ: كحقوق المرأة والأقلّيّات، وحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، والكثير من القضايا المفسَّرة "عبر المرجعيّة الغربيّة" لأصول الدين وأحكامه.

المفارقة أنّ مثلَ هذه العناوين وجدتْ ضالّتَها، بالنسبة إلى الغرب، في الفكر الصوفيّ،[7] وهو أكثرُ تيّار إسلاميّ ينسجم مع السياسات الغربيّة وأهدافها بحسب معدّة التقرير في مؤسسة راند. تعزو بينارد "تفهّمَها" للتصوّف بسبب انشغاله "بالعبادات ومخالفة النفس." فهل تكون الخطوةُ القادمة هي نشرَ فكر هذا التيّار، كخطوة أوّليّة للانتقال بعدها إلى العلمنة الليبيراليّة؟ وهل سيستطيع الغربُ النجاحَ في هذه الخطوة؟ وهل الفكر الصوفيُّ المتقوقعُ أكثرَ قوةً وحماسة وإلهامًا من الأصوليّة والتقليديّة الساعية إلى بناء "حكم" الله على الأرض؟ أمْ أنّ هذه الصورة تعبّر عن عجز الغرب عن إيجاد حلول سياسيّة من داخل الإسلام السياسيّ؟

إنّ فشل الغرب في هذه المرحلة من الصراع الإسلاميّ ــ الغربيّ قد يعني وقوعَ المنطقة في يد أحد الأطراف التقليديّة أو الأصوليّة. وهذا ما لا تُحمد عقباه على مستقبل المشروع الغربيّ في المنطقة، كما على شعوب منطقتنا ودولها أولًا وآخرًا. ونجاحه قد يعني أفولَ نجم الإسلام السياسيّ، بشكله التقليديّ، إلى غير رجعة.

 

صيدا

 


[1]  وهذه هي الدولة الثالثة للدعوة السعوديّة الوهابيّة.

[2] الجزء الشماليّ من إيران كان تحت السيطرة الروسيّة أواخرَ الدولة القاجاريّة، وفي عهد الشاه الجدّ للمخلوع محمد رضى بهلوي.

[3] يشكّل موقعُ إيران الجغرافيّ نقطةَ ارتكاز مهمّة في السوق الآسيويّة، نظرًا إلى وقوعها على بوّابة خطّ التجارة البرّيّ عالميًّا. يضاف إلى ذلك امتدادُها من فم الخليج، الغنيّ بالنفط، حتّى مضيقه في هرمز.

[4] مثل تفجير السفارات الأمريكيّة في نيروبي ودار السلام.

[5]  جاء في خطاب أوباما: "لقد أتيتُ إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلاميّ، استنادًا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهي بداية مبنيّة على حقيقة أنّ أميركا والإسلام لا يعارضان بعضُهما البعض، ولا داعي أبدًا للتنافس فيما بينهما، بل إنّ لهما قواسمَ ومبادئَ مشتركة يلتقيان عبرها... ومن منطلق تجربتي الشخصيّة أستمدّ اعتقادي بأنّ الشراكة بين أميركا والإسلام يجب أن تستند إلى حقيقة الإسلام، وليس إلى ما هو غير إسلاميّ. وأرى في ذلك جزءًا من مسؤوليّتي كرئيس للولايات المتحدة حتى أتصدّى للصور النمطيّة السلبيّة عن الإسلام أينما ظهرتْ." https://bit.ly/2Jhlt7m

[6] شيرل بينارد، توصيات ختاميّة.

[7] تقول بينارد في معرض استقرائها للاتجاهات الصوفيّة: "ينبغي دعمُ التأثير الصوفيّ في المدارس والمقرَّرات التعليميّة والمعايير الاجتماعيّة والأخلاقيّة والحياة الثقافيّة... ومن خلال الشعر والموسيقى والفلسفة، الذي يتفرّد بها التصوّفُ، يستطيع التقليدُ [الصوفيّ] والممارسةً الصوفيّة القيامَ بدور الجسر الذي ينقل هذه المجتمعاتِ خارج نطاق التأثيرات الدينيّة..."  راجع: شيرل بينارد، الإسلام الديمقراطيّ المدنيّ، ترجمة ابراهيم عوض (القاهرة: سلسلة تقارير مؤسّسة راند، الإسلام الديمقراطي المدني، 2013)، ص 90.

حسين شحيمي

كاتب ورياضيّ. مهتم بقضايا الحركة الإسلاميّة.