المثقف المغربيّ ورهانات "التحوّل الديمقراطيّ" (1)
04-05-2016

في 15 نيسان (أبريل) أجرت مجلةُ الآداب، ممثّلةً بمراسلها د. عبد الحقّ لبيض، ومركزُ أجيال 21 للثقافة والمواطنة، ممثلةً بمديرها  الأستاذ عبد الغني عارف، ندوةً حواريّةً في المكتبة الوسائطيّة في المحمّدية (المغرب)، شارك فيها 5 باحثين مغاربة: د. زهور كرام، د. عبد الحميد الجماهري، د. عبد العالي مستور، د. مصطفى بوعزيز، د. سمير أبو القاسم. وقد ارتأينا نشر مجريات الندوة على قسمين، تبعًا لانقسامها إلى محوريْن، على أن يُنشر المحورُ الثاني بعد أيّام معدودة. هنا المحور الأول، وقد أداره د. عبد العزيز كوكاس.

عبد الغني عارف: أرحّبُ بالحضور في هذه الندوة الحواريّة، وأعتبرُ حضورَكم دعمًا لمشروع المثقف المغربيّ في تحقيق التغيير. نحن، في مركز أجيال 21، نعتزّ بهذه المبادرة، خصوصًا أنّها تأتي بالتنسيق مع مجلة الآداب، تلك المؤسّسةِ الفكريّة المناضلة التي قدّمت الكثيرَ للثقافة العربيّة التقدميّة والحداثيّة. وأن تكون لنا اليوم فرصةُ التنسيق مع هذه المجلة العريقة، فهذا مكسبٌ لثقافتنا الوطنيّة، وترسيخٌ للعمق الحضاريّ لثقافتنا في مجالها العربيّ. ولا بدّ هنا من شكر د. عبد الحقّ لبيض، ممثّل المجلة منذ أكثر من عقد في المغرب، على تلقائيّته في عمليّة التنسيق وحرصِه على إنجاح هذه المبادرة.

عبد الغني عارف: مدير مركز أجيال 21 للثقافة والمواطنة

لقد ارتأينا أن تكون هذه الندوة حواريّةً وتفاعليّةً، بعيدةً عن الأوراق الجاهزة، لما للبعد الحواريّ من أهمّيّةٍ في توليد الأفكار والمواقف وتعميقِ النقاش حولها. وموضوعُ ندوتنا لا بدّ من مقاربته في إطار نقاشٍ عموميّ يعيد الاعتبارَ إلى دور المثقف من خلال إثارة أسئلة من نوع: ماذا يعني أن يكون المرءُ "مثقفًا" في مغرب اليوم؟ هل يمارس المثقفُ المغربيّ كينونتَه الثقافيّة اليوم كما يريد، باعتباره ذاتًا مستقلةً عن الإكراهات المسبّقة؟ وما هي المطالب التي يطلبها المجتمعُ المغربيّ اليوم من المثقف؟

أرحّب بالدكتورة زهور كرام، الأكاديميّة والمبدعة؛ وبالسيّد عبد الحميد الجماهري، المبدع والمفكّر ورجلِ الإعلام الفذّ؛ وبالأستاذ عبد العالي مستور، الناشط المدنيّ المتميّز؛ والأستاذ المؤرّخ والمناضل اليساريّ المعروف مصطفى بوعزيز؛ والأستاذ سمير أبو القاسم، المناضل والكاتب. وأترك الكلمة الآن للأستاذ عبد العزيز كوكاس الذي سيتولّى، مشكورًا، تسييرَ الجزء الأول من الندوة، على أن يتولّى الأستاذ لبيض الإشرافَ على تسيير الجزء الثاني.

 

المحور الأول: ما معنى أن تكون مثقفًا مغربيًّا اليوم؟ سؤال الهويّة

عبد العزيز كوكاس: شكرًا للأستاذ عارف على تقديمه، وشكرًا لـ الآداب ولمركز أجيال 21 على مبادرتهما الطيّبة. ونبدأ بالاستماع إلى مداخلة صديقنا عبد الحميد جماهري.

عبد الحميد جماهري: عند الحديث عن المثقف في مغرب اليوم، نستحضر تاريخًا اتّسم بميسم التقاطعات: تقاطُع السلفيّة وأحلام الدولة الوطنيّة في بدايات تبرعمها، وتقاطُع الشيخ الجليل والعالم العارف بالمثقف الجمعيّ والعضويّ ذي المرجعيّة المختلفة. ومع ذلك كانت المهامّ واضحة. أما اليوم، فإنّنا نتموضع في سياق تجارب جديدة، واشتراطات تاريخيّة مستجدّة.

عبدالحميد جماهري: شاعر، رئيس تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكيّ.

تاريخيًّا، سعت النُّخَب المثقفة في المغرب إلى تقديم مشاريعها حول مفاهيم الدولة الوطنيّة والحريّة والتقدّم ـــ وهي مفاهيمُ ما تزال تطرح راهنيّتَها على المثقف المغربيّ اليوم، وعليه أن يعمّق التأمّلَ فيها، وأن يحسّسَ بأهميّتها المجتمعَ والدولةَ معًا. إضافةً إلى ذلك، لا بدّ للمثقف المغربيّ ـــ إنْ أراد أن يكون فاعلًا في محيطه ـــ من أن يضيف إلى سلّم اهتماماته مفاهيمَ كونيّةً: كمفهوم الحداثة، ومفهوم حقوق الإنسان بتشكّله الواسع (سواء الحقوق المدنيّة أو اللغويّة أو الإثنيّة أو الفرديّة...). وعليه، أيضًا، كما يقول دولوز، أن يكون قادرًا على تفكيك الخطابات الجديدة. ناهيك بواجبه في مواجهة الأسئلة المباشرة المتعلّقة بطبيعة الدولة المغربيّة. ومن أولويّات المثقف المغربيّ راهنًا كذلك:

- تفكيك الهيمنات الكبرى في المجتمع، ومنها : الهيمنة المجتمعيّة والسياسيّة والفكريّة والإعلاميّة؛ وأن يفكّك، أيضًا، كما فعل بيير بورديو، أذرعَها المتنوّعة: التلفزيون والسينما والصحافة المكتوبة والمسموعة.

- تفكيك خطاب الهيمنة الأصوليّة على المجتمع من أجل ترشيد المجتمع نحو إعادة بناء قواعد التعايش المشترك على أسس ثقافة الاختلاف والتسامح.

- إعادة تغذية التمايز السوسيو ثقافيّ داخل المجتمع المغربيّ بسبب ظاهرة التمييع على كافّة المستويات، ومنها مستوياتُ الأفكار والمواقف والبنيات والمؤسّسات، حتى لا نسقط في الإطلاقيّة والتعميم.

وفي الختام، أودّ أن أشير إلى مفهومٍ لمّاحٍ للراحل إدوارد سعيد، يمكنه أن يفيدَنا في تحديد هويّة المثقف المغربيّ، وهو أنّ المثقف ليس رجلَ توافقاتٍ أو مسالماتٍ لأنّه بذلك يتخلّى عن دوره الأساس في تفكيك بنيات الهيمنة. على المثقف المغربيّ اليوم أن يكون ضدّ التوافقات الكبرى التي قد تخلق لنا "الاستقرارَ" فعلًا، لكنه استقرارٌ في صالح الفئات المهيمنة ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.

عبدالعزيز كوكاس: كاتب صحفي، رئيس تحرير جريدة المشعل.

 

كوكاس: الاستقرار آفةُ الأمم؛ فمهما بدا ناصعًا كخطابٍ للمهادنة، فإنّه يَحمل بين طيّاته صواعقَ تاريخيّةً قويّة. في كلّ الأحوال، لا تخلو مرحلةٌ من تاريخ البشر من حضور المثقف باعتباره ذاتًا منظِّمةً للوجود البشريّ، وخالقةً لتوازن الأمم الحضاريّ. فكيف ينظّم المثقفُ المغربيّ الوجود البشريّ للمغاربة؟ وكيف يخلق لنا التوازنَ الحضاري الذي ننشده منذ عصور؟

عبد العالي مستور: هذه الندوة، بحجم المشاركين فيها والمتتبّعين لأشغالها، تسهم إلى حدّ بعيد في تنسيب المقولة التي تدّعي "غيابَ المثقف" عن ساحة الفعل و"إحجامَ الجمهور" عن العمل الثقافيّ.

 

   مستور عبدالعالي: فاعل مدني، رئيس منتدى المواطنة.

أعتقد بدايةً أنّ التشاؤم ليس صفةً حميدةً في المثقف؛ كما أنّ التفاؤلَ المفرط ليس مطلبًا عقلانيًّا بالنسبة إليه. ويبقى الأهمّ هو المنجَز الثقافيّ للمثقف، الذي يسعى من خلاله إلى إحداث التغيير المنشود في الواقع. فالمثقف، من منظوري كفاعلٍ مدنيّ، هو المالكُ لمجموعةٍ من القدرات التي تسمح له بفهم الوجود الإنسانيّ وتحليله، ومن ثمّ تأطيرِه لغاياتٍ إنسانيّة. إنّ مؤشّر النجاح في أيّة أطروحة ثقافيّة يكمن في قدرتها على حمل الإنسان على فهم الظواهر واستكناهِ معانيها. هذه صفة لازمة للمثقف، لا يمكنه التحرّرُ منها تحت أيّ طائل.

لكنْ تبقى أهمُّ سمةٍ تميّز المثقف، وهي كونُه خالقَ معادلات. لا يمكن أن ينحصر دورُ المثقف في تقديم الإحصائيّات والظواهر المتحققة في أرض الواقع، بل هو معنيّ بأن يبني عليها معادلاتٍ جديدة. فأنا في المغرب، مثلًا، لا أحتاج إلى مثقف يردّد على مسامعي أنّنا نعيش تنوّعًا ثقافيًّا ولغويًّا (أمازيغيًّا وعربيًّا وأندلسيًّا...)، وإنما أحتاجُ إلى مثقفٍ يهديني إلى معادلةٍ نستطيع من خلالها تدبيرَ هذا التنوّع، بحيث لا يكون فتيلَ صراعٍ فئويّ، بل قوّة ديناميّة مجتمعيّة تسهم في الخلق والإبداع.

وللإنصاف نذْكر أنّ المثقف المغربيّ كان دائمًا حاضرًا في بناء المعادلات، على الأقلّ منذ أواخر القرن التاسع عشر. فلئن كان ما طرحه علّال الفاسي ومحمد بلحسن الوزّاني وبنبركة وعبد الرحيم بوعبيد مجرّدَ معادلاتٍ رُكّب ضمنها العديدُ من المفردات والأرقام الوطنيّة، فإنّ ما أبدعه الجابري والعروي والحبابي وغيرُهم كان بمثابة المعادلات التي تقترح علينا سبلَ التحرّر من التخلّف. واليوم، نعتقد أنّ المعادلات التي يمكن أن يصوغها المثقف هي تلك التي تهمّ بناءَ منظوماتٍ وطنيّة للعيش المشترك، ومنظوماتٍ دوليّة من أجل العيش الإنسانيّ المشترك.

 

كوكاس: أستاذة زهور كرام، مَن هو المثقف عندك؟

  زهور كرام: أستاذة جامعية، ناقدة، روائيّة.

كرّام: أرى، بدايةً، أنّ صيغة الندوة تصوّر المثقفَ ذاتًا يُفترض أن تُنتج خطابَ التحوّل، أو تنتج، على الأقلّ، التصوّرات والإستراتيجيات الدافعة نحو إحداث التحوّل. لكنّني أظنّ أنّنا يجب أن نفكّر، كما جاء في المداخلتين السابقتين، في ماهيّة المثقف المغربيّ باعتبار المطالب التي تطاردُه. وأسوق أمامكم مثالًا على ذلك من منطلق ندوتنا اليوم: فمنذ أن أُعلن عنها توالت التعليقاتُ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فوجدتُ أنّ غالبيّتها صبّت في تناول سلبيّة المثقف وصمته وانعزاله عن الواقع المعيش، واكتفائه بأسئلته الشخصيّة وهمومه الذاتيّة؛ وحين يصبح "فاعلًا" فإنّه، كما زُعم، يكون صوتًا لأجندةٍ غريبةٍ عن جسم الثقافة نفسها.

إنّ ما تنتجه وسائلُ التواصل الاجتماعيّ من مواقف لا يمكن التعاملُ معها كأنّها محضُ انطباعاتٍ شخصيّة، بل يجب اعتبارُها علامةً فارقةً ستدفع بالنقاش العموميّ إلى إعادة التفكير في وضعيّة المثقف الجديدة. نحن اليوم في حاجة ماسّة إلى مناقشة المثقف باعتباره موضوعًا منظورًا إليه، لا ذاتًا منتِجةً للخطاب فقط.

عندما يطالب "العامّة" المثقفَ بأن يتكلّم، فمعنى ذلك أنّهم في حاجة إلى مَن ينتج لهم خطابَ الفهم؛ وهذا يعني أنّهم يعتبرون أنّه هو مَن يُنتج هذا الفهمَ ليجلي الغموضَ الذي يكتنف المواقفَ والأحداثَ داخل المجتمع. لكنْ، عن أيّ "فهمٍ" نتحدّث في زمن انفجار المعلومات وتداولها على نطاقٍ واسع؟ هل المثقّف ما يزال يملك المفاتيحَ السحريّة لإنتاج المعرفة المساعدة على الفهم وبناء المعنى؟ أليست سلطته المعرفيّة، ذاتها، اليومَ في الميزان أمام انفتاح الفضاء السمعيّ البصريّ كونيًّا؟

أجل، نحن أمام تحوّل في المعطيات والمدارك ومستويات البثّ والاستقبال، وكلُّها عواملُ مؤثّرة في ماهيّة المثقف المغربيّ. وأهمّ ملامح هذا التأثير هو أنّ المثقف لم يعد وحده القادرَ على إنتاج المعنى والفهم. غير أنّ ذلك لا ينفي الدورَ الجديدَ لهذا المثقف، ويكمن في قدرته على إعادة تنظيم هذا البحر الهائج من المعلومات الذي أربك عمليّةَ الاستقبال وشوّش عليها بشكلٍ كبير. وهذه ليست بالمهمّة السهلة؛ فالمثقف لم يعد باثًّا للمعلومة، بل منظِّمًا لفوضاها، منتقيًا منها الأجودَ والأصلحَ والأقدرَ على خلق نظام الفهم والتأويل. فكيف يمكن أن يحيّن المثقفُ أدواته ليخلق لنا الفهم والمعنى بأدوات معرفيّة قريبة جدًّا من روح الثورة التكنولوجيّة؟

دون هذه المهمة سيظل المثقف، في نظري، تائهًا ومضيِّعًا للبوصلة التي توجّهه نحو التأثير في محيطه الاجتماعيّ.

 

كوكاس: إذن، لم يعد المثقفُ سيّدَ مجاله. فكيف يمكنه أن يبرهن على أحقيّته في الوجود ضمن فوضى المتدخّلين؟!

كرّام: بالفعل، لم يعد المثقف وحده المنتِجَ لخطاب الفهم، وهنا كان مجالَ تعرّضه للاستئساد؛ فقد بات هناك مَن يزاحمُه في هذه الوظيفة، مثل "الخبير" و"الاستشاريّ." المثقف اليوم مرهونٌ إلى هذا المستجدّ، وما عليه إلا أن يعيَ هذه المنافسة حين ينتج خطابَه. أكثر من ذلك: لقد أصبح كلُّ عنصر من عناصر المجتمع مرجعًا مادام قادرًا على إنتاج المعنى ونشرِه بين الناس بواسطة الوسائل التكنولوجيّة الحديثة. وفي واقعنا المغربيّ، نستطيع أن نستدلّ بمجموعةٍ من الأمثلة التي تؤكّد أنّ المجتمع الفايسبوكيّ كان سبّاقًا إلى إنتاج خطاب العدالة الاجتماعيّ، بل ذهب إلى حدود إنتاج خطاب المواجهة أيضًا. نحن هنا لا نقوِّم، بالطبع، القيمة المعرفيّة والعلميّة لهذا الخطاب (أهو خطاب عقلانيّ أم اندفاعيّ مثلًا؟)، وإنما نكتفي بالإقرار بوجود حالةٍ يجب التعاملُ معها حين نروم التفكيرَ في وضعيّة المثقف المغربيّ ومهامّه الراهنة.

كوكاس: هي دعوة لإعادة تأمل الأشياء من حولنا، علّنا نقبض على المتحوّل والمتغيّر. لكنّ للتاريخ سطوتَه في معالجة الكثير من الأمور الحاليّة واستشراف ممكناتها المستقبلية. لقد عشتم، أستاذ مصطفى بوعزيز، مرحلةً كان فيها العدوُّ واضحًا، وهو النظام المخزنيّ في المغرب، وكان المثقفون يصطفّون دومًا داخل أحزاب اليسار والكتل التقدمية. لكنّ التحوّلات التي أصابت العالم شوّشت على المفاهيم والمواقع.  فهل يستطيع مثقف اليوم، وسط زلزال التغيّرات، إنتاجَ خطاب الفهم وفق آليّات التأنّي والاستبطان بحثًا عن "معادلات،" على حدّ قول الأخ عبد العالي؟ أمْ أنّه مطالبٌ بالانحناء لعاصفة التحوّلات والدخول في جوقة المطبّعين مع الزمن العولميّ الجديد؟ أم نقول مع ميشيل فوكو: "لقد أصبحت الذاتُ الحرّة والمثقفُ الكونيّ غيرَ قادريْن على توجيهنا"؟

مصطفى بوعزيز: في الندوة مستويان: الأول يتعلّق بهويّة المثقّف اليوم؛ والثاني مرتبط بدوره في بناء التحول الديمقراطيّ ـــ وهذا في اعتقادي موضوعٌ آخر.

مصطفى بوعزيز: مؤرخ، مدير مجلة زمان.

أولًا: عندما نتحدّث عن المثقف، فإنّنا لا نخرج عن سياق كونه ذلك الإنسانَ الاستثنائيَّ القادرَ على إنتاج المعنى وسط الغموض. وقد شكّل "المثقف" في المغرب، دومًا، نخبةً من بين نخبٍ عديدة، وكان ضمن النخبة التي تمتلك مهاراتٍ وكفاءاتٍ في إطار اشتغالها.

ثانيًا: ما الوقْعُ الذي يُحْدثه المثقفُ داخل المجتمع بالنظر إلى المهمّة أعلاه؟ عند استقراء تاريخ المغرب الحديث، نجد العديدَ من المثقفين الكبار الذي أنتجوا أفكارًا ومعانيَ عظيمة، لكنّهم لم يُحْدثوا الأثرَ البيّنَ في عصرهم. والسبب هو أنّ عملهم ظلّ رهينًا باشتراطات الفعل في لحظةٍ تاريخيّةٍ محدّدة، وضمن سياق صراع النخَب، الذي أثمر هيمنة نخبةٍ معيّنةٍ عمدتْ إلى إقصاء الآخرين، وإلى تمكين أطرافٍ لا تنتمي إلى النخبة الثقافيّة كي تروّج تصوّراتها الاجتماعيّة والفكريّة.

المثقف المغربيّ، كشقيقه المثقف العربيّ، ظلّ سجينَ "سؤال النهضة" الذي فرضتْه صدمةُ الحداثة الغربيّة التي لا يزال يعيش على وقعها. هذه الصدمة عرّضت الأنتلجنسيا المغربيّةَ، بمختلف أطيافها، لـ "هرْسٍ" لم يُجبَر حتى الآن، فردّت من خلال حركتين أساسيّتين: 1) هويّاتيّة، نادت بالحفاظ على الهويّة من الغزو الأجنبيّ، مدّعيةً أن المجتمع المغربيّ مهدّد في عقيدته ووجدانه وثقافته ووجوده كلّه، رافضةً الحداثة بعلمها وهيمنتها السياسيّة وحركتِها الاستعماريّة وتقنيّاتها؛ و2) استنساخيّة، قالت إنّ الحداثة الغربيّة هي النموذجُ الأمثل الذي يجب الأخذُ به وإنباتُه في التربة المغربيّة. وأمام هاتين الحركتين كنّا دومًا إزاء الفشل في ابتكار الحداثة المغربيّة الأصيلة.

 

كوكاس: لكنّ الساحة الثقافيّة المغربيّة، وبالتحديد  في الفترة التي ذكرتم، عَرفتْ تيّارًا ثالثا حاول التعبيرَ عن قدرة المغرب على إنتاج حداثةٍ ذاتِ خصوصيّة مغربيّة؟

بوعزيز: بالفعل. وقد تمثّل هذا التيّار في مشروع دستور 1908، لكنّ هذه التجربة أخفقتْ في تأسيس "سرديّة كبرى،" هي الحداثة المغربيّة. وهكذا ظللنا نراوح مكاننا، وظلّ المثقفُ المغربيّ عاجزًا عن إيجاد البوصلة التي يهتدي بها المجتمعُ نحو بناء تلك الحداثة. ومنذ ما سمّي "الربيع العربيّ،" طُرحتْ قضايا ثلاث أساسيّة كان المثقف فيها كذلك غائبًا أو متردّدًا أو حاضرًا بارتباك:

1) القضيّة الأولى هي قضيّة شرعيّة النظام السياسيّ، بين الشرعيّة الشعبيّة الديمقراطيّة والشرعيّة الملكيّة التاريخيّة الدينيّة. نقاشُ المثقفين المغاربة، الدستوريّ والفكريّ، في هذه القضيّة كان غائبًا، ففوّتوا على أنفسهم فرصةً تاريخيّةً كان النقاشُ فيها حول هذا الموضوع ممكنًا. ولم يستطع المثقفون أن يقولوا بصوتٍ عالٍ إنّ دستور 2011 غير ديمقراطيّ لأنّه كرّس هيمنة الشرعيّة الثانية على الشرعيّة الأولى (باعتبار الشعب مصدرَ السلطات).

2) القضيّة الثانية هي قضيّة العلمانيّة، التي أتيح النقاشُ حولها أثناء إعداد دستور 2011. فقد بادرتْ مجموعةٌ من الفاعلين إلى اقتراح صيغة دستوريّة جديدة لتدبير الشأن الدينيّ والعقديّ في المغرب كالآتي: استبدال عبارة "المغرب دولة إسلاميّة " بـ "المغرب بلد مسلم، تلتزم فيه الدولةُ بحريّة الاعتقاد وحريّة التديّن وحريّة ممارسة الشعائر الدينيّة."هذه الجملة التقطتها لجنةُ صياغة الدستور وقدّمتْها مقترحًا في الصياغة الأولى للدستور، فأشعلتْ نارَ الاحتجاج، إلى حدّ أن نشرتْ صحيفة الأسبوع السياسيّ عنوانًا عريضًا كتبتْ فيه "انّ اليد التي كتبتْ هذه الجملة يجب أن تُقطع." وبالفعل، سقطت الجملةُ وسَلِمَتِ اليدُ. المثير هنا هو تخاذلُ المثقف وعدمُ مبادرته إلى قيادة النقاش حول هذه المسألة الحيويّة التي يمكنها أن تقطع مع مرحلة التردّد التاريخيّ الذي عاشه المغربُ وما يزال.

3) القضيّة الثالثة هي معركة إصلاح المدرسة، إذ لم يسجَّل فيها حضورُ المثقف بالقوّة المنتظرة، باستثناء الخرجات التي قام بها الأستاذ عبد الله العروي. إنّ غياب صوت المثقف المنتج للمعرفة وللفهم في موضوع إصلاح المدرسة (والجامعة) فوّت علينا النهوضَ بمستلزمات النهضة الحقيقيّة. لقد وقعتْ على المثقف، وما تزال، مسؤوليّةُ الجواب على أسئلة جوهريّة من قبيل: ما هي مهمّة المدرسة الآن ومستقبلًا؟ وهل يتمّ إصلاحُ المدرسة في مركزيّة المعرفة، أمْ في مركزيّة الهويّة؟ لم يستطع المثقف أن يعلي صوته قائلًا إنّنا في حاجة إلى إصلاح التعليم من خلال مركزة المعرفة بأدواتٍ معرفيّة سعيًا، بعد ذلك، إلى إنتاج هويّة المدرسة.

كلُّ هذه المعارك ظل فيها المثقفُ غائبًا. ولذلك سنظلّ نعيش في المنطقة الرماديّة التي لن تتيح لنا رؤيةَ الأمور بالشكل الواضح. وهذا الشكل الواضح هو إنتاج المشترك من أجل العبور إلى الحداثة الحقيقيّة.

 سمير أبو القاسم: فاعل مدنيّ، وكاتب.

سمير أبو القاسم: بدايةً لا بدّ من التشديد على أنّ مفهوم "المثقف" لم يعد وحده السائدَ في الساحة الفكريّة العربيّة للتعبير عن العامل في الشأن العقليّ والميدانيّ، وإنما أصبحتْ تجاورُه وتُنازعه في شرعيّة العمل والاجتهاد والاشتغال مفاهيمُ أخرى مثل "الداعية" و"الخبير" و"المستشار" و"العالِم." ولذلك أعتبرُ أنّ الموضوع ضخم ويحتاج إلى الوقوف عند دلالات كلّ هذه المفاهيم وحصر درجة حضورها في مشهدنا الثقافيّ اليوم. لكنّني، تجاوزًا، أحرصُ على أن تكون وظيفةُ المثقف هي المدخلَ إلى قراءة هويّته. وبناءً عليه أقول إنّ المثقف هو الحامل لمجموعة من القيم والمعتقدات والأخلاق والفلسفات، وكلُّها صورٌ تجريديّةٌ ذهنيّة لا تأخذ طابعَها العمليّ إلا إذا تبلورتْ على أرض الواقع من خلال المواقف والممارسات والسلوكات.

أعتقد أنّ للمثقف مهمّتين مركزيّتين. الأولى هي رصدُ التحوّلات الجوهريّة التي يمرّ بها المجتمعُ (الأسرة، المدرسة،...)، ومؤسّساتُ الدولة، منذ الاستقلال (سنة 1956)، بالقدر الكافي الذي يجعلنا نبني مواقفَ سليمةً. والمهمّة الثانية هي مساهمته في التغيير من منطلق تشبّثه بالمنطلقات الثقافيّة التي ينتمي إليها، ومن منطلق الانفتاح على ما يقع في العالم من تجاربَ وتحوّلات. وانطلاقا من هاتين المهمّتين، نستطيع أن نحدد للمثقف ثلاثة أدوار أساسيّة: 1) أن يستوعب ثقافته بشكل جيّد، وأن يكون له موقف من القضايا الشائكة والمصيريّة في مجتمعه؛ كأن يخوض في مناقشة المسألة الدينيّة ومناهج التفكير الدينيّ. 2) أن يهتمّ بثقافة مجتمعه، وأن ينهض بها على مستوى التحسيس والتوعية، مرسّخًا قيمَ ثقافة حقوق الإنسان، وثقافة المواطنة بأبعادها العلائقيّة ما بين الفرد والجماعة ومؤسسات الدولة. 3) أن ينفتح على ما يقع في العالم من تجارب، فيَستهلم البعد الإيجابيّ في الثقافات الأخرى، ثمّ يُجري "عمليّة تنقيح" لتفادي عوامل الانهزام الداخليّ من جهة ومتغيّرات "الغزو الخارجيّ" من جهة ثانية.

لقراءة الجزء الثاني اضغط هنا.

الدار البيضاء

عبد الحقّ لَبيض

أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة