المثقّفون العرب والتغيير (ندوة)
18-03-2018

 

أدارها: عبد الحقّ لبيض (مراسل الآداب في المغرب)، وشارك فيها (ألفبائيًّا): إيّاد البرغوتي (فلسطين)، جمال بندحمان (المغرب)، الزبير عروس (الجزائر)، عبد الرزاق العياري (تونس)، محمد المخلافي (اليمن).

 

عبد الحقّ لبيض: يعاني العالمُ العربيّ غيابًا لتصوّرٍ شاملٍ ومتماسكٍ يستطيع أن يُخرج الإنسانَ العربيّ من الواقع المتردّي. وهو ما يجعل من الدعوة إلى بناء مشروعٍ نهضويّ تجديديّ فريضةً على كلّ مفكّرٍ وفاعلٍ في معترك الحياة العربيّة.

رُبّ قائل إنّ "الخزانة" العربيّة ملأى بالرؤى الإصلاحيّة منذ القرن التاسع عشر. وهي، في عموميّتها، مبادراتٌ شخصيّة، لم تتبلور في سياق تيّارٍ فكريّ عامّ يؤسِّس لمدرسةٍ إصلاحيّة ذات امتداد داخل المجتمعات العربيّة. وثمّة مبادراتٌ تقاطرتْ على المشهد العربيّ بعد أحداث 11 أيلول، وما أعقبها من هزّاتٍ عنيفة مسّت بنيانَ الدولة الوطنيّة، ومنها:

ــــ المبادرات الخارجيّة. وقد تمثّلت في مبادرة "الشرق الأوسط الجديد" مع المحافظين الأميركيين الجدد سنة 2002؛ ثمّ المبادرات الأوروبيّة (2003) مع الطرح الذي قدّمه "المعهدُ الألمانيّ للسياسات الدوليّة والأمن الدوليّ" لدراسة تغيّر النخبة العربيّة، والمبادرة الثلاثيّة للإصلاح بين توني بلير وجاك شيراك وجيرهارد شرودر.

ــــ المبادرات الداخليّة، الرسميّة وشبه الرسميّة والمدنيّة "المستقلّة،" التي خاضت في أسئلة التغيير الديمقراطيّ، وما يستوجبه من إصلاحٍ شامل. ومن هذه المبادرات: مبادرةُ السعوديّة التي دعت إلى تبنّي ميثاق عربيّ جديد يراهن على حماية المصالح العربيّة المشروعة ودعم العمل العربيّ المشترك والعمل على بناء مشروع الإصلاح الذاتيّ؛ والمبادرة المصريّة التي ركّزتْ على الجانبين الاقتصاديّ والأمنيّ؛ والمبادرة اليمنيّة؛ والمبادرة القطريّة. إضافةً إلى مبادرات انطلقتْ من تكتّلات سياسيّة، مثل مبادرة الجامعة العربيّة التي صاغها عمرو موسى حينها كأمين عامّ للجامعة العربيّة؛ أو تكتّلات ثقافيّة مثل: وثيقة الإسكندريّة (مارس 2004)، وإعلان الدوحة للإصلاح (يونيو 2004)، ومبادرة المنتدى الاستراتيجيّ العربيّ (ديسمبر 2004)، ووثيقة بيروت حول الاستقلال الثاني (مارس 2004)، ومبادرة ابن خلدون للإصلاح والديمقراطيّة ( يونيو 2004)، ومبادرة مركز دراسات الوحدة العربيّة.

فكيف يمكننا الحديث اليوم عن مبادرات جديدة للتغيير في ظلّ هذا الكمّ الهائل من المبادرات؟

 

إيّاد البرغوتي: يتطلّب الوضعُ العربيّ المأزوم منذ أكثر من قرن اجتهاداتٍ متعدّدةً حتى نتمكّن من وضع الإجابات الممكنة. ويجب أن نعيد قراءةَ واقعنا استجابةً للتحدّيات الجديدة التي تتميّز بالتحوّل المتسارع.

ويمكن القول إنّنا، إزاءَ هذا الكمّ الهائل من المبادرات، لا بدّ من أن نكون يقظين. فهي ليست كلّها استجابةً لحاجةٍ داخليّةٍ ملحّة، وإنّما قد تتنازع بعضَها أهدافٌ تسعى إلى الحفاظ على المكتسبات الاقتصاديّة أو الأمنيّة أو الإستراتيجيّة. والتجربة علّمتنا أنّ المبادرات الخارجيّة لا يمكن أن تكون أمينةً على المصالح الحيويّة للأمّة إلّا بمقدار ما يخدم ذلك مصالحَها.

أمّا المبادرات الداخليّة، فيجب أن نقرأها وفق "أسباب النزول." فهي جاءت بعيْد ضربات 11 أيلول 2001، وبعد احتلال العراق وفرضِ الهيمنة الإمبرياليّة الجديدة على جزءٍ كبيرٍ من الوطن العربيّ؛ ما يجعل من غالبيّتَها محضَ "ردّ فعل" على المبادرات الخارجيّة التي "أحرجت" الأنظمةَ العربيّة القائمة وأبانت عن ضرورة إحداث تغييرٍ فيها. وردُّ الفعل، هذا، يضع المبادراتِ الداخليّةَ المذكورة موضعَ الشكّ في مدى تمثّلها لحاجة المواطن العربيّ إلى التغيير الحقيقيّ. وهو ما يشرِّع استيلادَ مبادراتٍ جديدة تبني مشروعَها على أسُس التلاحم مع هموم الإنسان العربيّ وتطلّعاته.

محمد المخلافي: إنّ وضعًا متشابكًا، مثل الوضع العربيّ الراهن، يحتاج إلى كثيرٍ من الجهود الفكريّة الصادقة ومبادرات التغيير المتنوّعة ما دامت استجابةً موضوعيّةً لأسئلة الواقع العربيّ كما قال صديقُنا إيّاد.

اسمحوا لي أن أتوقّف عند المبادرات الخارجيّة، لأشير إلى تشابك حدود "الداخل والخارج" في ظلّ الشروط الكونيّة الجديدة. فيجب ألّا ننسى أنّ الخارج هو الذي رعى، عبر اتفاقيّة سايكس ــــ بيكو، ولادةَ الدولة الوطنيّة [القطْريّة] في العديد من البلدان العربيّة، وسهر على تشكّل نخبها وتوجيهها. لذلك فإنّ أيّ مبادرة لتغيير القائم لا بدّ من أن تستدعي التدخّلَ الأجنبيّ ــ ــ وهذه أقوى معضلة تواجه أيّة مبادرة من هذا النوع. فالمتأمّل لما يحدث في عالمنا العربيّ، خصوصًا بعد "الربيع العربيّ،" يقف على حجم حضور الأجندات الخارجيّة في تحديد مصير المنطقة العربيّة.

والمسؤوليّة الملقاة على المثقف العربيّ اليوم هي الكشف عن خطورة هذه المبادرات وعن تعارضها مع مشروع التغيير العربيّ الذي ينبغي أن تحملَ لواءه النخبةُ المثقّفة والمتنوّرة في العالم العربيّ. فالمشروع الأميركيّ، المسمّى "الشرق الأوسط الجديد،" لم يُسدل عليه الستار، بل يُسهر اليوم على إعادة تشكيل منطقتنا على أسُس جغرافيّة وديموغرافيّة وثقافيّة وإثنيّة جديدة. وإلّا فما معنى أن تدمج فيه دولٌ مثل إيران وتركيا وأفغانستان و"إسرائيل"؟ أليس المبتغى هنا تذويب اللحمة التاريخيّة والثقافيّة للأمّة العربية خدمةً للمشروع الصهيونيّ ــ الأميركيّ؟ أليس ما نعيشه اليوم من احترابٍ طائفيّ ومذهبيّ وإثنيّ غير ناجم عن بنيات المجتمع العربيّ، التي عاشت لسنواتٍ في وئامٍ وسلمٍ اجتماعييْن، بل هو نتيجةٌ للمدخل الثقافيّ الذي أسّس له هذا المشروعُ ورعاه واستدمج داخله مجموعةَ قيمٍ ليبراليّة معولمة؟ إنّ وضعًا كهذا يحثّنا على استصدار مبادرة عربيّة إقليميّة صرفة، ترعى التغييرَ وفق برنامجٍ وطنيٍّ وقوميّ يأخذ بالأسباب التاريخيّة والديمغرافيّة والثقافيّة والسياسيّة للمنطقة.

الزبير عروس: إذا كنا نتحدّث عن دواعي الإصلاح والتغيير في عالمنا العربيّ، فيجب ألّا نربطَها بهجمات 11 أيلول 2001 وحدها؛ ذلك أنّ تلك الدواعي تبدّت منذ القرن التاسع عشر، وازدادت بعد "الاستقلالات الوطنيّة،" خصوصًا أنّ تأسيس الدول العربيّة ارتبط عضويًّا بالتدخّل الأجنبيّ وبأطماعه التوسّعيّة والتحكميّة في مصائر الشعوب العربيّة واستنزاف خيراتها.

الظاهر أنّ المحاولات الإصلاحية التي شهدها الفكرُ العربيّ، وكما أشرتم في تقديمكم، كانت محاولاتٍ فرديّةً لم يُكتب لها أن تنتظم داخل تيّارٍ يضمن لها الديمومةَ والتطوّر. اللافت أنّ أسئلة النهضة ما زالت تفرض نفسَها علينا اليوم، وإن اختلفتْ أدواتُ المقاربة والتحليل. وما نحتاجه، اليوم، هو استعادةُ تلك الروح الإصلاحيّة من أجل إطلاق مبادراتٍ تهدف إلى التغيير، لكنْ بنفَسٍ جديدٍ وبأفقٍ أوسع، يأخذان في الاعتبار المستجدّات الدوليّة والتحوّلات العربيّة العميقة. وأهمّ ما تُمْكن الاستفادةُ منه في تلك التجارب النهضويّة حرصُها على العامل الثقافيّ مدخلًا أساسًا لتحقيق التغيّرات المأمولة ــ ــ وهو ما غاب في مبادرات الإصلاح التي شهدها العالمُ العربيّ منذ 2001، وغلب عليها الجانبان السياسيّ والأمنيّ. والحال أنْ لا تغييرَ في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة العربيّة من دون تغييرٍ ثوريٍّ وجذريّ للعوامل الثقافيّة ومظاهرها.

جمال بندحمان: المبادرات الخارجيّة صعبةُ التطبيق، خصوصًا أنّ النيّة من ورائها لم تكن إحداثَ تغييرٍ حقيقيٍّ في البنى العربيّة وأشكال الحكم، بقدر ما كانت محكومةً بالهاجس الأمنيّ ومحاربة "الإرهاب." وقد جاءت نتيجةً لتقارير قدّمتها مراكزُ البحوث اليمينيّة الأميركية، المرتبطة مباشرةً بفريق الرئيس بوش الابن آنذاك، مثل مؤسّسة "أمريكان أنتربرايز" ومؤسّسة "هيريتاج،" وآخرُ ما يعنيها تحقيقُ الديمقراطية وإشاعة ثقافة الرخاء والتنمية عندنا.

والحقّ أنّ بذور "الإصلاح الديمقراطيّ،" الماثلة في مشروع "الشرق الأوسط الجديد،" كانت قد ظهرتْ في عهد إدارة ريغان، أيْ في بداية الثمانينيّات من القرن العشرين، ولكنها اقتصرتْ على شرق أوروبا وروسيا وأميركا اللاتينيّة. فإذا كان الغرب، حقًّا، مهووسًا بالمسألة الديمقراطية في الأوطان العربيّة، فلماذا لم  يبادرْ منذ ذلك الزمان إلى ممارسة ضغوطه على الأنظمة الديكتاتوريّة، بل استمرّ في رعايتها؟ ولماذا تزامن الترويجُ لهذا المشروع مع حملةٍ أميركيّة مسعورة تُوّجت بحربين ضاريتيْن ضدّ أفغانستان والعراق؟

أمّا المبادرات العربية، بشتّى أشكالها، فقد جاءت كردّ فعلٍ على هذه المبادرات الغربيّة، وخصوصًا الأميركيّة والألمانيّة، واتّسمت في معظمها بالتماهي معها من حيث المنطلقات والأهداف. ولذا اتّسمت بالارتجال، والتسرّع في الإنجاز، والإنشائيّة في الطرح، والبعد عن روح متطلّبات التغيير العربيّة الحقيقيّة.

عبد الرزّاق العياري: لا جدال في أنّ الوضع العربيّ الراهن يحتاج من جميع القوى الحيّة إلى التفكير في طرح مبادرات التغيير وتتبّع مسارات تنفيذها. ويبدو أنّ التجارب المريرة التي مرّت بعالمنا العربيّ جعلتْ حساسيّتَه عاليةً من كلّ تدخّلٍ أجنبيّ. غير أنّ الطليعة المجتمعيّة لم تقارع المبادراتِ الخارجيّة بمبادرةٍ أعمق، وإنّما لجأتْ إلى استصدار مبادراتٍ انفعاليّةٍ ومرتجلة. فامتلأت الساحةُ العربيّة بالمؤتمرات والندوات واللقاءات الماراطونيّة، وأُنفقتْ أموالٌ كثيرةٌ على مراكز الأبحاث من أجل طرح المبادرات، من دون التفكير في آليّات التنفيذ والتتبّع والتقويم، فانتهت تلك المبادرات بعيْد صياغتها ونشرها!

وفي الجهة المقابلة ما زالت مقتضياتُ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" قيد التنفيذ في مجتمعاتنا العربيّة، وكلُّ ما نعيشه اليوم من احترابٍ وفوضى وتقسيمٍ طائفيّ وإثنيّ ومذهبيّ هو نتيجةٌ لمخطّطات هذا المشروع، الذي لم يختفِ باختفاء صانعيه، وإنّما ظلّ فاعلًا تحت مسمَّياتٍ عديدة. لهذه الغاية، غدت الحاجةُ ماسّةً إلى فضاءٍ أوسع وأعمق لإطلاق مشروعٍ للتغيير يشارك فيه المثقّف، وتكون فيه الثقافةُ مدخلًا جوهريًّا.

 

لبيض: انطلاقًا مما ذكره الأستاذ عبد الرزاق، أغتنم فرصة وجودكم هنا لنناقش فكرة التيّار الذي أطلقتم مبادرتَه مؤخّرًا، "مثقّفون من أجل التغيير." فهل الوضع العربيّ، المتخَم بالمبادرات، يحتاج إلى مبادرةٍ جديدةٍ في التغيير، نِسَبُ نجاحها قليلة بحكم اعتمادها على إرادات مثقفين أفراد يحلمون بمجتمعات عربيّة تسير على درب الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة؟

 

البرغوتي: "مثقّفون من أجل التغيير" مبادرة مدنيّة مستقلّة، تسعى إلى طرح مجموعةٍ من مدخلات التغيير في الوطن العربيّ. وهي لا تنفصل عن سياق المبادرات التي تحدّثنا عنها سابقًا، وخصوصًا مبادرة منظّمات حقوق الإنسان، وعن عمل بعض الشبكات في العمل المدنيّ العربيّ، التي شخّصتْ جزءًا من الإشكاليّة الموجودة في العالم العربيّ على أنّها إشكالٌ ثقافيٌّ يتنكّر للحوار، ولا وعي لديه بالتعدّديّة، وغير متشبّع بالطرق المدنيّة لإدارة الاختلاف. وهكذا تبلور الأمرُ في اتجاه عملٍ مدنيّ، تكون منطلقاتُه ثقافيّةً في الأساس. ونسجّل هنا علامةَ تميّزٍ واضحةً لهذه المبادرة عن سابقاتها، التي ركّزتْ على أدواتٍ سياسيّةٍ لمعالجة البؤر المتأزّمة في الوضع العربيّ، فأبانت عن سطحيّةٍ في التعامل مع القضايا الحسّاسة.

 

لبيض: هل ترى، يا أستاذ عبد الرزّاق، أنّ المقاربة السياسيّة للمعضلات التي يرزح تحت نيرها العالمُ العربيّ أضحت متجاوَزةً؟ وهل بالإمكان الجزمُ بأنّ المشكل في العالم العربيّ ثقافيٌّ بامتياز؟ أوَليس الاحترابُ السياسيّ، وغيابُ التدبير الديمقراطيّ للشأن العامّ، وانسدادُ أفق الحريّات العامّة، وتردّي أوضاع المواطن الاقتصاديّة، وسوءُ حقوق الإنسان، هي الدوافع إلى انبعاث المسألة الثقافيّة "لبوسًا" مزيَّفًا يخفي وراءه جسدًا سياسيًّا ممزّقًا ومتعفّنًا بسبب الجروح التاريخيّة العميقة؟

 

عياري: مبادرة "مثقّفون من أجل التغيير" هي انخراطٌ مباشرٌ في الحَراك المدنيّ الذي تشهده المنطقةُ عمومًا. وعندما نقول "الحَراك المدنيّ" فنحن نعني دورَ المجتمع المدنيّ في التغيير، كقوّة ضغطٍ واقتراحٍ، لإحداثِ اختراقٍ في الركود العربيّ.

الجانب الثاني هو أنّ الحراك الاجتماعيّ العربيّ لم تكن الأحزابُ السياسيّة، عمومًا، قادرةً على الاستجابة لانتظاراته.

ومن ناحيةٍ ثالثة، فإنّ المكتسب الحقوقيّ الذي راكمناه كحَراكٍ مدنيٍّ لم نجد له أثرًا في المجتمع، بل ظلّ محصورًا في مستوى النخب.

تأسيسًا على هذه المعطيات الثلاثة، ارتأينا أن تكون "المبادرة" بمثابة تيّارٍ ثقافيٍّ يحاول أن يصل إلى العمق المجتمعيّ، وينفتح على كافّة الفعّاليّات الفكريّة، من أجل خلق كتلةٍ قادرة على لعب دورٍ من خلال البحث واستدعاء القيم الكونيّة المشتركة والعمل على ترسيخ قيم التغيير الإيجابيّ.

عروس: "مثقّفون من أجل التغيير" مبادرة مثقّفين ينتمون إلى حقولٍ معرفيّةٍ وإيديولوجيّة مختلفة، توافقوا على طرح سؤالٍ جوهريٍّ هو: "لماذا نحن على ما نحن عليه من تشرذم؟" وبعد مناقشةٍ متروّية لواقع الحال، وخصوصًا للمشاريع الإيديولوجيّة التي مرّت بها المنطقةُ العربيّة، ارتأينا الإعلانَ عن مبادرةٍ تدعو إلى تأسيس تيّارٍ ثقافيٍّ جديد مقتنع بتعدّد المكوِّنات الثقافية للأمّة، ولكنّه مقتنع ــــ في المقابل ــــ بوحدة أفق هذه الأمّة المستند إلى مرتكزات الديمقراطيّة وثقافة حقوق الإنسان. وبناءً عليه، فإنّ المبادرة جاءت من منطلق "احتواء" كلّ ألوان الطيف لتكون مشروعًا مجتمعيًّا للأمّة، يأخذ في الاعتبار مكوّناتها المتعدّدة على المستوى الثقافيّ والدينيّ واللغويّ، وعلى مستوى التعبير عن الذات في أشكال وفنون ورموز.

لقد دخلنا مرحلةً خطيرة على أساس التقسيم الإثنيّ أو اللغويّ، وما هو آتٍ سيكون أخطرَ على النسيج الاجتماعيّ للمجتمعات العربيّة، إذا لم نبادر إلى اقتراح المقاربات القادرة على فتح باب الحوار حول مسائل الهويّة والعِرق والإثنيّة واللغة، من منطلق الإيمان بالتنوّع الثقافيّ للأمّة وتدبيره وفق الآليّات التي تعلي من شأن المواطنة والمشاركة.

المخلافي: "المبادرة" إطارٌ مرنٌ قادرٌ على استيعاب كلّ صاحب رأيٍ يسعى إلى التغيير من أجل الوصول إلى الدولة المدنيّة، وإشاعةِ ثقافة التسامح، ومواجهةِ مشكلات العنف. فالعنف والتنظيمات الإرهابيّة، اليوم، لا تستهدف الدولةَ أو النشاطَ السياسيّ، وإنّما تحرِّض كذلك على الفنون والآداب وكلّ أشكال الفكر والإبداع. لذلك وجبتْ علينا مواجهةُ هذا التيّار المنغلق والإقصائيّ بتيّارٍ تنويريٍّ منفتحٍ على كلّ التوجّهات الاجتماعيّة والثقافيّة العربيّة.

وما يجب أن يميِّز هذا التيّارَ عن مؤسّسات المجتمع المدنيّ الأخرى هو أنّه ائتلافٌ مؤسّس على الفكرة، لا على بنيةٍ تنظيميّة. وهذا التميّز هو ما سيعطيه إمكانيّةَ التوسّع أفقيًّا ليشمل كلَّ الأطياف المتوافقة على مشروعٍ مؤسَّسٍ على رباط المواطنة.

عروس: المتأمّل للائحة الموقّعين على "المبادرة" سيلاحظ أنّها تجمع فعالياتٍ من أطياف متنوّعة؛ فهناك المفرنس، والمعرّب، والأمازيغيّ، والكرديّ.

البرغوتي: ما يميّز هذه "المبادرة" هو جرأة الطرح؛ ففي اللحظة التي تسير فيها التيّاراتُ الغالبة في المجتمعات العربيّة في اتجاه التقسيم والتشرذم، تأتي هذه المبادرة لتعلي من شأن خطاب الوحدة، ولتقول إنّ ما يجمع بين أطراف هذه الأمّة وشعوبِها أكبرُ ممّا يفرق بينها. هذا الخطاب الوحدويّ هو الذي يشكّل قاعدة انطلاق "المبادرة،" وتسعى من خلاله إلى  إحياء فكرة الوحدة العربيّة من منظورٍ أكثرَ تقدّمًا، يستجيب لتحدّيات المرحلة وأسئلتها الجارحة التي تتأرجح بين مشروعٍ تقسيميٍّ دوليّ ومشروعٍ طائفيٍّ وظلاميّ.

 

لبيض: لكنّ المقاربة الوحدويّة الشموليّة، المتجاوزة للتنويعات التي تزخر بها هذه المجتمعات، هي مقاربة متعالية. فكيف يقارب هذا التيّار سؤالَ الهويّة العربيّة من دون أن يصطدم بتحدّيات هذا الواقع؟

 

البرغوتي: مشكلة الهويّة كانت في ذهن كثيرٍ من المثقّفين الذين انخرطوا في هذا التيّار الثقافيّ القوميّ العربيّ. وظهر أنّ المشكلة التي طرحتم هي من تصدير النظام السياسيّ أكثرَ من كونها حاجةً اجتماعيّة. فقد عاش العالمُ العربيّ بكلّ تنويعاته في وئامٍ لعقودٍ عديدة؛ وأضربُ لكم مثالًا عن فلسطين، التي عشنا فيها لسنواتٍ لم نكن نعرف جارَنا إلى أيّة طائفةٍ أو إثنيّةٍ ينتمي، وإنّما كنّا نعرفه فلسطينيًّا وحسب. لقد استفحل الوضعُ الإثنيّ بفعل التأزّم السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، ووجد طريقَه إلى الفئات الاجتماعيّة التي تعاني انسدادًا في الأفق السياسيّ أو الاقتصاديّ أو تعاني الاحترابَ والتهجيرَ والقتلَ باسم الهويّة الإثنيّة والعرقية.

إنّ المشكل الثقافيّ مزيّفٌ ومفتعل. ثِقْ  بأنّ ما يقارب بين الشعوب العربيّة أكثرُ بكثيرٍ ممّا يباعد بينها. ما نحتاجه هو الانخراط الميدانيّ في تفعيل المقاربة الثقافيّة من خلال إحداث ثورة ثقافيّة تعيد الأمورَ إلى نصابها بمعزلٍ عن المواقف التي تُتّخذ من طرف النخَب السياسيّة. لذلك، فسؤالك، أخي عبد الحق، يؤكّد  أهميّة اشتغال "المبادرة" على المسألة الهويّاتيّة بقصد تحديد الرؤى وتصحيح المسارات والأوضاع في المنطقة العربيّة. ولن يتمّ ذلك إلّا  بنشر ثقافة التسامح والحقّ في الاختلاف وتعايش التنويعات ضمن الوحدة الحاضنة.

 

لبيض:  أعيد السؤال: هل  المدخل الأساس لإقامة مشروعٍ نهضويٍّ عربيّ هو المدخل الثقافيّ؟ هل بإمكانه أن يجيبَ على كلّ التحدّيات التي تواجه الكيانَ العربيّ من محيطه إلى خليجه؟ ألا تؤمنون بأنّ واقع التشرذم العربيّ ليس مردّه المسألة الثقافيّة، على  أهميّتها، وإنّما المسألة السياسيّة والاقتصاديّة؟

 

عروس: شخصيًّا، أؤمن بأنّ التأزّم الحضاريّ الذي توجد فيه الأمّة سببُه الرئيسُ المسألةُ الثقافيّة. العديد من المشاريع التنمويّة التي انطلقتْ في المنطقة جاءت من دون درايةٍ بثقافة هذه المنطقة، فلم تأخذ في الاعتبار قيمَ المنطقة ولا رؤاها ولا واقعَ التنويعات التي تزخر بها، وكانت محكومةً برؤية أحاديّة وشموليّة؛ وهذا ما عجّل في فشلها.

اليوم، نحن مطالبون بإعادة النظر في هذا الواقع من خلال مبادرةٍ تعيد إلى المجتمع حيويّتَه الثقافيّة، وتنوّعَه البنيويّ، ليُسهمَ بكلّ فعّاليّاته وأطيافه في إعادة كتابة تاريخ المنطقة من منطلق رؤيةٍ منفتحةٍ على المتغيّر والمختلف والمتنوّع.

بندحمان: ربّما أوحت لكم كلمةُ "مثقّفون" في عنوان "المبادرة" بالربط الآليّ مع المسألة الثقافيّة في بعدها الأكاديميّ. غير أنّ المقصود بمصطلح "الثقافة" في هذه "المبادرة" أشمل وأعمق. فالحقّ أنّ "المبادرة" تؤمن بأنّ الثقافيّ لا يمكن عزلُه عن السياسيّ، غير أنّها ــــ خلافًا لـ"السياسيّ المحترف" الذي غالبًا ما تُطبَع مبادراتُه بالآنيّة والنفعيّة السريعة ــــ تَستحضر البعدَ الحضاريّ للأمّة، وتدعو، في الآن ذاته، إلى إعادة النظر في ما شاب التصوّرات التي نزلتْ على أرض الواقع من انتقادات. لذلك، فإنّ وثيقة التأسيس تشير إلى أنّ المخاطر الكبرى التي تواجه الأمّة، وإن بدت مفصولةً، فهي في العمق تؤدّي إلى نتيجةٍ واحدة. فالدولة الطائفية، والمشروع الداعشيّ، والنظرات التقسيميّة، هي تحدّياتٌ لا تنفصل عن مخطّطات الاستعمار الجديد أو محاولات الهيمنة وخلق هويّاتٍ وهميّة.

وعليه، فإنّ أيّة مبادرة تغييريّة اليوم مطالبة بمواجهة السؤال الثقافيّ الكبير، ألا وهو الاستعمار الجديد، الذي يروّج لنفسه من خلال ما تنتجه مراكزُ البحوث في عواصمه. فكثير من الكتابات التي أُنتجتْ في التسعينيّات تتحدّث عن شرق أوسطٍ جديد، ومن بينها كتاباتُ برنارد لويس التي تبشّر بخلق دويْلاتٍ من ورق، إضافةً إلى مقولة أنّ للإسلام حدودًا دمويّة. نحن إذن، منذ ذلك الوقت، إزاء رؤيةٍ ثقافيّةٍ إلى منطقتنا تجد مفعولها اليوم داخل العديد من الدول العربيّة بفعل الهزّات العنيفة التي تعيشها.

مخلافي: لديّ ملاحظتان: الأولى أنّ هذا التيار الثقافيّ لن يكون بديلًا من مؤسّسات المجتمع المدنيّ التي تُنتج التصوّراتِ وتسعى إلى تنفيذها ونشرها داخل المجتمع. والثانية أنّ ما نتحدث عنه ليس سوى تيّار، ومعنى ذلك أنّه يشكّل ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"المثقّف الجماعيّ." والمثقّف الجماعيّ هو منتِجٌ للتصوّرات في مختلف المجالات، لكنّه غيرُ المثقّف الجماعيّ المنضوي داخل التنظيم أو الحزب المهيكل الذي يتطلّب وجودَ قاعدة من الفكر الواحد. والتجارب الإصلاحيّة الشاملة تنطلق من رؤيةٍ إيديولوجيّةٍ محدّدة تسعى إلى التبشير بها وتطبيقها ــ ــ وهذا ليس مسعى تيار "مثقّفون من أجل التغيير" ولا أفقه: فهو ليس تيّارًا تبشيريًّا أو إيديولوجيًّا، بقدر ما هو تيّار ثقافيّ يسعى إلى تجميع الرؤى والتوليف بينها لخلق فضاءٍ للحوار والتعدّد، وأداة لصياغة التصوّرات التغييرية المنشودة.

العياري: لكي تكون "المبادرة" تيّارًا فعليها أن تنطلق من فكرةٍ، مؤدّاها أنّه إطارٌ يقبل النظرَ من زوايا أصحابه المختلفة. وهذا هو السرّ الذي جعل مقارباتنا داخل "المبادرة" تختلف من شخصٍ إلى آخر.

أعتقد أنّ المثقف العربيّ كان حاضرًا في كلّ المحطات التي عاشتها المنطقة، لكنّه كان حاضرًا بمعنى "المثقف الرسوليّ" الذي يتحرّك بمفرده. وهذا ما وجدناه  في بداية القرن العشرين مع حركات الإصلاح، إذ لا نستحضر تيّاراتٍ بقدر ما نستحضر أسماءً بعينها. الجديد المطروح اليوم هو كيفيّة إيجاد تيّار جامعٍ لمجموعةٍ من المثقفين، من مواقع مختلفة، يتحمّلون مسؤوليّةَ إحداث التغيير في المرحلة الراهنة.

الجانب الثاني مرتبطٌ بالتوقيت، وهو مرتبطٌ فعلًا ــــ كما أشرتَ أخي عبد الحقّ ــــ بـ"الربيع العربيّ،" وإنْ كنّا نرى كذلك أنّه مرتبطٌ بأزمةٍ تعود إلى سنواتٍ سابقة. لكنّ محطّة الربيع العربيّ كشفتْ أمورًا غايةً في الأهمّيّة، أبرزُها فشلُ دولة الاستقلال في مشاريعها المختلفة، وكذلك فشلُ الدولة الاستبداديّة التي حاولتْ أن تستبعد المسألة الديمقراطيّة بذرائع مختلفة ("حماية الأمّة،" "الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة،"...). ودورُ الربيع العربيّ أنّه عرّى العمقَ المتعفّنَ في قاع المجتمع، حين كشف لنا عن درجة الإقصاء والعنف، فأصبحنا أمام حالةٍ تهدِّد وجودَنا ذاتَه. لهذا السبب أعتبر أنّ مبادرة "مثقفون من أجل التغيير" مرتبطة بماهيّة اللحظة التاريخيّة الراهنة، وبحالة الربيع العربيّ، ولكنّها تواجه أيضًا قضايا متراكمةً اختنقتْ تحت حكم الدولة الاستبداديّة ودولة الاستقلال بمشاريعها الوهميّة.

البرغوتي: الثقافة أكثرُ ديمومةً من السياسة. فجميع المشاريع السياسيّة التي عرفتها الدولُ العربيّة اندثرتْ بموت أصحابها. ولو كانت هناك في المجتمع قيمٌ آمن بها الناسُ واقتنعوا، لصعب على السياسيّين تجاوزُها بالسهولة التي تمّت بها. وبالتالي، فإنّ المشروع التغييريّ الصالح للمجتمعات العربية هو المشروع الثقافيّ الذي يساهم فيه الجميعُ باختلاف عقائدهم وانتماءاتهم السياسيّة. وأرى أيضًا أنّ على التيّار الثقافيّ التغييريّ عدمَ الانخراط في الاصطفافات السياسيّة، ولا الانحيازَ إلى حزبٍ أو مذهبٍ أو طائفة، وإنّما عليه الانحياز إلى قيمٍ ساميةٍ يسعى إلى ترسيخها في سلوك المواطن العربيّ اليوميّ. وهذا ما قصدناه عندما أطلقنا مبادراتنا العربيّة بعنوان ثقافيّ. واليوم، عندما ننظر إلى لائحة الموقّعين على الوثيقة نرى رجلَ الدين إلى جانب اليساريّ، والعروبيَّ إلى جانب الكرديّ والأمازيغيّ والتركماني وغير ذلك من التشكيلات الاجتماعيّة في هذا الوطن الذي يتسع للجميع.

نشير أيضًا إلى أنّ تصوّرنا ليس ثابتًا ولا مكتملًا، بل قيد التشكّل، ويحتاج إلى إرادات متنوّعة من أجل وضع "المبادرة" على سكّة الانطلاق.

عروس: تعقيبًا على الأخ العياري، أشدّد على أنّه لا يمكن اعتبارُ "الربيع العربيّ" العنصرَ الوحيدَ في كشف مشاريع الدولة الوطنيّة. فالفشل والتدهور والتشرذم لم يَكشف عنها الربيعُ العربيّ، وإنّما كانت حالةً سابقةً على هذا الحدث التاريخيّ. لكنّ الطامّة الكبرى هو أنّ حسّ المقاومة بدأ يتضاءل لدى شرائح من المجتمع العربيّ، ومنها شريحةٌ من المثقّفين. وأهمّ شيءٍ طاله هذا اليأسُ هو التضامنُ العربيّ، ووحدةُ الرأي حول القضيّة الفلسطينيّة: فلقد أصبحنا اليوم نسمع، نهارًا جهارًا، من يقدح في مسألة التضامن العربيّ ويعتبره أسطورةً لا يمكن تحقّقها؛ وهناك من أضحى يعتبر القضيّة الفلسطينيّة "عائقًا أمام تحقيق التغيير في العالم العربيّ." لقد تغيّرت القيمُ إلى درجةٍ أصبح ما كنّا نعتبره من عالم الملائكة منتميًا إلى حظيرة الشياطين. لذلك أقول إنّ من أهمّ الأهداف التي يجب أن تشتغل عليها أيّةُ مبادرة عربيّة للتغيير هي إعادةُ الأمل في المشروعين الأساسيّين: التضامن العربيّ، وعدالة القضيّة الفلسطينيّة باعتبارها مركزَ المقاومة العربيّة من أجل تحقيق التغيير الديمقراطيّ المنشود.

 

لبيض: من الأهداف الأساسيّة التي تسعى "المبادرة" إلى الاضطلاع بها هي "إعادة بناء مفهوم الأمة." غير أنّ الإشكال المطروح أمام هذه المبادرة هو تحديد الآليّات الفكريّة للقيام بهذا المشروع الكبير. إنّ مفهوم "الأمّة،" كما تتداوله الأدبيّاتُ الإصلاحية اليوم، يمتدّ نحو آفاقٍ ومكوِّنات لم يكن قد بوشر التأمّلُ فيها. فكيف تواجه "المبادرة" إشكاليّة إعادة صياغة هذا المفهوم، وإعادة كتابة التاريخ المليء بالجروح والفراغات المقصودة والمؤدلجة؟

 

بندحمان: السؤال هو: لماذا العمل على إعادة صوغ مفهوم "الأمّة"؟ كما ذكرتَ، أخي عبد الحقّ، فإنّ مسألة إعادة كتابة التاريخ تفرضها اليوم مخلّفاتُ الجروح التي ورثناها عن حقب زمنيّة اتّسمتْ بالرؤية الإقصائيّة والتهميشيّة، وعملتْ على قولبة مفهوم "الأمّة" ضمن الأطر الإيديولوجيّة الضيّقة والماسخة لتنويعات المجتمعات العربيّة. من هذا المنطلق، فإنّ أيّة مبادرةِ تغيير لا بدّ من أن تأخذ في الاعتبار إعادةَ النظر في مفهوم "الأمّة" في ضوء المعطيات التاريخيّة المستجدّة والسياقات الكونيّة والحقوقيّة الدوليّة التي لم تعد تُشرعن بقاء التنويعات الاجتماعيّة والثقافية والدينيّة في "منطقة الظلّ" الاجتماعيّ، دونما قدرةٍ على حريّة التعبير عن آرائها. إنّنا في حاجةٍ إلى تمتين الأمّة بهويّتها الإنسانيّة الجديدة، القائمة على وحدة المتعدّد، والقيام بنقدٍ ذاتيٍّ لما جرى تبنّيه في الفترات السابقة.

وعندما ندعو إلى إعادة صياغة مفهوم الأمة، فإنّنا نبتغي أن تكون تلك الإعادةُ بأفقٍ إيجابيّ. ومعنى ذلك عدمُ الاكتفاء بترصّد لحظات الصراع واعتبارها لحظاتِ الحقيقة الوحيدةَ في تاريخ الأمّة. وإنّما ينبغي ربطُ كلّ اللحظات التاريخيّة بسياقات تشكّلها وتبلورها، واستحضارُ أسباب تنزيلها، وتفسيرُها بأنّها مواقف سياسيّة لا اختيارات كليّة محسومة. وإلّا فسنسقط في قراءاتٍ عرقيّةٍ ومذهبيّةٍ للتاريخ، وسندعّم بذلك بابَ "المظلوميّة" وإلصاق أخطاء الماضي بأهل الحاضر.

مخلافي: الحديث عن الأسس لإعادة بناء مفهوم الأمّة ينطلق من تجنّب ما أدّى إلى التفرقة. والحقّ أنّ احتكار السلطة والثروة هو أساس الابتلاءات التي أصابت جسدَ هذه الأمة وعمّقتْ مآسيها. لقد سعت السلطة الرسميّة إلى إقصاء الآخر المختلف، سواء كان قوميًّا أو دينيًّا أو عرقيًّا أو لغويًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا. وهو ما ولّد إحساسَه بالظلم، الذي كان من عواقبه ما نشهد من احترابٍ وصراعٍ وتشرذم يهدِّد الأمّةَ وكيانَ الدولة الوطنية، التي كنّا حتى الأمس القريب ننادي بزوالها، غير أنّنا اليوم ــــ وفي مواجهة خطر ضياع الكيان العربيّ وتفكّكه ــــ بتنا نَنشد تقويتها لكنْ على أسس الحقّ والقانون والدمقرطة. وأعتقد أنْ لا سبيل إلى وحدة الأمّة العربيّة إلّا عن طريق إقامة الدولة الوطنيّة القويّة المدنيّة الديمقراطيّة، التي يتمتّع فيها المواطنُ بالمساواة والحريّة والتعدديّة.

إنّ مسؤوليّتنا، كمثقّفين اليوم، هو النضال من أجل إقامة صرح هذه الدولة. وبعد ذلك يمكننا الحديثُ عن أشكال الوحدة التي سيفرزها سياقُ التفاعلات والمصالح المشتركة بين الدول العربيّة.

العياري: إنّ أيّة عمليّة تغيير لا بدّ من أن تصاحبَها عمليّةُ إعادة بناء المفاهيم بما يستجيب لمتغيّرات المرحلة. نحن، في مجتمعاتنا العربيّة، نعيش نوعًا من التشويش: فهناك اتفاقٌ في المنطوق، واختلافٌ في المعنى! فمثلًا، هناك اشتراك في بعض القيم العامّة مثل الديمقراطيّة، لكنّنا عندما ننزلها إلى مستوى الممارسة نجد أنفسنا مختلفين في فهمنا لها. لذلك فنحن في حاجةٍ ماسّةٍ إلى مراجعة معجمنا الثقافيّ العامّ ومعجمنا القيميّ، ولعلّ أهمّ المفاهيم التي تنتظر منّا عملًا  مختبريًّا دقيقًا هو مفهوم الأمّة.

فهناك من يحيل الأمّة على المعنى الدينيّ، وآخر على المعنى الحقوقيّ، وثالث على المعنى الإثنيّ، ورابع على المعنى اللغويّ... وهنا أعود لأؤكّد ميزةَ "الربيع العربيّ" حين كشف عن الالتباس المفاهيميّ الذي نعيشه اليوم. وكمثال على ذلك ما عشناه في تونس بعد الثورة:

فقبلها كنّا مطمئنّين إلى التجانس الظاهر بخصوص بعض المفاهيم، كـ"الديمقراطيّة" و"الدولة المدنيّة" و"حقوق الإنسان." لكنْ بعد تمكّن بعض مكوِّنات "الصفّ الوطنيّ" المعارض لنظام بن عليّ من الإمساك بمقاليد السلطة والعمل على تنزيل هذه المقولات على أرض الممارسة،  طفت على السطح تناقضاتٌ جوهريّة. فالحركة الإسلاميّة تدافع عن الدولة المدنيّة، لكنْ بمعنى الدولة التي تستند على الموروث الدينيّ والمقدّس؛ والعلمانيّ حصر الدولة المدنيّة في إقصاء الدينيّ من المجال السياسيّ كلّيًّا. وقس على ذلك مسألة الديمقراطيّة: فهناك من يرى أنّها عدمُ المساس بالمقدّس والكليّات، وهناك من يرى أنّها هي هذا المسّ تمامًا وتخليص المجتمع من فكر الكلّيّات والمقاصد العامّة.

هكذا دخلنا في دوّامة الصراع حول دلالة المفاهيم، وتُهنا عن دورنا في بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة التي تستجيب لتطلّعات آلاف الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع منادين بالكرامة والشغل والحريّة. ومن هذا المنطلق، يبدو لي أنّ دور التيّار الثقافيّ التغييريّ يكمن في تصحيح هذا الالتباس الذي نعيشه، وذلك باستحضار مقوِّمات المرجع الكونيّ الحقوقيّ المشترك؛ فهذا هو وحده القادر على أن يوحِّد هذه الهويّة الجامعة والمشتركة، ودون ذلك سنسقط في أتون الأطر التي تفضي بنا إلى إقصاء الآخر.

البرغوتي: حين نفكّر في "إعادة صياغة مفهوم الأمّة،" فمعنى ذلك أنّنا نسلّم بأنّ ما كان يجمعنا لم يعد كذلك، وأنّ مهمّتنا هي البحث عمّا يعيد اللحمةَ بيننا. لهذا أقول إنّ الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ لا يمكن اختزالُها في "إنصاف" الجماعات التي هُمّشتْ وظُلمتْ عبر مراحل تاريخيّة طويلة فقط، وإنّما ينبغي أخذُ العبرة في ألّا نعيد تكرارَ هذه الأخطاء ثانيةً. من المفيد اليوم، في سياق التحوّلات الكبرى التي عرفها العالمُ العربيّ، أن نقرّ بأنّ مفهوم القوميّة العربيّة أو العروبة، الذي كنّا نؤمن به حدّ التقديس، بات متجاوَزًا بعد أن كشف الواقعُ العربيّ مجموعةً من الحقائق المغيّبة والأصوات المدفونة وسط أكوام الإيديولوجيّات الإقصائيّة والاستئصاليّة. فلم تعد فكرةُ العروبة قاصرةً على  مركزيّة الفهم الإثنيّ أو العرقيّ، بل لا بدّ من أن تتحوّل إلى إطارٍ ثقافيٍّ جامع، يجد فيه الأمازيغيُّ والكرديُّ والتركمانيُّ والآشوريُّ والساحليُّ في جنوب الصحراء واليهوديُّ والموريسكيُّ والملحدُ والمؤمنُ وغيرُهم مكانَهم ضمنه، أيْ ضمن هذه الأمّة العربيّة، دونما التزامٍ بعنصر الدين أو اللغة أو الإثنيّة.

وقبل أن أختم، أودّ أن أشارككم في فكرةٍ راودتني بعيْدَ حضوري ــــ مصادفةً ــــ احتفالات الأمازيغ بالسنة الأمازيغيّة الجديدة. لماذا لا نعمِّم الاحتفال بهذه السنة على ربوع الوطن العربيّ كافّةً؟ وما يضير المغاربة لو احتفلوا بعيد النيروز الكرديّ؟ هذه، لعَمري، أعيادُ الأمّة الجديدة؛ أمّةِ التنوّع والاختلاف ضمن وحدة المصير والمستقبل.

عروس: مفهوم الأمّة الذي طرحتَه مهمٌّ جدًا. فما يجري حولنا يدفعُنا إلى التفكير في قضايانا الكبرى على أسس فكرٍ جديدٍ متحرّرٍ من اليقينيّات التي حكمتْه فتراتٍ طويلة. ويجب الإقرار بأنّ مفهوم الأمّة الذي عشنا على  حلم تحقيقه ليس سوى مشروع انكسار ويأس وتراجع على كافّة المستويات. فالمشاريع التي صاغت مفهوم الأمّة اعتمادًا على الانتماء الدينيّ أو القوميّ أو العرقيّ أو اللغويّ وصلتْ إلى النفق المسدود بفعل نفور الإنسان العربيّ من هذه التحديدات المرجعيّة. وإذا كلّمتَ اليوم شابًّا عن القوميّة العربيّة بأطرها المرجعيّة التقليديّة، فلا تفاجأْ إنْ ردّ عليك بازدراء.

 

لبيض: أعود إلى فكرة "الدولة الوطنيّة" التي أشار إليها المخلافي، لأربطها بالحديث عن "إعادة بناء مفهوم الأمّة." فهل يمكن الحديث عن مشروع "بناء الأمّة على أساسٍ قوميّ" في غياب استحضار واقع الدول الوطنيّة العربيّة الزاخر بالتنوّع والتعدّد وحتى الاختلاف من دولة عربيّة إلى أخرى؟ فهناك تيّارات ترفض فكرة الوحدة العربيّة وتقدِّم سرديّاتٍ ثقافيّةً كبرى خاصّةً بها. وهذا يعيد إلى الأذهان فكرةَ الاحتماء بحدود الدولة الوطنيّة، وتقويتِها ضمن محيطها الإقليميّ، وتمكين مكوِّناتها من حقوقها وامتيازاتها الثقافيّة؛ على أن يتمّ بعد ذلك البحثُ عن صيغ الوحدة العربيّة على أسس جديدة، أهمُّها الديمقراطيّة والحقّ في الاختلاف والتسامح والتنوّع. السؤال هو: أليس الأجدر بنا اليوم أن نفكّر في صياغة مبادراتٍ وطنيّة تسهم في إعادة صياغة مفهوم "الدولة الوطنيّة" (وتمكينها من آليّات الفعل الديمقراطيّ)، قبل الانخراط في تيّارٍ عامّ تضيع فيه الجهودُ وتتشتّت فيه الرؤى، شأن التيّارات والمبادرات العربيّة الحالمة السابقة؟

 

عروس: هذا السؤال هو من أهمّ الأسئلة التي يجب أن تُطرح. فلا يمكن الكلامُ على وحدةٍ أوسع قبل التأسيس لفكرة الوحدة الصغرى، المتمثّلة في بناء الدولة القويّة ــ ــ بالقانون وبالتعدديّة وباستيعاب المختلف. وهو ما لا يمكن أن يتمّ إلّا عن طريق بناء الدولة الوطنيّة داخل رقعتها الجغرافيّة القائمة. فأنا لا أرى وحدةً للمنطقة المغاربيّة، مثلًا، إلّا بقوّة الدولة الوطنيّة في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.

البرغوتي: تمسُّكُنا بالدولة الوطنيّة [داخل رقعتها القائمة] لا يعني أنّها الفكرة/النموذج التي نطمح إلى تحقيقها، لكنّها تظلّ ضروريّةً في المرحلة الراهنة ما دام البديلُ هو ما نراه من انقسامٍ وتدخّلٍ أجنبيّ و"دولةٍ" داعشيّة. ويجب ألّا ننسى أنّ من أهداف مشروع "الشرق الأوسط الجديد" تفكيكَ الدولة الوطنيّة، وبناءَ كيانات طائفيّة ضعيفة من دون مقوِّمات الاستمرار والصمود إلّا بالتبعيّة للأجنبيّ. لكنّ هذا لا يمنعنا من النضال من أجل تحقيق نموذج الدولة الوطنيّة المالكة لأسباب النهضة والتقدّم ضمن تكتّل قادر على مواجهة التكتّلات الأخرى المستقوية بوحدة مصالحها.

العياري: أعتبر أنّ المشاريع الكبرى لا يمكن أن تدافع عنه دولةٌ مستبدّة. لقد استأثرتْ بحلم الأمّة، منذ قرنٍ ونيّف تقريبًا، سلطةٌ شموليّة، فكانت سببًا في إفشال المشروع وتدمير حلم الشعوب في تحقيق الوحدة. لذلك، فإنّ المرحلة الراهنة تطالبنا بضرورة تحويل هذا الحلم إلى قوّة دفعٍ للإرادات الحرّة في المجتمع كي تتبنّى الدفاع عن بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعيّة والمساواة من دون تمييز أو إقصاء. فمثل هذه الدولة، في تصوّري، هي القادرة على الانخراط في الحلم الوحدويّ العربيّ، الذي هو حتميّة تاريخية لتحقيق النهضة العربيّة الشاملة. ومن دون إدراج هذا الوعي في أجندات المثقفين والفاعلين المدنيين، فلن تقوم قائمةٌ لا للدولة الوطنيّة ولا للدولة ــــ الأمّة، وسنظلّ نعيش على انكساراتٍ وخيبات.

بندحمان: نحن أمام خيارين: إمّا إعادة هيكلة الدولة الوطنيّة انطلاقًا من المقوّمات التي ذكرها الأخ عبد الرزّاق، وإمّا دولة الطوائف التي تستند على الرؤية الأحاديّة المغلقة. وقد علّمنا التاريخ أنّ مآلات الدولة الطائفيّة هي التفكّك والاندثار. ولهذا، فنحن مضطرّون إلى فتح ورش إعادة تصحيح مسارات الدولة الوطنيّة، ضمن كتلةٍ تاريخيّةٍ تعيد ترسيمَ ميثاقٍ اجتماعيٍّ قائم على التوافقات  مؤسّسات التدبير الديمقراطيّ التي تربط بينها روحُ المواطنة المتعالية على التنميط الإثنيّ أو اللغويّ أو الدينيّ أو الاجتماعيّ.

 

لبيض: واقعنا العربيّ يحتاج إلى أكثر من مبادرة مدنيّة من أجل تأسيس مقوّمات الإنسان العربيّ الجديد الذي هو أساس الأمّة العربيّة الجديدة. أشكركم من مدينة مكناس على مشاركتكم في هذه الندوة.

                                                                              مكناس

 

إيّاد البرغوتي: كاتب من فلسطين. مدير مركز رام الله لدراسة حقوق الإنسان. من مؤلّفاته: العلمانيّة السياسيّة والمسألة الدينيّة في فلسطين.

محمد مخلافي: سياسيّ يمنيّ. وزير الشؤون القانونيّة اليمنيّ إلى حدود العام 2015. نائب رئيس الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. من مؤلّفاته: قضيّة دولة القانون في الأزمة اليمنيّة (1999).

الزبيرعروس: كاتب جزائريّ متخصّص في علم الاجتماع، وأستاذ التعليم العالي في جامعة الجزائر.

عبد الرزاق العياري: رئيس منتدى الجاحظ في تونس.

جمال بندحمان: أستاذ التعليم العالي في جامعة الحسن الثاني ــــ الدار البيضاء. الكاتب العامّ للمركز المغربيّ لحوار الثقافات وتنمية القيم.

***

"مثقفون من أجل التغيير": مبادرة لتعزيز عوامل التقارب بين مكوِّنات الشعوب العربيّة

 (مقتطفات)

يبدو العالم العربيّ، اليوم، مثخنًا بالجراح، والانكساراتِ الكبرى، والانقسامات، وهيمنة التقاطبات الحادّة، التي تسعى إلى إلغاء مبادئ المشترك والجامع والمنفتح، حيث لا صوت يعلو على صوت التشرذم والطائفة والقبيلة والمذهب، وفي أحسن الاحوال الدولة القطريّة القائمة على ذلك كلّه. ولا شكّ في أنّ وضعًا مثل هذا يستدعي إعادةَ النظر في الكثير من المفاهيم التي وَجّهتْ تاريخَ هذه الأمّة واختياراتِها الكبرى، التي ينبغي أن تقارَبَ بروحٍ نقديّةٍ مسؤولة ومنفتحة على مستقبل إيجابيّ: مستقبلٍ يؤكّد أهميّةَ الانتماء الحضاريّ إلى المنطقة، ويميّز بين واقع التقسيم السياسيّ ومظاهر الوحدة الثقافيّة، ويدعو إلى التأسيس لتيّار ثقافيّ جديد مقتنعٍ بتعدّد المكوِّنات الثقافيّة للأمة وتنوّعِها... لكنّه مؤمن، أساسًا، بوحدة أفقها، المستندِ إلى مرتكزات الديمقراطيّة وثقافة حقوق إلانسان (...).

ولا شكّ في أنّ تصورًا مثل هذا يحتاج منّا إلى تقويم موضوعيّ لمسار الأمّة واختياراتها كي لا نعيدَ تكرارَ أخطاء ما سبق، بل نحوّلها إلى موجِّهٍ وطاقةٍ دافعة. فرغم مآسي سنوات القرن العشرين بأكملها، فإنّ حقبة التسعينيّات وما تلاها جعلت انحدارَ الأمّة العربيّة إلى قعر المعاناة والتشرذم والصراع الطائفي أقسى، بل أصبحتْ مختبرًا لتنفيذ مخطّطات "صراع الحضارات والثقافات" وغيرها من المفاهيم التي عملتْ على ترسيخ فوضى هدّامة: إذ أصبحت المشاريعُ المطروحة، فكريًّا وسياسيًّا، ذاتَ صلة بخطابات تجزيئيّة أو فئويّة وإقصائيّة (...).

وأيًّا كان رأينا في المشاريع العربيّة التي تراجعتْ منذ سبعينيّات القرن الماضي، فقد كان هذا التراجع نتيجةً لعوامل خارجيّة تمثّلتْ في العدوان إلاسرائيليّ عام 1967، والهجمة الغربية؛ ونتيجةً لعوامل داخليّة تمثّلتْ في معاداة الديمقراطيّة وسيادة النزعة الإقصائيّة والتهميشيّة لدى بعضها: إذ لم تعترف بدوْر المجموعات الثقافيّة الأخرى ومكانتها وحقوقها؛ ما عرّضها لإقصاء ممنهج، ترتّبتْ عليه تبعاتٌ خطيرة، وردودُ أفعال تبدِّد أيَّ توجّه إيجابيّ للقاء، وتنمية المشترك لإيجاد مشروع جامع وحدويّ (...).

لقد أدّى عدمُ إيجاد بديل يتلافى أخطاءَ هذا المشروع، وينطلق للنهوض بالأمّة بكافة مكوِّناتها الداخليّة، وبتشبّع فعليّ بالأبعاد الانسانيّة والكونيّة، إلى الوقوع في حالة من الانقسام والتراجع والانهيار والاقتتال الداخليّ وتراجع الانشغال بالقضايا الكبرى (...).

في مواجهة هذه المشاريع المخطَّط لها نظريًّا، والمجسَّدة على الأرض بالحديد والنار، ينبغي العمل على خلق مشروع بديل يتّسع لجميع المكوِّنات الإقليميّة خارج دائرة التصنيفات الضيّقة، والانتماء الهويّاتي المحدود؛ مشروعٍ يضمّ كلّ مَن يقدِّر أهميّة المشترك الإقليميّ الذي يجعل التنسيقَ أمرًا طبيعيًّا (...) يكون هدفه تبنّي منظومة قيم أخلاقيّة تواجه فكرَ الاستبداد المحلّيّ والكولونياليّة الخارجية، وفي الوقت نفسه رفض المشاريع النكوصيّة والانغلاقيّة.

إنّ الدليل على أهميّة أن يكون هذا التحرّك إقليميًّا هو أنّ التحرك الإلغائيّ المضادّ هو على مستوى الاقليم أيضا: فمشاريع "الشرق الأوسط الكبير" بكافة أشكالها هي مشاريع إقليميّة، ومشروع "داعش" ومثيلاتها هو مشروع إقليمي كذلك. كما أنّ هذا الزمن جعل الفكر من دون حدود؛ فالفتوى تصدر من شيخ في مكان ما لتؤثِّر في أيّ مكان (...). واستجابةً لذلك فإنّنا نرى أنه بات من الضروريّ العمل على إنشاء تيّار ثقافيّ يسعى إلى العمل على تنشيط الأجواء الثقافيّة لتحقيق أمرين أساسيين:

ــــ الأول: إعادة صياغة مفهوم "الأمّة" بتصوّر جديد يتجنّب أخطاء الماضي، لا سيّما التنكّر لحقوق المجموعات الثقافيّة الدينيّة والإثنية واللغويّة وغيرها، الموجودة في هذا الفضاء الجغرافيّ الممتدّ من المحيط إلى الخليج، وجميع التوجّهات الروحيّة وإلايمانيّة، بشكلٍ يجعل هذه الأمّة مكوّنةً من مواطنين متساوين بشكل مطلق في الحقوق والواجبات، ويجعل الهويّات الثقافيّة مصدر غنًى لوحدة تعاقديّة وتوافقيّة تنظر بعين المساواة إلى الجميع، مع وجود سقف جامع، هو مصلحة هذا الفضاء (...)؛

ــــ الثاني: تبنّي المشروع النهضويّ الديمقراطيّ الانسانيّ الحضاريّ التنويريّ، القائم على قواعد وقيم حقوق إلانسان والتسامح والسلام والمساواة والحريّات والشراكة والعدالة والتنمية المستدامة للجميع.

إنّ هذين الأمرين الأساسيين يرتبطان بتصورات جامعة لتعزيز عوامل الوحدة والتعاون، من دون أن تُعنى بالتدخّل في الشؤون الداخليّة للدول واختياراتها (...). وكي يتحقّق ذلك تأتي مبادرة "مثقفون من أجل التغيير" دعوةً مفتوحةً إلى إعادة النظر في كافة القنوات المنتِجة للقيم، كالتعليم والمناهج التربويّة والإعلام والمؤسسات الدينية. وفي الوقت نفسه فهي دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الذي يسمح بإبراز الأدوار الحقيقيّة لجميع مكوِّنات الأمّة، من دون انحياز لطرفٍ على حساب آخر، ومن دون مبالغة في دور أحد أو انتقاص من دور أحد.

كما تحرص "المبادرة" على جعل القضايا الكبرى للأمّة أولويّات ضروريّة، وفي مقدِّمتها القضيّة الفلسطينية، ليس فقط لأنّها قضيّة احتلال واغتصاب لجزء منها، وليس كذلك لأنّها قضيّة إنسانيّة وأخلاقيّة، ولكن أيضًا لأنّ هذه القضيّة نشأتْ أصلًا من أجل الاطاحة بالأمّة وإفقادها إمكانات نهوضها، ولكون الموقف الموحّد من هذه القضية يشكّل رافعةً مهمّةً في طريق تمتين الأمّة بهويتها الانسانيّة الجديدة، القائمة على وحدة المتعدّد (...)

إنّ إلاطار الأنسب لمواجهة التحدّيات (...) هو الإقرار بالتنوّع الثقافيّ والتعدديّة بأشكالها المختلفة (...). وهذا الأمر يتطلّب انفتاح مختلف المكوّنات بعضها على بعض وفقًا لمبادئ المواطنة المتساوية والمتكافئة (...).

وتلت ذلك أسماء عشرات من الموقّعين من كافة أنحاء الوطن العربيّ.

عبد الحقّ لَبيض

أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة