التنفس: وسيلة للعلاج النفسي
29-06-2018

 

نعلم جميعًا أننا نستطيع البقاءَ أيّامًا من دون طعام أو شراب، ولكنّنا لا نستطيع البقاءَ دقائقَ بلا تنفّس. ولكنّ قلَّةً تعرف أنّ للتنفّس تأثيرًا كبيرًا في الدماغ واللاوعي والمشاعر. وقلّة تعرف أنّ "للتنفّس بطرقٍ معيّنة" قدرةً فعّالةً على تحرير الإنسان من الألميْن النفسيّ والجسديّ.

كثيرة هي التقنيّات التي تستعمل التنفسَ أو تتمحور حوله. وهي تنتشر بطرق مختلفة، ولأسباب متنوعة ــ ــ أكانت علاجيّةً كتخفيض الضغط النفسيّ والقلق، أمْ روحانيّةً كالتأمّل واليوغا والصلاة.

تقنية "تفريغ المشاعر عبر التنفّس الواعي" هي إحدى التقنيّات التي ظهرتْ قديمًا في الهند، وعادت إلى الواجهة في النصف الثاني من القرن الماضي، فكثرت الأبحاثُ عنها، وكثرت الحاجةُ إلى استخدامها.

ولهذه التقنيّة طرقٌ وخصائص.

 

الوعي، واللاوعي، وما قبل الوعي

قبل الشروع في تعريف هذه التقنيّة ومميّزاتها وطريقة أدائها، لا بدّ من الإضاءة على مفاهيم "الوعي" و"اللاوعي" وتأثيرهما على صحّتنا الجسديّة والنفسيّة.

إذا كان الوعي هو الجزءَ المحسوسَ القائم على حواسّنا، ويعتمد على المنطق والرياضيّات، فإنّ اللاوعي هو مجموعةُ الوظائف التي يؤدّيها الجسدُ بشكل تلقائيّ (كإفراز الهرمونات، ودقّات القلب، والتنفّس).

أما مصطلح "ما قبل الوعي" فغير شائع، إذ كثيرًا ما يُدمج باللاوعي في المقالات العلميّة نفسها. وما قبل الوعي هو الخزّان الكبير الموجود في الوسط. وهو يشبَّه بالقرص الصلب، ويحتوي كلَّ الذكريات، والخُبرات، والمواقف الصعبة المتكرِّرة، والمشاعر المتصلة بهذه الحالات جميعها، إيجابيّةً أو سلبيّة.

وفي حين يؤثّر الوعيُ في حياتنا بنسبة لا تقلّ عن 10 %، ويؤثّر اللاوعيُ في 20% منها تقريبًا، فإنّ ما قبل الوعي يستحوذ على الباقي. ومن هنا، تكمن أهميّةُ العمل على إعادة ترتيب هذا الخزّان الكبير وبرمجته بهدف الوصول إلى حياة نفسيّة وجسديّة أفضل.

التقنيّة

"تقنيّة تفريغ المشاعر عبر التنفّس" بسيطة وفعّالة في الوقت عينه. صُمِمَتْ لتطهير الطاقة من الجسم. وهي تعمل على مبدأ الترابط المباشر بين الصحّة العقليَة والنفسيَة والبدنيّة من جهة، وطريقة التنفّس من جهةٍ أخرى.

تستند هذه التقنيّة إلى أنّ التنفّس هو العمليّة الأيضيّة المستقلّة واللاإراديّة الوحيدة التي يؤدّيها اللاوعي. وهي يمكن أن تصبح إراديّةً حين نتّخذ قرارًا واعيًا بالتنفّس. فالتحكّم بالتنفّس (بمعنى نقله إلى مستوى "الوعي")، والقيامُ بالتنفّس بشكل متواصل، يحرّكان الطاقةَ في مختلف أنحاء الجسد. ونتيجةً لذلك، تتحرّك الأحداثُ والمشاعرُ السلبيّة المكبوتة المخزَّنة في ما قبل الوعي.

ويساعد التنفّس أيضًا في تفريغ هذه المشاعر نحو الوعي. كما تنتقل، إلى مستوى الوعي أيضًا، علاقتُنا بجسدنا، لتتحوّل الى علاقة بالذات والعالم الخارجيّ. وهذا التفريغ قد يكون هو العلاج النفسيّ بحد ذاته. ويمكن العمل على المواد التي ظهرتْ عبر تقنيات أخرى لتحقيق الشفاء النهائيّ.

هنا لا بدّ من القول إنّ مكبوتات ما قبل الوعي تُحدث ضغطًا كبيرًا على الكثير من أعضاء الجسد ووظائفه. فعدمُ القدرة على التفريغ النفسيّ، بسبب آليّات الدفاع النفسيّة، قد يحوّل الضغط النفسيّ إلى مشاكل وآلام جسديّة. وهنا نتكلّم على الأمراض "النفسجسديّة" كالميغران والربو وآلام العضلات وضيق التنفّس. ومن هنا تنطلق الفكرة القائلة بضرورة تفريغ هذه المشاعر المضغوطة في "ما قبل الوعي،" فيكون الشفاء الجسدي بذلك نتيجة للتفريغ أو الشفاء النفسي.

خلال عملية التنفّس نتعلّم أن نتنفّس بوعي، وذلك من خلال اعتماد طريقة تصل الشهيقَ بالزفير (وبالعكس) من دون توقّف، ولفترة زمنيّة محددة. والغرض من هذا التنفّس الواعي المتصل ليس تحريكَ الهواء، بل تحريك الطاقة. فالمريض يتحكّم بتنفّسه تحكّمًا تامًّا، ويأخد هذه القدرة من اللاوعي ويمنعها عنه. وبعد فترة يدخل مَن يمارس هذه التقنية في حالة من التركيز على الذات، ما يُجبر اللاوعيَ على إظهار الذكريات والصور والعواطف والأحاسيس المكبوتة، بحيث يمكن استعراضُها للتخلّص من تجلّياتها النفسيّة أو النفسجسديّة.

كما تسمح لنا هذه الحالة من الإدراك الداخليّ برؤية بعض الأحداث التي مرَّت في حياتنا من وجهة نظر مختلفة. وهي تفتح لنا الأفقَ أمام التعرّف إلى أحداث ٍمرّت في طفولتنا، لكنّ لاوعينا كبتها بهدف حمايتنا منها، فنسيناها مع مرور الزمن.

هذا التطهيرالداخليّ، بما فيه تحريرُ الطاقة، يتيح لنا الفرصة لفهم أنفسنا، ويساعدنا على اتّخاذ قراراتنا بشكل أسهل وأفضل.

 

الجلسات

تتألّف الجلسات العلاجيّة من شقّيْن. الشقّ الأوّل يشمل عمليّة التنفّس. وأمّا الثاني فيتضمّن الحديثَ مع المعالِج، قبل العمليّة وبعدها. وتتراوح مدة الجلسة من ساعة ونصف الساعة، إلى ثلاث ساعات.

بعض المعالِجين ــــ وأنا منهم ـــ يفضّلون أن تبدأ جلسةُ نقاش عامّ، تحدَّد المشكلةُ فيها، ومن ثم يجري الانتقالُ إلى جلسات التنفّس. وهذه الأخيرة تقوم على شرح التقنيّة بالتفاصيل، والإجابة على تساؤلات العميل [H5] ومخاوفه. أمّا على صعيد المدّة الزمنيّة، فيُحدَّد عدد الجلسات بناءً على تقويم المعالِج. ففي العادة، علمًا أنّ ثلاث جلسات ستكون ضروريّة على الأقلّ.

بإمكان الأطفال من عمر خمس سنوات الاستفادة من هذه التقنيّة، وتكون مدّةُ الجلسة في هذه الحالة أقصرَ بكثير من جلسة الكبار، أيْ ما يعادل نصفَ ساعة تقريبًا، وذلك نظرًا إلى عدم تحوّل التجارب والذكريات إلى مكبوتات في اللاوعي. أمّا بالنسبة إلى الرضّع والأطفال دون الخمس سنوات، فتُمْكنهم الاستفادةُ من إيجابيّات التقنيّة، ولكنهم لا يستطيعون ممارستَها بشكل مباشر إلّا بالاستعانة بالوالديْن.

 

علاجاتها

لهذه التقنية قدرة مذهلة على علاج المشاكل النفسيّة، مثل الاكتئاب، والقلق، والخوف، والعصبيّة (نفاد الصبر)، والأرق، وآلام الرأس والصداع النصفيّ، والأوجاع العضليّة المتنقّلة أو الفيبروميالجيا، والأوجاع الجسديّة المزمنة، ونوبات الهلع، والرُّهاب، وألم الخسارة بعد وقوع حادث أو صدمة، والصعوبات مع الأقارب، والإدمان، وانخفاض الثقة بالنفس.
تتطوّر التقنيّات العلاجيّة مع تقدّم الأبحاث. لكنْ يعود الإنسانُ في كل مرّة إلى الاعتماد على جسده وقدراته الذاتيّة. والعلاج بتفريغ المشاعر عبر التنفّس تقنيّةٌ شابّةٌ، ولكنّها واعدة. وكلّ ما تحتاج إليه اليوم هو التوعية بطريقة استخدامها وأهميّتها في التخفيف من الضغوط النفسيّة في عالم تكثر فيها التحدّياتُ والمخاوف.

بيروت

 

 

ربيع الحوراني المصري

مُعالج إيحائيّ مُعتمد. مدوّن، وشاعر من لبنان. حاز شهادة ماجستير في علم النفس العياديّ من الجامعة اللبنانيّة. له ديوان بعنوان: حيث لا ناس ولا بشر.