الاكتئاب والقلق: هل المثقفون أكثرُ تعرّضًا لهما؟
26-04-2018

 

لطالما ارتبطتْ أخبارُ "المثقفين،" التي وصلتنا من خلال المؤرِّخين والقصص والمسلسلات والأفلام، بالتغيير والبطولة... لكنْ بالتعاسة أيضًا. فهل المثقفون تعساءُ فعلًا؟ 

لقد أتاح لنا تطوّرُ علم النفس الاستثنائيّ في القرن الماضي استبدالَ كلمة "تعاسة" بمصطلحاتٍ علميّةٍ أدقّ، كالاكتئاب والقلق والاضطراب الثنائيّ القطب (bipolar disorder). كما أتاح لنا معاييرَ محدّدةً للتشخيص والعلاج. فهل تمكّننا هذه المعاييرُ من اعتبار المثقفين أكثرَ عرضةً للاكتئاب والقلق؟

يقول د. عادل صادق،(1) الأمينُ العامُّ السابق لاتحاد الأطبّاء النفسيين العرب، إنّ الاكتئاب هو "مرضُ الأذكياء والمثقّفين" ــ ــ فكأنّه بذلك يردّد صدى قول المتنبّي: "ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم!" ويؤكّد صادق أنّ المثقف أكثرُ الناس عرضةً للاكتئاب النفسيّ، وذلك بالتناوب مع نقيضه، المتمثّل في النشاط والتفاؤل ومشاعرِ السعادة. ويوضح صادق ذلك بالقول إنّ المثقف المبدع يعيش تعيسًا من دون أسبابٍ مباشرة، كما نراه سعيدًا بلا أسبابٍ واضحة. ويضيف أنّ الجهاز العصبيّ للمثقف معرَّض لتذبذبٍ انفعاليّ شديدِ الوطأة، ودوريّ.(2)

ويُكمل صادق(3) فيقول إنّ الفارق بين "المثقف" والإنسان "العاديّ" هو أنّ الأخير يعيش اللحظةَ بشكلٍ مباشر، في حين يرى الأوّلُ الأشياءَ بصورةٍ بانوراميّة: فيرى الحاضرَ على ضوء الماضي، ويستشرف المستقبلَ من خلال إدراكه للماضي ومعايشته للحاضر.

هذه النظرة "الفريدة" و"الشاملة" إلى تعقيدات الحياة والإنسان والمجتمع قد تُشكّل، بحسب بعض الباحثين، سببًا للاكتئاب والقلق. فهم، بسبب "تفرّدهم" هذا، في حاجةٍ مستمرّةٍ إلى التقدير؛ وعدمُ نيلهم هذا التقدير يُحبطهم ويجعلهم عرضةً للاكتئاب.(4)

ثمّ إنّ العالَمَ الجديدَ تحكمه ثقافةُ المال وثقافةُ الاستهلاك، ويقلّل من الأهميّة المسبغةِ على الثقافة والمثقّفين. وهذا ما يجعل الأخيرين منعزلين، عاجزين عن استخدام ثقافتهم للتأثير في الناس من أجل إحداث التغيير الذي يريدون.
هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ سيطرة عقليّة "المنافسة،" وتفشّي الكذب والعنف والخداع، يضعان المثقّف في مواجهة حقائقَ قيميّةٍ سلبيّةٍ تدفعه إلى المزيد من الإحباط. وينبغي في هذا الصدد أيضًا أن تضاف إلى ذلك حالةُ التراجع الثقافيّ العامّ في العالم عامّةً. وهو ما يتمثّل في سيطرة رؤوس الأموال على الإعلام، وفي سعيها إلى خلق إنسانٍ مستهلِكٍ بعيدٍ عن الثقافة؛ كما يتمثّل في فرضِ نظامٍ عالميٍّ اقتصاديٍّ سريع يحوِّل الإنسانَ إلى لاهثٍ خلف لقمة العيش ـــ ـــ وهو ما يقلِّل من الوقت المخصَّص للنشاط الثقافيّ. وفي عالمنا العربيّ بشكل خاصّ، نلاحظ الغيابَ التدريجيّ للكِتاب، وللنقاش الثقافيّ، وللمنتديات الثقافيّة الحواريّة ــ ــ ما يُدخل المثقّفين في دوّامةٍ من الإحباط، سببُها تكرارُ الأفكار وقلّةُ التجديد.
 

 


 

المثقفين في حاجةٍ مستمرّةٍ إلى التقدير؛ وعدمُ نيلهم هذا التقدير يُحبطهم ويجعلهم عرضةً للاكتئاب

 

***

على أنّه لا بدّ هنا من التفريق بين نوعين من الاكتئاب: الاكتئاب العَرَضيّ (القرف، السأم ، الإحباط، اللامبالاة، ومن ثمّ الانعزال أوالانطواء) من جهة، والاكتئاب المَرَضيّ المتعلّق بالخلل في الكيميائات والجهاز العصبيّ من جهةٍ ثانية.

فالأوّل يمكن أن يشكّل حليفًا للمثقّفين، ودافعًا إلى المزيد من الاطّلاع والإنتاج وتوظيفِ الحِيَل النفسيّة الدفاعيّة في خدمة المثقّف والثقافة والمجتمع. كما قد يكون صِمامَ أمانٍ لما يواجهه المثقّفُ من حالاتٍ ذكرناها سابقًا.

أمّا الاكتئاب المَرَضيّ الذي نتناوله في هذا المقال، ويربطه البعضُ بالثقافة، فلا نملك أدلّةً واضحةً وعلميّة على ارتباطه هذا. فثمّة من يؤكّدون أنّ الاكتئاب، كالإنفلونزا، قد يصيب الفلّاحَ في حقله، والأميرَ في قصره، والعاملَ في ورشته، والمدرِّسَ في صفه؛ أي إنّه قد يصيب الجميعَ، بغضّ النظر عن نسبة ثقافتهم. بل يؤكّد الرافضون للعلاقة بين الاكتئاب والثقافة أنّ المثقّفين قد يجدون في ثقافتهم ما يُخرجهم من الاكتئاب، أو ما يمنع حدوثَه أصلًا؛ إذ قد تساعدهم الثقافة على التكيّف مع المجتمع وضغوطه ومشاكله.(5) وعلى الرغم من تعريف الدكتور صادق للاكتئاب بأنّه "مرضُ الأذكياء والمثقفين،"(6) فإنْ كانت ثمّة دراساتٌ تركّزتْ على علاقة الاكتئاب بالذكاء،(7) فليس هناك أيُّ بحث علميّ تناول علاقة الاكتئاب بمستوى الثقافة.

***

ممّا تقدّم، قد لا يمكننا الجزمُ أنّ المثقفين أكثرُ عرضةً للاكتئاب أو القلق، على الرغم من وجود أسباب كثيرة قد تدفعهم إلى ذلك. إلّا أنّه من المفيد أن ننهي مقالَنا ببعض النصائح التي قد تَحُول دون وصول المثقفين إلى هذه الحالات النفسيّة، أو ترشدهم إلى كيفيّة التعامل معها في حال حدوثها.

ففي حال الشعور بعوارض الاكتئاب أو القلق، من الضروريّ طلبُ المساعدة قبل تطوّر الحالة، من طبيبٍ أو معالجٍ  نفسيّ. ومن الضروريّ التقيّدُ بتعليماته، وبالعلاج المقترح. ولكنْ تبقى "الوقاية خيرًا من قنطارِ علاج." لذلك لا بدّ من اعتماد أسلوب حياةٍ يقي من الاكتئاب والقلق، ولا بدّ من إحداث تغيّرٍ في القناعات والتصرّف والعادات على قاعدة تخفيف الضغوط اليوميّة، والتخلّص من الأفكار السلبيّة والسوداويّة، وزيادة الإيجابيّة.

كما ينبغي التحلّي بميزةٍ أساسيّة، ألا وهي حبُّ الذات، بغضّ النظر عن بعض مظاهر ضعفها وعن الواقع المحيط بها. ومن المنطلق ذاته، فإنّه ينبغي القبول (ولا أقول الاستسلام) ببعضِ ما يفرضه الواقعُ ومحاولة تغييره، والابتعاد عن الغرق في مشاعر الاغتراب المطلق عنه.

ولأنّ المثقفين أكثرُ عرضةً للتعب، وبخاصّةٍ الفكريّ، وأكثرُ تعرّضًا لمواجهة المجتمع، فإنّه من المفيد جدًّا إدخالُ تمارين الاسترخاء ـــ وربّما التأمّل واليوغا وتقنيّات التنفّس ـــ إلى يوميّاتهم، وإعطاء أنفسهم أوقاتٍ مقدّسةً للراحة، بعيدًا عن الأنشطة المفروضة. وتبقى عطلةُ نهاية الأسبوع في الشهر على البحر، أو في الطبيعة، خيارًا ضروريًّا وأساسيًّا للتمكّن من العودة، بزخمٍ وحماسٍ وفرح، إلى المواجهة اليوميّة التي تفرضها الفاعليّةُ الثقافيّة.

 

بيروت
 

(1) (بلا تاريخ). تمّ الاسترداد من: http://www.pmhosp.com/eng/arabic/bg2.htm/ 

(2) (07، 2009). تمّ الاسترداد من: http://azaheer.org/vb/archive/index.php/t-31945.html
(3) تاريخ الاسترداد 01، 2013، من: https://www.alyaum.com/article/1055059

(4) (06، 2016). تمّ الاسترداد من: http://www.alhayat.com/Articles/15959943

(5) (2014). تمّ الاسترداد من: https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=254619321366664&id=147511468744117

(6) (08، 2017). تمّ الاسترداد من: https://annabaa.org/arabic/health/12285

 (7)(2017). تمّ الاسترداد من: http://www.egyres.com/articles

 
ربيع الحوراني المصري

مُعالج إيحائيّ مُعتمد. مدوّن، وشاعر من لبنان. حاز شهادة ماجستير في علم النفس العياديّ من الجامعة اللبنانيّة. له ديوان بعنوان: حيث لا ناس ولا بشر.