الردّ على داعش بإصلاح الإسلام الأرثوذوكسيّ
15-01-2016

 

ألا مَن كان يعبدُ النصوصَ، فإنّ النصوص تموت؛ ومَن كان يعبدُ اللهَ، فإنّ اللهَ حيٌّ لا يموت

 

 (بالإذن من أبي بكر الصدّيق)

 

مع حساسيّتي البالغة من تبسيط الأمور، فإنّ المشكلة الأساسَ مع داعش ــــــــــــــ فكريًّا على الأقلّ ـــــــــــــــ مشكلة بسيطة، وإنْ كان حلُّها شديدَ التعقيد؛ ذلك أنّ داعش ليست إلّا التجسيدَ العنفيَّ المفرطَ للعقيدة الوهّابيّة، التي هي بدورها التجسيدُ المتطرّفُ لظاهرة الإسلام "الأرثوذوكسيّ" الذي تَدِين به غالبيّةُ المسلمين منذ نيّفٍ وألفِ عام (مثلما أنّ المذهب الشيعيّ الإثنَيْ عشريّ ليس ببعيدٍ، هو أيضًا، عن الحيّز السائد لكونه المذهبَ الذي يدين به الملايينُ أيضًا). أمّا محاولاتُ إصلاح هذه الظاهرة أو كسرها، فتظلّ إلى يومنا هذا في الحيّز الهامشيّ، محصورةً بالدوائر الأكاديميّة، ولا تُعتبر أمرًا مقبولًا دينيًّا، وإنّما أمرًا يجلب على القائل به التكفيرَ وحكمَ الردّة (القتل).

 

يؤمن السوادُ الأعظمُ من المسلمين السنّة، منذ استقرار العقيدة الأشعريّة واندحارِ العقيدة المعتزليّة، بأنّ القرآن أزليّ، نقله الملاكُ جبريل إلى النبيّ محمّد من "اللوح المحفوظ" الذي"كتب اللهُ فيه مقاديرَ الخلْق قبل أن يخلقَهم."(1) الإسلام السائد، إذنْ، يؤمن بأنّ النصوص التي يحويها القرآنُ كياناتٌ أزليّةٌ (غيرُ مخلوقة)، ملتصقةٌ بذاتِ الله نفسِه، سابقةٌ على وجود كلّ كائن، بما في ذلك النبيُّ الذي نطقها، والمجتمعُ الذي أُنزلتْ فيه. قداستها، طبيعةً ومعنًى، مطلقة، ولا مجال للمؤمن بأن يتجاوز النصّ، وبخاصّةٍ النصّ "القطعيّ الدلالة" بحسب مصطلحات الفقهاء.

ويضيف الإسلامُ السائدُ، إلى هذه النصوص، الحديثَ النبويَّ الصحيحَ. فكثيرون يؤمنون بأنّ أحاديث النبيّ وأفعالَه "الثابتة صحّتها" ذاتُ مرتبةٍ شبيهةٍ بالنصوص القرآنيّة، لكون النبيّ ــــــــــــ بحسب القرآن ـــــــــــــ "لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلّا وحيٌ يوحى." بل إنّ أحاديثَ النبيّ وأفعاله قد "تَنْسخ" القرآنَ نفسَه، كما يؤمن بعضُ الفقهاء؛ ومن ضمنها سابقةُ تطبيقِ عقوبةِ الرجم من قِبل النبيّ على "زانية،" إذ لم يرد ذكرُ هذه العقوبة في القرآن.

 

ماذا يعني ما سبق؟

يعني أنّ السواد الأعظم من المسلمين يؤمنون ــــــــــــــ أو يجب أن يؤمنوا إذا أرادوا أن يكون إسلامُهم صحيحًا بحسب معايير الإسلام الأرثوذوكسيّ ـــــــــــــ بأنّ النصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة الصحيحة، حيث تكون قطعيّةً وغيرَ متشابهة،(2) نصوصٌ إلهيّةٌ مطلقةُ القداسةِ والدلالة، صالحةٌ لكلّ زمانٍ ومكان، ويجب تطبيقُها حرْفيًّا، لأنّ القاعدة الفقهيّة السائدة تقول: "لا اجتهاد مع النصّ."(3) فمَن أدرى مِن الله، الذي أنزل هذه النصوصَ، بأوضاع البشر في أيّ زمان؟ ومَن أخبرُ منه في تبيان كيفيّة تيسير أمورهم؟ ومَن سيجرؤ، بعد ذلك، على مخالفته، ليستحقّ غضبه والخلودَ في النار؟

ما دامت العقيدة السائدة ترى أنّ القرآن والأحاديث الصحيحة أزليّة وقابلة للتطبيق في أيّ زمان ومكان، فإنّ داعش وأمثالها ستعود إلى الظهور في كلّ عقدٍ أوقرنٍ أو ألفيّة.

على أنّ الإشكاليّة التي تترتّب عمّا سبق ذكرُه تبرز مع النصوص "المثيرة للجدل،" إذا أردنا أنّ نطبِّقَ على أحكام الشريعة الإسلاميّة(4) المعاييرَ المعاصرةَ  لحقوق الإنسان، وللمساواةِ بين الرجل والمرأة، ولنبذِ العنف (على الأقلّ في سياق نشر الدين)، وغيرَ ذلك من المبادئ والقيم الأخلاقيّة المتراكمة منذ عصر النبيّ، والتي يتناقض كثيرٌ منها مع التفسير الحرْفيّ والتاريخيّ لهذه النصوص. من الأمثلة في الحدود البدائيّة والمثيرة للجدل: قطعُ يد السارق، وحدُّ الرجم والجلد للزناة، وحدُّ الصلب وتقطيعِ الأطراف "للمفسدين في الأرض،" وحدُّ قتل المرتدّ عن الإسلام أو مَن حُكم عليه بالكفر. ويندرج في هذا أيضًا بعضُ الأحكام المجحفة في حق المرأة، وفقًا للمعيار المعاصر: كفرض رداءٍ معيّنٍ عليها، يتراوح بين الحجاب والنقاب (في حين لا يُفرض مثلُه على الرجل)، واعتبارِها فِتنةً وعَورةً وكيانًا تابعًا للرجل في كلّ شيء ـــــــ من الزواج، إلى الميراث، إلى"قيمة" شهادتها في المحاكم. هذا بالإضافة إلى كلِّ ما يتعلّقُ بالجهاد في الإسلام السائد، وهو مفهومٌ مثيرٌ للجدل أيضًا، ويختلف الفقهاءُ على تحديد دوره: أهوَ للدفاع عن النفس (المسلمين) فقط، كما يوحي الاعتذاريّون، أمْ هو لدحر "الكفّار" وتطبيقِ شرع الله في كلّ أصقاع الأرض، إذا أخذنا بالتفسير الجهاديّ المعاصر؟

هذه المفاهيم ليست من نتاج فكر داعش التحريفيّ، بل هي فعلًا في صلب الإسلام السائد. لكنّ الأغلبيّة العظمى من المسلمين معتدلة ونابذة لما يَخرج عن السياق التاريخيّ، ولذلك تعمد إلى تجاهل النصوص و/أو التفسيرات المتطرّفة. وفي هذا تبرز نقطتان:

- الأولى أنّ التفسير الحرْفيّ لداعش والوهابيّة يرتِّب الحكمَ بالكفر على هذه الأغلبيّة، لكونها تُنْكر ما هو، في نظرهما، في صلب الدين. وربما يفسّر هذا استسهالَ قتل داعش وأخواتها للمسلمين الآخرين.

- الثانية، وهي الأهمّ، أنّ ما تفعله هذه الغالبيّةُ بتجاهل النصوص "المثيرة للجدل" هو جهدٌ عفويٌّ، غيرُ منهجيٍّ في أغلب الأحيان. وما دامت العقيدة السائدة ترى أنّ القرآن والأحاديث الصحيحة أزليّة وقابلة للتطبيق في أيّ زمان ومكان، فإنّ داعش وأمثالها ستعود إلى الظهور في كلّ عقدٍ أوقرنٍ أو ألفيّة. بمعنًى آخر، يعتقد عددٌ كبيرٌ من المسلمين، بمن فيهم بعضُ "المعتدلين،" أنّ النصوصَ "المثيرة للجدل" (كتلك التي تتعلّق بالعبوديّة والإماء وتعدّدِ الزوجات وقطعِ يدِ السارق) غيرُ منتهية الصلاحيّة مطلقًا، بل إنّ مقتضيات العصر هي التي تعطّلها موقّتًا ريثما تعود الدولة الإسلاميّة الحقّة ــــــ وهذه مصيبةٌ أخرى، تجعل من بعض "المعتدلين" أحيانًا "مشروعَ داعشٍ مستقبليٍّ." كما إنّه من الأسهل إقناعُ الناس من "غير الراسخين في العلم" بأحقّيّة التطبيق الفوريّ الحرفيّ للنصوص، مقارنةً بالعمليّة المعقّدة التي تنطوي عليها محاولةُ فهم القرآن وتأويله في سياقه اللغويّ والتاريخيّ الأوّل.

إذًا، مسألة "أزليّة النصّ وطبيعته" هي مربضُ الفرس في أيّ جهدٍ للاصلاح الدينيّ. وقد يتساءل سائل: "أليس من الأسهل التركيزُ على تشجيع العلمانيّة، وتركُ الدين في المسجد؟" ربّما، ولكنْ، وحتّى إشعارٍ آخر، فإنّ أغلبيّة الناس في منطقتنا ستبقى متديّنة. ولأنّ كلّ مسلمٍ طيّبِ يريد إرضاءَ ربّه، فسيعود عاجلًا أو آجلًا إلى النصوص، معتقدًا أنّ تطبيقها أسرعُ وسيلةٍ للتقرّب إلى الله. وعليه، فإذا أردنا أن نصلحَ أمورَ البلاد حيث تعيش أغلبيّاتٌ مسلمة، فلا مناصَ من إصلاحٍ متصالحٍ مع الدين.

لقد قام المرحوم نصر حامد ابو زيد، الباحثُ المتخصّصُ في الدراسات الإسلاميّة وفي فقه اللغة العربيّة والعلوم الإنسانيّة، باستعمال أفكار المعتزلة بغية نقد الخطاب الدينيّ السائد. ومن صلب هذه الأفكار المقولةُ الشهيرةُ لفرقة المعتزلة بأنّ القرآن "مخلوق." ما تعنيه هذه الفكرة هو أنّ القرآن ذو بدايةٍ ونهاية، شأنَ أيّ كيانٍ مخلوق. وميزتُها أنّها متصالحة مع الإسلام، بل هي تمسّ إحدى المسائل المتنازَعِ عليها، حيث الاختلافُ جائزٌ ولا يَجرُّ على المعتقِد به حكمَ الارتداد.

نصر حامد أبو زيد

يُنقل عن أبي زيد قولُه إنّه لم يطلق مشروعًا إصلاحيًّا نهضويًّا، بقدْرِ ما كان بحثُه أكاديميًّا صرفًا. لكنّه، في الواقع، حاول أن يبني على فكرة المعتزلة أعلاه، ليدفع قُدُمًا بفكرةٍ مؤدّاها أنّ النصوص ــــــــــ ولا سيّما المثيرة للجدل ــــــــ لا تنطبق على كلّ زمان ومكان، بل هي ذاتُ سياقٍ تاريخيّ معيّن، وتنتهي صلاحيّتُها إلى الأبد بعد مرور هذا السياق. ومن أفكاره أيضًا، التي اعتَمد فيها على "أسباب النزول،" أنّ النصّ القرآنيّ "تفاعليّ،" لا إسقاطٌ من "أعلى إلى أسفل،" بمعنى أنّ النبيّ والصحابة والمعاصرين كانوا يؤثّرون في صياغة النص. ومن هنا، يستدلّ أبو زيد على أنّ للبشر حريّةً كبيرةً في الاجتهاد حتّى مع وجود النصّ. أمّا الروحيّة التي يجب أن يجتهدوا فيها، فيمكن استنباطُها من مقاصد القرآن؛ مثلًا: يبدو واضحًا أنّ القرآن لا يشجّع على العبوديّة، بدليل الحضّ على عتق العبيد كفّارةً عن العديد من الذنوب؛ لذا، يمكن الاستنتاجُ أنّ "استكمالَ" النصّ القرآنيّ في السياق التاريخيّ الحاليّ يكون بتحريم العبوديّة، عوضًا من إحيائها (كما فعلتْ داعش حين أسّست سوقًا للنخاسة في الموصل!).

روحيّة الاجتهاد نفسُها يمكن تطبيقُها في العديد من النصوص "المثيرة للجدل،" وتعطيلُها باستعمال قواعدَ دينيّةٍ جديدةٍ متصالحةٍ مع القرآن والعصر. ويمكن تطبيقُ مقاربةٍ كهذه من أجل مساواة المرأة بالرجل في كلّ شيء لأنّ الأصل في القرآن هو المساواةُ بينهما أمام الله. كما يمكن تطبيقُها من أجل تعطيل النصوص التي تدعو إلى العنف ضدّ غير المسلمين، ومن أجل تعطيل كلّ النصوص التي تتناقض مع العقل المعاصر ومع المنظومة القيميّة التي يقبلها أغلبُ الناس على سطح هذا الكوكب.

إنّ مثل هذاالمشروع لم ينطلق بعد، وأبو زيد توفِّي قبل أوانه، مثلما توفّي مجتهدٌ آخر هو محمّد أركون. ولكنّ من الواضح أنّ أبا زيد عثر على فكرةٍ ثوريّةٍ في ما تبقّى من الإرث الإسلاميّ غير السائد، وقد تكون هي الأساسَ في أيّ مشروعٍ لإصلاح الإسلام وتثويره. والفكرة هنا هي أنّ على المتديّن أن يوقن بأنّ هذه المقاربة المتصالحة مع العصر والقيم لا تُخالف إيمانَه، بل هي من النتائج الطبيعيّة التي ارتضاها اللهُ لدينه، وذلك لكون القرآن مخلوقًا، ينحصر التطبيقُ الحرفيُّ لنصوصه في السياق التاريخي للقرن السابع الميلاديّ، فيما تبقى مقاصدُه الكبرى وحدها صالحةً لكلّ زمانٍ ومكان.

 


(2) المتشابه:  ما احتمل أكثر من وجه http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=17144

(4) وهي مجموع القوانين والأحكام التي استنبطها الفقهاء من القرآن ومن أحاديث النبيّ.

كريم طرابلسي

كاتب  وصحفي ومترجم لبنانيّ. طالب ماجستير بقسم دراسات الترجمة بجامعة بورتسموث ببريطانيا.