الزيارة مستمرّة - إلى أمّي
31-10-2018

 

يتواصل الأسرى مع العالم الخارجيّ بطرقٍ شتّى: من خلال الراديو أوّلًا، ثمّ التلفاز في مرحلة متأخّرة،(1)ومن خلال الجرائد التي تتعمّد إدارةُ السجن إيصالَها بعد أسابيع من صدورها. هذا فضلًا عن الرسائل المهرَّبة ذاتِ الطابع التنظيميّ النضاليّ (أو الشخصيّ)، والرسائلِ البريديّة التي تخضع لرقابة السجّان الشديدة.

 

الزيارة: قبل... وبعد

على أنّ زيارةَ الأهل إلى الأسير، مرّةً كلَّ أسبوعين، هي التي تشكّل نافذتَه الأساسيّةَ للاطّلاع على العالم الحيّ الأقربِ إليه: عالمِ البيت والعائلةِ والحارة والأصدقاء. في هذا اللقاء نعود، نحن الأسرى والأسيرات، أطفالًا في حضرة أمّهاتنا، نصغي ونسأل ونستفسر.

في السابق، كنّا نستطيع أن نلمسَ أناملَ أفراد عائلاتنا، وأن نطْبعَ القبلاتِ على وجوههم. وكانوا يحاولون مبادلتَنا بالمثل. لكنّ تدابيرَ السجن الصهيونيّ تغيّرتْ.(2)

وكنّا قبل الزيارة نفكّر مليًّا بما سنلبسه، وكأنّنا نملك عشراتِ الملابس! يومُ الزيارة عطلة، أو استراحةُ مقاتل. ننهض باكرًا، فنتناوب على استعمال الحمّام. ثمّ نلبس، ونبتدع تسريحاتِ شعْرٍ، ونزيّنُه بمَشابكَ ملوّنةٍ تكسر قتامةَ جدران الأسمنت التي نعيش بينها. بعدها، نجهِّز بعضًا من أشغالنا اليدويّة كي نقدّمها هدايا إلى الأهل والاصدقاء. ثم نجلس، وننتظر أن تنادي السجّانةُ على أسمائنا كي يبدأ فوجُ الزيارة الأوّل.

أمّا بعد الزيارة فتعيش كلُّ أسيرةٍ عالمَها الخاصّ، محاولةً استرجاعَ تفاصيلها، وتخيُّلَ حال البيت والعائلة والحارة التي تركتْها وراءها.

 

رلى ووالدتها في حفل تخرج رلى
 

أمّي: تسعُ سنوات من الحجّ على أبواب السجون

تسعُ سنواتٍ من الأسْر شكّلتْ بها أمّي العمودَ الأساسَ لصمودي، بل لصمودنا في الأسْر. جرى ذلك منذ لحظة الانتهاء من التحقيق معي، وقدومِها إلى أبواب مركز تحقيق "المسكوبيّة" في القدس، وصرختِها من خلف الأسوار: "ما تخفيش يمّا، خلّيكِ قويّة!"

قبل زيارتها الأولى تلك، كنتُ أعتقد أنّ عليّ أنْ أشدَّ من أزرها. كان كلُّ همّي أن أعثرَ على الكلمات المناسبة كي أشرحَ لها كيف اخترتُ هذا الطريقَ، الذي لا رجعةَ لي عنه، وهي التي كانت تنتظر أن أُزَفَّ عروسًا بعد شهور! يومها، منعتُ نفسي من تقبيل يديها على شبك الزيارة، متوهّمةً أنّ ذلك سيوفّر عليها عذابَ إشعارها بمدى الحنين والحُبّ اللذيْن أكنّهما لها ولعالم الحريّة. دمعتْ عيناي، واختنقت الكلماتُ، ولم أستطع ان أقول لها شيئًا.

لم تنقطع أمّي عن زيارتي في السجن يومًا، حتى في عزّ الشتاء والثلجُ يكسو المنطقة، وعلى الرغم من تصاعد وتيرة الانتفاضة الأولى (نهاية 1987 ــــ ...)، وفرضِ الاحتلال طوقًا أمنيًّا شاملًا على الضفّة الغربيّة. وحين كان الصليبُ الأحمر يرفض تسييرَ حافلات الزيارة لهذه الأسباب جميعها، كانت أمّي تجد الوسيلةَ كي تخترقَ الطوقَ لتصلَ إليّ.

ولطالما قلتُ لها إنْ لا داعي للمجيء في مثل تلك الظروف ــ ــ فنحن بخير، بل في وضعٍ أفضلَ من وضعكم لكوننا في السجون، في حين أنّكم تواجهون الرصاصَ في الشوارع! وكنتُ أكمل بلهجة ساخرة: "الجماعة (أي الاحتلال) محافظ على حياتنا!"

قاسيةٌ دقائقُ الزيارة وهي تمضي، وأمّي تجهد كي تسردَ كلَّ الأخبار ــ ــ من البيت، إلى الجيران، فالحارة، وصولًا إلى السياسة. وهنا، في السياسة، كانت لا تكتفي بنقل الأخبار، بل تغوص أيضًا في التعليق والنقد وطرح سيناريوهات المشهد السياسيّ والانتفاضيّ المقبل. كانت تعتبر نفسَها "الناطقَ الرسميَّ" باسم الرفاق في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين خارج السجن، تنقل أخبارَهم بحرصٍ شديد، حتى يكاد صوتُها لا يُسمع وهي توشوش في أذني ما تريد قوله عنهم. حين تذكر أسماءهم، تتلفّت عيناها شمالًا ويمينًا، بحثًا عن السجّانة التي تراقب. تغافلها، وتهرّب من الشباك الصغير رسالة "كبسولة." (3) ولا يفوتها أن تقول: "ديري بالك عليها منيح" ــ ــ وكأنّها مسؤولٌ حزبيّ يلقي تعليماتِه الأمنيّة ويودّ التأكّدَ أنّ كلَّ شيء يسير وفق الخطّة المرسومة.

ثمّ إنّ أمّي لم يكن يفوتُها استعراضُ بطولاتها في حارتنا. فهي كانت تحافظ على الشباب والمصابين في بيتها حين يهربون من الجنود، إذ كانت تهرّبهم من الباب الخلفيّ، ثم تقف أمام الباب الرئيس، والمكنسةُ في يدها، وتبدأ في شتم الجنود وتهديدهم بعدم دخول البيت: "أنا أرملة، وفشْ في البيت إلّا بنات، ممنوع تدخلوا!" وتبقى على هذه الحال، إلى أن تعطيَها أختي "الإشارةَ" بأنّ كلّ شيء على ما يرام.

لم يفت أمّي يومًا أن تجلب لي ولرفيقاتي الأشياءَ البسيطةَ التي يُسمح بإدخالها إلى السجن. كانت "مموِّنًا" عظيمًا لاحتياجاتنا. ولكنّها كنت تأتي أيضًا بأشياء إضافيّةٍ من اجتهادها. وإنّي لأذكرُ أنّها جاءتنا بأكياسٍ صغيرةٍ ملوّنة للاحتفال بعيد الميلاد، وعليها رسومٌ لبابا نويل ولأجراسِ الميلاد.

ذات يوم قلتُ لأمّي إنّ الأخت لمياء مشتهية "حواشات خروف." وبمناسبة عيد الميلاد، سُمح لي بالحصول على "زيارة عيد" وبإدخال بعض الحلويات. سألتُ الأسيرات ماذا يُرِدْن، ثمّ أخبرتُ أمّي بطلباتهنّ، فاختارت أكبرَ صندوقٍ ممكن. فوجئتُ بعد الزيارة أنّها لم تنسَ أيًّا من الطلبات، بما في ذلك حواشات الخروف!

هذه أمّي: تسعُ سنوات وهي تحجّ كلَّ أسبوعين إلى السجن لزيارتي، بلا كلل أو ملل. لم تنطفئ ابتسامتُها يومًا. لم تبكِ. لم تتذمّرْ من صعوبة الزيارة (كانت تخرج من البيت في الرابعة صباحًا ولا تعود إلى البيت إلّا مساءً). حرصتْ على إسماعي أفضلَ الأخبار. كانت المُراسلةَ الحزبيّة الأولى. حيث أرسلُها تذهب! اعتبرتني حزبَها، وكنت عضوَه الوحيد.

 

حين خرجتُ... ودخل رفاقٌ آخرون

كان قدَري أنْ يكون منزلي مقابلَ الموقف الذي يتجمّع فيه الأهلُ في انتظار باصات الصليب الأحمر التي ستُقلّهم لزيارة الأسيرات والأسرى. من شبّاكي كانت أصواتُهم تتسلّل إليّ صباحًا، فتوقظُني. كانوا يقفون على الرصيف، في البرد وتحت المطر. كان الأطفالُ يرجفون، ونعاسُ الصباح ما يزال يغشى عيونَهم. وكانت أمّهاتُهم يتبادلن أخبارَ الأسرى، ويستعرضن ما أحضرن لهم، وينتظرن كي تمضي الحافلةُ بالجميع.

مع الوقت، صرتُ أصحو مع أهالي الأسرى، وأعيش في داخلي رحلةَ الآلام التي عاشتها أمّي. ثمّ صرتُ أخرج إلى الرصيف، فأشاركُهم الأحاديثَ، وبعضًا من القهوة أو الشاي، وأنتظر في البيت عودتَهم مساءً. كان ذلك بمثابة "زيارتي" الرمزيّة إلى الرفاق الأسرى، والخيطِ الذي أبقيتُه معهم.

 

حين صرتُ زوجةَ أسير

ثم جاءت اللحظةُ كي أعيشَ فعليًّا كلَّ ما عاشته أمي. فقد اعتُقل زوجي وسام [الرفيدي] أثناء الاجتياح، وأُودِع في سجن النقب الصحراويّ، ومُنعتُ من زيارته طوال العالم الأوّل من الأسر، ثم سمح لي بزيارتين بعد ذلك. فصارت ابنتي الصغيرة أنمار (ثلاث سنوات) هي التي تقوم بهذه الزيارة، تصحبُها صديقاتُ العائلة. حينَها، أدركتُ معنى أن ينقطع الأهلُ عن الزيارة رغمًا عنهم، وأدركتُ معنى القهر الصامت والغضب الداخليّ اللذين يتملّكاننا من عدم قدرتنا على التواصل ولو عبر شبك الزيارة.

حقًّا، ما كان أعظمَ الرفيقات والأسيرات من حولي وهنّ يتجرّعن غضبَهنّ وقهرَهنّ حين تنقطع الزيارةُ عنهنّ، فيتصرّفن كأنّ ذلك تحدٍّ آخر ينتصرن به على السجّان. وهكذا، كان عليّ أنا أيضًا أن أقاوم، وأن أؤدّي دوري في هذه الدائرة التي لا تنتهي من معاناة الأسْر، وأن أدفنَ حزني وألمي في مكانٍ بعيد، وأمضي مسيرتي في الحفاظ على العائلة.

عشتُ أسيرةً أنتظر زيارةَ أمي. وانتقلتُ بعدها إلى مشاركة الأهل معاناةَ الصباح قبل ذهابهم لزيارة أولادهم. ثمّ أُغلقت الدائرةُ عليّ عندما أصحبتُ زوجةً وأمًّا... ولكنْ هذه المرّة بلا زيارةٍ ولا أخبار، وبلا أصابع تمتدّ من فتحات الشَبَك لتبثّ بعضًا من الشوْق والحنين. واكتفيتُ بتحسّس ابنتي وشمِّ رائحتها بعد زيارة السجن، كي ألتقطَ بعضًا من "وسام" الغائب في الأسْر.

سلامٌ إلى روحك يا أمّي. وسلامٌ إلى كلّ الأمّهات اللواتي مازلن على درب الآلام، يَحملن صليبَهنّ، ويمضين لزيارة أبنائهنّ وبناتهنّ الأسرى في السجون، بحبّ أعظم ولهفةٍ أكبر.

فلسطين المحتلّة

 

(1)  سُمح بإدخال التلفاز بعد إضراب الأسرى في العام 1986.

(2) في الأعوام العشرة الأخيرة استُبدل شبكُ الزيارة بزجاج مغلق، وبات الحديثُ مع الأهل يتمّ عبر هاتف.

(3)  الكبسولة عبارة عن رسالة مكتوبة على ورق شفّاف جدًّا، وبخطّ صغير جدًّا كي تتّسع لأكبر قدر من الكلمات. يجري لفُّ هذه الرسالة حتى تصبح بحجم كبسولة الدواء أو حبّة الملبَّس، فيَسْهل تهريبها.

رلى أبو دحو

أسيرة محرّرة، قضت تسعَ سنوات في سجون الاحتلال. خاضت العشرات من الإضرابات عن الطعام مع الحركة الفلسطينيّة الأسيرة، أهمُّها: الإضراب التاريخيّ والمفصليّ عام 1992. تعمل حاليًّا محاضرةً وباحثةً في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، فلسطين المحتلّة.