السر الذي لم أفصح عنه
16-08-2018

 

شاءت ظروفُ حياتي أن أعمل في سنّ مبكّرة، تخلو من سعة التجربة وكشف نوايا الناس المبطّنة. لم أكن أناهز السابعة عشرة من العمر. وكنتُ نضرةً، جميلةً، بريئةً، محتشمةَ المظهر.

عملتُ في مؤسّسة تربويّة. اخترتُ لنفسي  طريقَ الاستقلال المادّيّ، ونحتَ التمثال المهنيّ الذي كنت أتوق إليه. كان والدي يقول لي :"التعليم أشرفُ المهن على الإطلاق، وأكثرُها أمانًا للمرأة من رذالة المجتمع المريض." أتُراني صدّقتُه آنذاك؟

وكان مديرُ المؤسّسة التي أعمل فيها  في الستّين من العمر، مستديرَ الجسد، وجهُه أليفٌ كوجه كلب البولدوغ، لكنّه يعكس شراهةً وغباءً. وكنتُ أُضطرّ إلى الذهاب إلى مكتبه لأوقّع الحضورَ والمغادرة، وهو لم يترك فرصةً ولو ضئيلةً كي يلامس جسدي الفتيّ. حتّى بتّ أتعمّد الذهاب إلى مكتبه وقت الزحام، كي أنجو بجسدي من أصابعه المقرفة.

***

ذات صباح، رأيتُه يقف قبالة مكتبه في الطابق الثالث، يعاين غرفتي في الطابق الثاني. وما لبث أن نزل إلى مكانٍ موازٍ لمكان وقوفي، وأنا ألصق الكرتون على الحائط. نزلتُ عن الكرسيّ وتواريتُ عن نظره. عند انتهاء الدوام، غادرتُ وسط الزحام كي لا يفوتَني "قطارُ الأمان."

غير أنّه ناداني من بين الجميع، يريد إعطائي أوراقًا أسلّمها إلى وزارة الماليّة في اليوم التالي. أمسكتُ يدَ زميلتي كي تأتي معي. لكنّ صديقتي تظنّ أنني مغرورة، أتوهّمُ أنّ "كلّ الرجال" معجبون بي. وكانت كلّما أخبرتُها عن توجّسي من المدير، تسخر مني قائلةً: " هيدا جدّو ختيار ما بيطلع منه شي!"

دخلتُ غرفة المكتب وحيدةً، لكنْ شبهَ مطمئنة لكون الباب مفتوحًا. غير أنني لم أعرف أنّ مناوراته السابقة كانت تهدف إلى مراقبة الموقع عند كلّ طابق. شدّني بعزيمةِ شابٍّ إلى زاوية الحائط، وألصقني به بقوّة، مقحمًا جسدَه البشع على امتداد جسدي، مقرّبًا شفتَي "البولدوغ" من وجهي، وهو يقول: "لقد أعدتِني ثلاثين عامًا إلى الوراء..."

ليس القرف وحده هو ما انتفض في داخلي، ولا الشعورُ بالقهر والاستغلال، بل دارت في رأسي كلُّ مبادئ التربية والنظافة.

اندفعتُ أرفسُه بركبتيّ بكلّ قواي، وأزحتُ بأظافري فمَه ذا اللعاب النتن، ودفعتُه عنّي بكلّ ما في مراهِقةٍ مثلي من عزم وشدّة. ترنّح كالثَّمل، ثمّ استقرّ على طرف المكتب بإليته السمينة. بصقتُ في وجهه وخرجتُ مسرعةً.

بيْد أنّني سرعان ما أبطأتُ السيرَ، وألفُ فكرةٍ تدور في خلدي الصغير. فقد كنتُ أخشى أن تنتظرني في الخارج اتهاماتٌ شتّى إنْ رفعتُ صوتي، وأخشى ان يصبح استقلالي المادّي في خطر. لم أخبرْ أحدًا. لم يبق من كل الحادثة سوى آثار أصابعه على جلد وجهي.

في الصباح التالي، ذهبتُ إلى العمل باكرًا جدًّا، فوجدتُه وحده. لم أرمِ عليه السلام، وإنّما رميتُ أوراقي في وجهه وصرختُ والشررُ يتطاير من عينيّ:

"أنا لا أعمل لديك. أنا أعمل لدى الدولة. أنت رجل حقير. أنا أكرهك وأشفق عليك في  الوقت نفسه. اعلمْ أنك إنْ مددتَ يدكَ نحوي مرّة أخرى، فسآكلها بأسناني هذه، يا ختيار النحس..."

لم يتحرّك أو ينطقْ بحرف. استدرتُ ذاهبةً إلى عملي.

***

بقيتُ في المؤسّسة ستّ سنوات، لم يجرؤ خلالها المديرُ على النظر إليّ مباشرةً. لكنّ شعوري بالذنْب، وخوفي من بيئتي على سمعتي، ظلّا يتآكلانني حتى اللحظة: لماذا لم أبلِّغ عنه؟ لماذا لذتُ بالصمت؟

***

بعد سنة على تركي هذه المؤسّسة، سمعتُ بخبر الاعتداء على قاصرٍ فيها. حاولتُ جاهدةً تحريكَ الجهات المختصّة، لكنّ أهلَ الفتاة تركوا القرية تحت التهديد، فيما كُرّم  المدير ("العَلَمُ التربويّ"!) عند تقاعده.

لم يزل جهلي لعواقب سكوتي عمّا تعرّضتُ إليه يعذّبني. لو أنّني لم أخشَ من الاتهامات المحتملة، ولو لم أخف على رزقي واستقلالي المادي، لملأتُ الدنيا في تلك اللحظة صراخًا وزعيقًا، ولأبلغتُ عنه. فلربّما كانت الفتاة القاصر ستنجو من عدوان البولدوغ لاحقًا!

صور

*اسم مستعار. لبنانيّة، حائزة شهادة ماجستير في الأدب العربيّ.تعمل في المجال التربويّ منذ أكثر من 20 عامًا.

نسرين الدالي*

لبنانيّة. حائزة ماجستير في الأدب العربيّ. تعمل في المجال التربويّ منذ أكثر من 20 عامًا.