سقط الإناءُ على المساء
29-05-2018

 

 

(إلى جوزف حرب)
 

(1)

عَصَفَ الموجُ عصفَه في بحاري

وضلوعي كأنّ قلبي خليجُ

جسدي صخرةٌ ينامُ عليها

حارساها وموجةٌ لا تموجُ

وعلى جبهتي النوارسُ تهوي

مُهرُها الريحُ والعيونُ السروجُ

أنا تنهيدةُ الغريق على البحر المُسَجَّى

ووجهُهُ ويداهُ

مرسلات إلى السماءِ وإنِّي

لأرى، أسمعُ، القواقعَ تبكي

نائحاتٍ على الصدى وعليهِ

فلماذا يكاد يسقط صوتي

في جنوني

ويستبدُّ النشيجُ؟

كورسُ الريحِ هلّلوا هلِّلويا

فاخرُجوا يا أحبّتي واتبعوني!

جاء ميعادُنا

وحانَ الخروجُ.

 

(2)

أخذتْكَ جدَّتُك القديمةُ

أمُّكَ الأولى التي ربَّتك سبعينًا

من السنواتِ

منتدَبًا لموعدها

فقُلْ لي: ما رأيتَ؟

وقُلْ هنالكَ مَن رآكْ؟

أعبرتَ حقًّا في السحابِ

وأنتَ حرّ كالسحابِ كأنَّما

شرب السحابُ دموعَه ومضى

كما خُطِفَ الملاك؟

ورأيتَ فلَّاحين فوق الساحةِ البيضاءِ

يجتمعون من فجر الخليقة للمساءِ ليسألوا

عن سرِّ مَنْ حملته أرحامُ السنين وبشَّرتْ بمجيئه الناياتُ والغاباتُ

هل تهديه مغلولًا إلى ذئبِ الهلاكْ؟

سمَّتكَ أمُّكَ "يوسُفَ" المنذورَ للرؤيا

فأوَّلتَ السنابلَ،

وابتكرتَ النايَ من قصبِ الخيالْ

وَمَشَتْ عرائِسُ من ذُرى "حرمون" نحو البحرِ

تبحثُ عن خطاكْ

يا "سُرَّ (ثمَّةَ) مَنْ رآكْ" سكر الحصى في الماءِ

واشتعل الأراكْ

وجرى "الحصان / النهرُ" خلفَكَ

والفتى / المذعورُ

من سمته خالتُهُ الهوى

ودعاه والده السَهَرْ رَقَصَ الغَجَر

فرحين في ثوبٍ من المرجانِ

آخرهُ رجوعُ مراكب الغرقى

وأوَّلهُ السَفَرْ.

هل يرجع الموتى إذا أزفّ السَّفَرْ

وكأنّ ما بيني وبينك نصفُ دائرةٍ من الكلماتِ

خلَّفها لنا طفلانِ

يتّفقان في عدِّ النجوم

وربَّما اختلفا على عدِّ القمرْ

وتقولُ أنتَ رأيته يمشي على قدمين فوق الماءِ

متَّجهًا إلى بيت الحبيبةِ

كي ينامَ على الرمالِ بقربها

وتقول كان صديقها في الصيفِ

جار الرملةِ البيضاءِ.

جاءَ الصيفُ

وانكسر الإناء على المساءْ

وأقولُ جاء الصيفُ وانكسر الإناءْ

 وأنا أريد الآنَ أن أبكي

وأسأل ما يقول التيهُ للعشقِ الذي يُفنيهِ

هل يُفنيهِ كي يحييه

أمْ يحييه كي يفنيه؟

إنِّي قد رأيتُ جبينَه العالي

وقامتَه على ظلَّيْن من كِبَرٍ

وأجملُ دارِهِ مَنْ فيه لا ما فيهِ

ما كَذَبَ الفؤاد بما رأى من سِرّ مَنْ حملتْه أرحامُ السنين

وبشَّرتْ بمجيئه الناياتُ والغاباتْ

هل تُهديهِ مغلولًا إلى ذئبِ الهلاكْ؟

ورأيتُ فوق السنديانِ الأخضرِ العصفورَ

يضحكُ

والحمامَ ينوحُ،

فالتبس الكلامُ على المُغنِّي

لم يبقَ ليلٌ كي يمدّ بصوتِهِ "يا ليل!"

وانكسر الإناءُ على المساءْ

من أينَ يبتدئ الغِناءُ؟

من البكاءِ

أمِ السماءْ؟

وعلامَ لم تبرحْ تُواجهنا كسورُ المزهريَّه؟

صبِّي إذنْ كأسيْن

وانتظري جنوني

سأصّب نخبًا في الترابِ

وأسكبُ الثاني عليّا

وأظلُّ أصهلُ في براري الموتِ

لم أبرحْ

ولم يبرحْ صبيّا

وأظلُّ أنزعُ في الدمِ العالي عيوني

لتُصيبَ وجهَكَ وهو يرحل في السرابْ!

أعبرتَ حقًّا في السحابِ

وأنت حرّ كالسحابْ؟!

فامكُثْ هناكَ ولا تعُد في الصوت؛

إنَّ الصوتَ محمولٌ على جَمَل المحامِلِ

في صحارى

لم يعد فيها نبيٌّ أو كتابْ

موتى يجرُّون الحياةَ

كما تجرّ ذُبابة الراعي

القطيعَ لحتفِهِ

والفُلُّ أسودُ كالغرابْ

أسئمتَ هذا المشهدَ البدويَّ في مدنِ الذبيحةِ والخرابْ

فرحلتَ؟

أمْ أنّ البنفسج لم يعد يكفي

ليرتُقَ ما تفسَّخ من نسيج الأرض ؟

والطرقاتُ قُطّاعٌ وسيّافونَ

قد جعلوا هواهم في الخديعةِ ربَّهم

فإذا رموْا أو صوَّبوا

قتلوا القمرْ

صلبوكَ فوق حروفك البيضاء

وانقطع الوتَرْ!

فامكثْ هناكَ

ولا تُعدْ

سأراكَ أجملَ ما تكونُ إذا ابتعدتَ

وأن تظلَّ بخاطر الأرضِ الغيابْ

والأرض أجمل ما تكون

إذا تلفَّعت الضبابْ

صلّى عليكَ النايُ والمرعى

وكبَّر في تهجُّدِهِ الترابْ

أوصيكَ يا ذَهَبَ الحديقةِ بالترابْ !

                                                                                        لبنان

محمد علي شمس الدين

أديب وشاعر من جنوب لبنان. حائز دكتوراة دولة في التاريخ، وإجازة في الحقوق. صدر له عن دار الآداب: أميرال الطيور، ممالك عالية، اليأس من الوردة ، طيور الى الشمس المُرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، أناديكَ يا ملكي وحبيبي، النازلون على الريح، وسيصدر قريبًا ديوانه الجديد، كرسيّ على زبد، عن الدار نفسها.