طعامٌ ساخن
13-11-2016

 

 

يعود والدُها من عمله يوميًّا في تمام الخامسة عصرًا. يدخل المنزلَ مرهقًا. يرتدي ثيابَ النوم المريحة. في هذه الأثناء تهمّ أمُّها بتحضير الطعام اللذيذ الساخن؛ فهو لا يأكل الطعامَ إلّا طازجًا وساخنًا.

 تتذكّر يومَ مرضتْ أمُّها. حينها لم تتمكّنْ من إعداد الطعام، واستعاضت عنه بوجبةِ الأمس. فما كان منه إلّا أن استشاط غضبًا بعدما تذوّقه، وبلمح البصر قلب الطاولةَ على الأرض وتكسّرت الأطباقُ جميعُها.

لم تستغرب الفتاة ردَّ فعلِ أبيها، بل لامت أمَّها على تقصيرها؛ فبعد يومٍ متعبٍ في العمل، آخرُ ما يستطيع المرءُ تحمُّلَه هو طبقُ طعامٍ بارد!

تبلغ الفتاةُ من العمر خمسةَ عشرَ عامًا فقط، لكنْ يبدو عليها النضجُ واضحًا. وحين قالت لها صديقتُها: "إنّك جميلةٌ جدًّا يا سارة، وتشبهين الممثّلةَ التركيّةَ في مسلسل الحبّ الضائع،" ابتسمتْ لها وشكرتْها، لكنّها لم تكترثْ للمجاملة؛ فهذه المسلسلات ممنوعةٌ في المنزل "لأنّها تحثّ على الحرام والرذيلة،" كما يقول والدُها كلّما رأى أمَّها تشاهدُها خلسةً.

تبتعد عمّا يزعج أباها. هي تحبّه، لكنّها تخافُه. تتذكّر حادثةَ الشريط. فذات مساء اقتحم غرفتَها، وهجم على آلة التسجيل، ورماها أرضًا، فتناثرتْ قطعًا صغيرةً. كانت تستمع إلى شريطٍ لأحد المطربين، أعارتها إيّاه صديقتُها ياسمين، فمنعها والدُها من أن تزورَها مجدّدًا، أو أن ترافقَها في المدرسة، لأنها "ستفسدها." فابتعدتْ عنها رويدًا رويدًا، حتّى أصبحت تراها من منظار والدها: "فتاة سيّئة!"

لم تكن ياسمين ضحيّةَ أبيها الوحيدة؛ إذ لم ترُقْ له أيٌّ من صديقاتها، لسببٍ أو من دونه. وتدريجيًّا، لم تعد تروقُ لها، هي أيضًا، صداقاتُهنّ، وأحاديثُهنّ عن المسلسلات والممثّلات والمطربين والمطربات؛ بالإضافة إلى الحبّ؛ أيْ كلُّ ما لا يعنيها، وما هي ممنوعةٌ منه.

كانت حياتُها مملّةً وروتينيّةً بامتياز؛ حياةَ فتاةٍ مراهقة، تذهب إلى المدرسة صباحًا لتعود إلى المنزل، فتدرس ثمّ تنام، وفي العطل ترافق أمّها إلى السوق لشراء الحاجيّات.

إلى أن تقدّم لخطبتها صفوان، وهو شابٌّ يعمل مع أبيها، ويكْبرها بعشر سنوات كما قال أبوها، رغم أنّ جميع من رآه حدس أنّه في الخامسة والثلاثين على الأقلّ.

في المرّة الأولى التي رأته فيها، كان أبوها قد دعاه إلى الإفطار في ثالث أيّام شهر الصيام. كان صفوان أوّلَ رجل غريب يدخل المنزل. لم يخطر في بالها أن يكون عريسًا لها؛ فهو يبدو طاعنًا في السنّ، وملامحُه غليظة، كما صوتُه الخشن. وهو لا يغلق فمَه أثناء مضغ الطعام أو الكلام.

***

بعد عامٍ على زواجها منه، وكان ثالثَ أيّام عيد الفطر أيضًا، ما زال يأكل ويتكلّم بالطريقة ذاتها. يخرج صباحًا إلى عمله ليعود عند الخامسة منهكًا. تجهّز له الطعامَ في الوقت الذي يغيّر فيه ثيابه، لأنّه لا يأكل الطعام إلّا ساخنًا.

فبعد يومٍ متعبٍ في العمل، آخرُ ما يستطيع المرءُ تحمُّلَه هو طبقُ طعامٍ بارد!

لبنان

فاطمة خلف

كاتبة وصحفيّة  من لبنان.