هديّةُ ليليت
04-08-2019

 

أسمعُ صوتَ دعساتٍ على الدَّرج.

إنّها ليليت.

أفتحُ الباب. فتغمرني موجةٌ من العطر، مع ابتسامة مشرقة كشمس الصباح.

- لقد أتيتِ، أقول، فاسحًا لها المجال كي تدخُل.

- أكان عندكَ شكّ في قدومي؟ تسألني، وهي تُعلّقُ جزدانَها على ظهر الكرسيّ القريب، ثم تقدّم إليّ كيسًا ورقيًّا سميكًا فيه عدّةُ ثقوب. أفتحُ الكيسَ بحذرٍ لأجدَ في داخله كومةً صغيرةً من الشّعر الأبيض، بعينين دائريتين، وذيلٍ صغير.

- ما هذا؟ قطّة؟!

- قُلْ مرحبًا لباستيت.   

- مرحبًا باستيت، قلتُ بطريقة آليّة.

- إنّها هديّتي لكَ.

لستُ من محبّي القطط. وتجربتي الوحيدة مع هذه الكائنات تتلخّص بملاحقتي لها مع رفاق الطفولة في زواريب الحيّ للإمساك بأذيالها والتلويح بها في الهواء. بالتأكيد لمْ أعُدْ الآن ذلك "المجرم،" لكنّ تاريخي القاتم ذاك لا يؤهّلني للتعامل مع هرّة صغيرة كباستيت، التي كانت تنظر إليّ برعب، وتموءُ مستغيثةً كأنّها عَرفتْ أيَّ نوع من البشر هذا الذي يحملها بين يديه.

- بيسووو.. قلتُ مداعبًا القطّة، علّها تهدأ قبل أنْ تظنّ ليليت أنّني أؤذيها بطريقةٍ ما.

- إنّه اسم فرعونيّ، قالت ليليت.

ثمّ راحت تحدّثني عن مكانة الهررة عند الفراعنة، وكيف استأنسوا هذا الحيوان وهجّنوه. فباستيت (ويقال لها باست أيضًا) هي إحدى الآلهة الفرعونيّة، ولها منحوتات ورسوم على هيئة امرأة برأس قطّة. لكنّها، عندما تغضب، تتحوّل إلى "سخمت" (وهي لبؤة مفترسة تنتقم من الأعداء، ومن ذوي الخلق الرديء). وختمتْ ليليت حديثها بمعلومة أخرى مفادها أنّ باستيت هذه تكون ابنة معبود الشمس رَعْ. وتحوّلتْ إلى مناغاة القطّة ومداعبتها بصوت طفوليّ مضحك.    

- انظرْ ما أجملها! انظر إلى عينيها اللطيفتين.

- يا لجمالها! قلتُ، متمنّيًا في سرّي رميَها من النافذة.

- سَرّني أنّكَ أحببتها.

- ولكنْ ما هذا! إنّه ذكر! قلتُ، وأنا أشير بسبّابتي إلى خصيتين صغيرتين تحت الذيل.

احمرّ وجهُ ليليت من الخجل وهي تنظر إلى حيث أشير. فتماديتُ أكثر، وأخذتُ أداعب خصيتي القطّ الصغير وأنا أنظر إلى عينيها، ما جعلها تشيح بنظرها وتسألني:

-  ماذا سنسمّيه إذًا؟ فاسمُ باستيت لا يصلح لذكر.  

- فيصل.

- فيصل! صاحتْ باستغراب، ثمّ سألتْني: كيف خطر في بالك مثل هذا الإسم؟!   

- انظري إليه كم هو فيصل، قلتُ بكامل الجديّة، وهي تستغرق في الضحك.

***

بعد عدّة أيّام التقيتُ مصادفةً بصديقي برهان، فتذكّرتُ فيصل، زميلَنا من مرحلة الدراسة الابتدائيّة الذي كان يجلس في المقعد مع برهان ويلازمه كظلّه. لم أستطع منعَ نفسي من الابتسام حين تذكّرتُ خصلة الشعر البيضاء التي كانت تزيّن رأسه؛ فهي تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ تلك التي تزيّن رأس القطّ الصغير. ليس هذا وحسب، بل وجدتُ أنّ فيصل القطّ يشبه - بطريقة ما - فيصل التلميذ.  

- إذًا من هنا جاء الاسم.

هكذا وجدتُني أخاطب نفسي، مُتَعجّبًا من تأثير اللاوعي وأفعال العقل الباطن، ومن غرابة الذاكرة والدماغ البشريّ.

ما إنْ تركتُ برهان حتى سارعتُ للاتصال بليليت لأكشفَ لها عن سرّ اختياري هذا الاسمَ الغريب. ولم أعرف أنّني قد جلبتُ لنفسي البلاء إلّا صبيحة اليوم التالي، حين وجدتُها على باب شقّتي وبين يديها قطٌّ صغيرٌ آخر. ولكن هذه المرّة كانت قد تأكّدتْ من جنسه، وأطلقتْ عليه اسمَ برهان.

- أعرفّكَ إلى برهان.

- ......... !

- انظر إليه كم هو برهان! قالت وهي تضعه بين يدي.

- ........ !

- ما بكَ! هل أكل القطُّ لسانكَ؟

لم يكن في برهان ما يوحي أنّه برهان! حتّى لو نزعنا عن عيني صديقي نظّارتَه الطبيّة السميكة، وحلقنا له شاربيه الكثّين، فلنْ يشبهه في شيء. ولكنْ كيف لليليت أنْ تعرف ذلك، وهي لم ترَ صديقي السمين برهان يومًا؟   

- إنّه برهان فعلًا، قلتُ مجاملًا، وأنا أعاينُ خصيتيْه كما في المرّة السابقة.

***

تعرّفتُ إلى ليليت في كلّيّة الفنون الجميلة، حيث أدرس في قسم النحت. رأيتُها جالسةً على الأرض في حديقة الجامعة، غارقةً في شاشة اللابتوب، تعالجُ أمرًا ما. عندما مررتُ قربها رأتني أسترقُ النظرَ إليها، فابتسمتْ بطريقةٍ شجّعتني على المبادرة.

- هل تريدين المساعدة؟ قلت وأنا أقترب منها.

- ألستَ النحّاتَ الذي نشروا صُورتَه وتكلّموا عليه في الصحف منذ أيّام؟ قالت متسائلةً وهي تميل برأسها جانبًا وتنظر نحوي بلطف.

كنت قد شاركتُ، فعلًا، بعملين نحتيّين في معرض جماعيّ تحيّةً لفنّان صديقٍ مات قبل عدّة أسابيع. ويبدو أنّ ليليت شاهدت التغطية الإعلاميّة التي رافقتِ المعرض.

- أنْ يصنعَ المرءُ عدّةَ تماثيل، ثمّ يعْرضَها على النّاس، لا يجعل منه نحّاتًا بحقّ.  

- ماذا يجعل منه إذًا؟ سأَلَتْني وهي تسوّي جلستها بعد إغلاقها شاشة اللابتوب.

- لا أعلم، وأجد أنّه من المبكّر أن أوضَعَ في مصافّ نحّاتين كِبارٍ أمثال محمود مختار، وسعيد مخلوف، ومحمد حكمت، وجواد سعيد.

وكدت أضيف: "الفنّان الحقيقيّ هو صاحب مشروع فنيّ." لكنّني أحجمتُ كي لا أبدو متكلّفًا أكثر من اللزوم.

- صورتُكَ المنشورة في الصحيفة لا تُظهرك متواضعًا! قالت.

وقرأتُ في نظرتِها شيئًا من الإعجاب.

***

حصل هذا قبل ثلاثة أشهر، ولا تزال ليليت تعتبرني صديقًا فقط، مع أنّنا كنّا نقضي معظم الوقت معًا: نشاهد الأفلامَ على لابتوبها، نستمع إلى الموسيقى، نتبادل الكتب، نزور الأصدقاء معًا، نأكل سندويشات الفلافل والشاورما ونحن نتسكّع في أرجاء المدينة كعاشقيْن، وفي آخر الليل يتمنّى كلّ منّا للآخر نومًا هانئًا عبر رسائل قصيرة مليئة بالقلوب والوجوه المبتسمة.

كنتُ مغرمًا بها. إلّا أنّني رضيتُ بلعب دور الصديق، موقّتًا كما كنتُ آمل، خوفًا من خسارتي لها. وها أنا اليوم أستقبل برهان الصغير برحابة صدر، وأضعه قرب فيصل ليتعارفا، ثمّ أجلس معها في المطبخ لنشرب القهوة ونتحدّثَ كصديقين عن أمور لا تهمّني في شيء. ما كان يشغلني حقيقةً أثناء لقاءاتنا كلّها هو سؤال وحيد: كيف، ومتى، سأكون مع ليليت في السرير؟

وكنتُ قد وضعتُ سيناريو من أجل هذا اليوم، وصرتُ أعدّل وأبدّل فيه بعد كلِّ لقاء. فعلى سبيل المثال، حين عرفتُ أنّها مهووسة بالترتيب، ألغيتُ فكرةَ رمي ثيابنا على الأرض كما يحصل في الأفلام، ووضعتُ قرب السرير كرسيًّا خشبيًّا أنيقًا كي أضعَ عليه لباسَها الداخليّ وباقي ثيابِها، بعد أنْ أُرتِّبَها بيديّ. (والحقّ أنني بدّلتُ وغيّرتُ كثيرًا في هذا التفصيل بالذات، وكنت دومًا أجد أنّ سلوكي غيرُ مقْنع، أو أخرق، أو مُبالغٌ فيه؛ إلى أنْ قرّرتُ أنْ أترك نفسي على سجيّتها، وأتصرّفَ بما يقتضيه الظرف).

كذلك غيّرتُ أكثر من مرّة نوعَ المشروب الذي سنتناوله بعد انتهائنا من ممارسة الجنس، إلى أنْ أستقرَّ رأيي على عصير الأناناس الذي تحبّه، لا البيرة، التي تبيّن أنّها لا تستسيغها إلّا مع الملح وعصير الليمون الممزوج بصلصة الصويا مع رشّة من الفلفل الحارّ  - - وهذا ليس في متناول اليد دائمًا.

كما أنّني وضعتُ إلى جانب السرير باقةً من زهر تعشقه، اللافندر، وهي التسمية الانكليزيّة للخُزامى كما شرحَتْ لي مرّةً. وذكَّرتْ له عدّة أسماء أخرى، أغربُها: الذنبان، والظرم، وحوض فاطمة. وكلّها أسماء لم أسمع بها قبل ذلك اليوم.

في هذه الأثناء كان فيصل قد توقّف عن الشخير في وجه برهان، واكتفى بإصدار مواءٍ تحذيريّ خفيف، جعلَ الضيفَ يعرفُ حُدودَه. وكانت ليليت تراقب المشهد وتضحك من سلوك القطّيْن، وهو سلوك كان مسلّيًا بلا شكّ، لكنْ ليس لمن هو مثلي: أكابدُ العطشَ، والماءُ أمام عينيّ.

***

مع مرور الأيّام تعلّقتُ بالقطّيْن، وصرتُ أفهم شخصيّةَ كلٍّ منهما. ولم يخطرْ في بالي يومًا أنّ لكلّ قطّ - كما البشر - شخصيّةً أو نفسيّة تميّزه مِن غيره من أبناء جنسه. كان فيصل أكثرَ مَرَحًا، وأقرب إلى القلب، ولا يشبع من اللعب؛ على خلاف برهان، الذي يحبُّ النوم، ولا يلعب إلّا إذا تحرّشتُ به، وغالبًا ما يُنهي اللعبَ من تلقاء نفسِه، فيبتعد وهو يموءُ بطريقة مضحكة كأنّه يقول متأفّفًا: اتركني بحالي، لقد اكتفيت.

وصار أصدقائي يجلبون لهما ممّا يفيض عن موائدهم من الطعام، ويقضون الوقت في اللعب معهما وتدريبهما على بعض الحركات. واهتزّ طويلًا من شدّة الضحك كرشُ صديقي برهان عندما زارني بعد طول غياب وعرّفته إلى فيصل وبرهان، وصار يخصّ الأخيرَ باللذائذ ويُجلسه في حضنه كلّما جاء لزيارتي، أو بالأحرى لزيارة "سَمِيِّه" كما كان يقول. كذلك أولاد الجيران باتوا يعرفون فيصل وبرهان، وينادون عليهما من خلف سور الحديقة، ويرمون إليهما بعضَ العظام ورؤوسَ الدجاج وغير ذلك ممّا تجود به حاويةُ القمامة القريبة.

أمّا بالنسبة إليّ فقد تحوّل القطّان إلى موضوعٍ رئيسٍ لعشرات الاسكيتشات التي رسمتُها بوساطة أقلام الفحم والرصاص. وكنتُ أخصّص كلَّ لوحة لوضعيّة مُعيّنة، لأحدهما أو لكليْهما معًا. وتأكّدتُ بعد فترة أنّني لو قضيتُ عدّة سنوات أرسمهما لما انتهتْ تلك الوضعيّات.

***

لقيَتْ رسومي السريعةُ تلك استحسانَ أصدقائي وأساتذتي. وشجّعني ذلك على المضيّ قدُمًا وتقديم دراسة فنيّة عبر المنحوتة تلحظ علاقةَ الإنسان بالهررة، وتأثيرَ ذلك في سلوك كلّ منهما. وبعد جولة مضنية من البحث والاستقصاء عمّن تناول هذا الموضوع سابقًا، من فنّانين وفنّانات عرب وأجانب، وجدتُ أنّ هناك ما أضيفه إلى هذا المجال؛ ما دفعني إلى العمل بجدٍّ أكثر. وهكذا بدأتْ تظهر في مشغلي تماثيلُ القطط، وبأحجام ووضعيّات اخترتُها بعناية من خلال مراقبتي لفيصل وبرهان. وقرّرتُ، بعد تشجيع أستاذي المشرف وبعض الأصدقاء، أن أعتمد هذه الدراسة - بما فيها من منحوتات ورسومٍ ومقاطع فيديو - مشروعًا للتخرّج.

وكي يكتمل العمل، كان لا بدّ من الإشارة إلى الموقف السلبيّ لشريحةٍ كبيرةٍ من أبناء مجتمعنا من الهررة، على الرغم من تمجيدهم لها في كتب التراث والتاريخ والأساطير كما ذكرتْ لي ليليت. وكان أحد مراجعي في هذا المجال سلوكي الشخصيّ في طفولتي، والعنف الذي كنتُ أمارسه مع رفاقي على هذا الكائن اللطيف.

***

في خضمّ هذه المعمعة، كانت حاجتي إلى الأنثى تتعاظم. وكانت ليليت - على قربها - بعيدةَ المنال. كنّا نتحاور دائمًا. وكنتُ سعيدًا بحواراتنا، مع أنّنا كنّا نختلف على الكثير من المواضيع والأفكار والتصرّفات. وكنّا نتشاجر في بعض الأحيان. لكن المودّة كانت حاضرة دائمًا لتعود وتجمعَنا. لم تكن هناك محرَّمات في نقاشاتنا. بل إنني عبّرتُ لها مرّةً عن رغبتي في ممارسة الجنس معها، وحدّثتُها عن السيناريو الذي وضعتُه من أجل ذلك اليوم.

حين سألتُها عن رأيها، فاجأتني بتقبُّلها لمناقشة الأمر كأنّ الحديثَ عن أحدٍ غيرها! والمضحك أنّها صوّبتْ لي بعض المعلومات حول ما تُحبّ، وما لا تُحب. وأخبرتني عن بعض الوضعيّات الجنسيّة التي تفضّلها، وتُثيرها. وذكرتْ لي مواضعَ بعض الشّامات في جسدها. وفي النهاية عادت لتذكّرني بأنّنا مجرّد صديقين، وأنها محظوظة جدًّا بصداقتي لها. وعلى الرغم من الغضب الذي كان يعتمل في داخلي في تلك اللحظة، فقد أعلنتُ هزيمتي أمامها، وقبلتُ بعلاقتنا كما اختارتْها هي.

- ولكن ماذا سأفعل بالسيناريو الذي شقيتُ وتعبتُ في كتابته؟ سألتُها مازحًا في نهاية حديثنا.

- انقعْه واشربْ ماءه، قالت وهي تغمزني بطرف عينها.  

***

في جلسة من جلساتنا الوديّة انتبهتُ إلى أنّني لا أعرف معنى اسم ليليت. عندما سألتها عن معناه استغربتْ جهلي بالتاريخ، وشرحتْ لي قائلة:

- باختصار شديد. بدايةً، اللفظ المتعارف عليه هو هكذا: ليليث. وأصلُ الحكاية (كما معظم الحكايات والأساطير) ترجع إلى بلاد الرافدين. وقد ورد اسمي الكريم في الأساطير السومريّة هكذا: ليليتو، أيْ: سيّدة الهواء. وظهر لاحقًا في أسطورة الخلق التوراتيّة زوجةً لسيّدنا آدم.

توقفتْ برهةً وهي تراقب ردّة فعلي ثمّ أكملتْ:

- نعم، كما سمعتَ؛ ليليت خُلقتْ قبل حوّاء! لكنّها لم ترضَ بسيطرة آدم عليها، فتمرّدتْ عليه، وهربتْ منه، لتصبح في إحدى الحكايات معشوقةَ الشيطان. ويقال في حكاية أخرى إنّها مكوّنة من ثلاثة آلهة: أحدُهم ذكر  (أردات) والاثنتان أنثيان (ليلو وليليتو). وهذا غيض من فيض. فهناك الكثير من القصص والحكايات عن ليليت وتجلّياتها عبر العصور، وأستطيعُ لو أردتُ أنْ أتكلّم عنها لساعات وساعات. ولكنْ سأكتفي بهذا.

عندما حدّثتُ صديقي برهان عن رواية ليليت، قال كأنّه يقرأ المستقبل:

- إذًا عليك أن تبحث عن حوّائكَ اعتبارًا من الغد. فليليت ستتركك مثلما تركتْ حوّاء سيّدَنا آدم.

 وتشاء الأقدار أنْ ألتقي صبيحة اليوم التالي بفتاة جميلة. لم أصدّقْ أذنيّ حين عرّفتني إلى نفسها قائلةً:

- إيفا، وتستطيع مناداتي حوّاء أيضًا إذا أحببتَ.

وحين عُدتُ إلى البيت عصر ذلك اليوم، اعترض طريقي أحدُ أولاد الجيران، وأخبرني وهو يلهث أنّ برهان قد دهسته قبل دقائق قليلة سيّارةٌ عابرة. شعرتُ أنّ قلبي قد سقط بين قدميّ، وركضتُ خلف الولد إلى مكان الحادث. أثناء ذلك تذكّرتُ أنني تركتُ بابَ المطبخ مفتوحًا من أجل تهوية البيت وصرتُ ألوم نفسي، وأشتم طيلة الطريق: حمار، حمار....

عندما وصلتُ إلى مكان الحادث رأيتُ برهان المسكين ممدّدًا فوق اسفلت الطريق وسط بقعةٍ من الدم، وقربه فيصل يشمّه ويموء بصوتٍ حزين.

عندما رأيت هذا المشهدَ غامتِ الدنيا أمام عينيّ. ورجعتُ للحظات إلى طفولتي، ورأيتُني ذلك الولدَ الشرّير الذي يطارد القطط، ويشدُّها من أذيالها. ورأيتُ نفسي - كبيرًا - كما أنا: أُمْسِكُني من أُذنيّ وأشُدُّني بهما بقوّة. إلى أنْ  بكينا كلانا: أنا الصغير من الألم، وأنا الكبير من شعوري بالذنْب. وعندما استفقتُ من ذهولي، وجدتُني أبكي بالفعل، وبعض الأطفال حولي يكبتون ضحكاتهم، وآخرون يضحكون بوقاحةٍ ويتغامزون عليّ. وكمن يتصرّف في نومه، حملتُ جثّةَ برهان بيد، وبالأخرى رفعتُ فيصل إلى حضني، ودخلتُ البيت. ومن دون تفكير اتصلتُ بليليت وأخبرتها بما حصل، ثمّ طلبتُ منها المجيء.

عندما وصلتْ ليليت وجدتْني أهيّئُ حفرةً في حديقة البيت (حرصتُ على أن تكون عميقةً). وكان فيصل يذهب ويجيء بين الحفرة وجثّة برهان، ويمسح رأسه بيديّ المُتْرَبَتيْن. لم تكلّمني، ولم تسألني عن أيّ شيء. كلّ ما فَعَلَتْه أنها ضمّت فيصل إلى حضنها وجلستْ تراقبني وتبكي بصمت. بعد الانتهاء من عمليّة الدفن انتقلنا إلى المطبخ، وهناك جلسنا لعدة دقائق دون أن ينبس أحدنا بحرف.

- تعرّفتُ اليوم إلى فتاة تُدعى إيفا، قلتُ من دون مقدّمات بعد فترة الصمت تلك.  

كانت ليليت تصنع القهوة، فلم تلتفتْ إليّ، وبقيتْ على وقفتها تنتظر غليانَ الماء في الركوة لتضيف إليه البنّ.

- لماذا اتصلتَ بي؟ سألتني بعد دقيقة وهي تملأ لي فنجاني.

- لأنّكِ صديقتي.

- فقط؟!

- ولأنّه برهان!

- وإيفا؟

- ما بها؟ قلتُ باستغراب.

- لماذا لم تتّصل بها؟ سألتني، وهي تنظر إلى القبر الصغير في طرف الحديقة.

- لأنّ برهان لا يعني لها شيئًا، أجبتُها.

 وسألتُها بلهجة عدائيّة:

- ما المزعج في الأمر؟       

- لا شيء، همستْ.

ثم حملتْ حقيبتَها وغادرت البيت.                      

***

بقيتُ عدّة أيّام لا أفعل شيئًا سوى القراءة، والاستماع إلى الموسيقى، والاهتمام بفيصل وملاعبته وتحضير الطعام له. زارتني إيفا في هذه الفترة عدّة مرّات، وساعدتني في تأمين ما نقصني من صلصال لإكمال العمل. كذلك اهتمّت بتنظيف المشغل، وترتيب غرفتي، وكانت تغنّي وهي تفعل كلّ ذلك. وكنت أشعر بالراحة والسكينة عند سماعي صوتَها وهو يتردّد في فضاء البيت. أمّا صديقي برهان فقد غضب منّي عندما عرف ما حصل، وأخذ يوبخّني لأنني نسيتُ باب المطبخ مفتوحًا، معتبرًا أنني شخص مُهْمِل، وأنانيً، وغير مؤهّلٍ للاعتناء بقطعة حصى صغيرة، لا بكائنيْن من لحم ودم. فاجأني بردّة فعله هذه، ولم أعرف كيف أردّ، فآثرتُ الصمتَ وأنا أشاهد فيصل يقفز  إلى حضنه (على غير عادته). ولا أعلم إنْ كان ما حصل بعد ذلك يدعو إلى الضحك أمِ الحزن. إذ لم يستطع برهان أن يتمالك نفسه، فبكى وهو يخاطب فيصل ويُعزّيه، كما لو أنّه إنسان يفهم ويعي ما يُقالُ له. ووجدتُ نفسي أنا الآخر أبكي رغم الابتسامة التي ارتسمتْ على شفتي من غرابة الموقف.

***

في يوم دفاعي عن مشروع تخرّجي، حضر حشد كبير من الأصدقاء والفنّانين والأساتذة. ولكنّ مَن سرق الأضواء كان فيصل، الذي جلبتُه معي، وتركتُه يتجوّل بين المنحوتات كما يحلو له.

في نهاية العرض، بينما كنتُ أحتضنُ فيصل وأتقبّل التهاني، سمعتُ صوتَ دعساتٍ خلفي، وأحسستُ بجسدٍ أنثويٍّ يلتصق بي.

ظننتُها ليليت.

التفتُّ إلى الخلف لأُفاجأ بإيفا وهي تحتضنني بقوّة، وتباغتني بقبلةٍ حارّةٍ فوق شفتيّ، غيرَ عابئةٍ بالحضور، أو بالمكان الذي نحن فيه.

اللاذقية

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).