أبو علي زوربا
21-11-2019

 

يضع أبو علي كأسَ العرق على الطاولة، ويبدأ بدَرج لفافة تبغٍ وهو ينظرُ إلى الأفق، متابعًا بنظراته الساهمة أضواءَ قواربِ الصيّادين المتلألئة وسط الظلام. يقول شيئًا لنوري، الجالسِ قبالته، بينما يُشعل لفافتَه، ويتفُّ جانبًا متخلّصًا من بقايا ورق السيجارة العالقِ بين شفتيه. لا يُبدي نوري أيَّ ردّة فعل؛ ولكنْ بعد دقائق قليلة أسمعُه يُدندن بصوتٍ شجيّ: "يا محلا الفسحة يا عيني على رأس البرّ.. والقمر نوّر عيني.. عيني.. عيني؛ على مو..على موج البحر." يُطرَبُ أبو علي، فينهض بتثاقل، ويبدأ الرقصَ بالدوران حول نفسه، وكأسُ العرق في يده، ثمّ يعلو صوتُه هو الآخر بالغناء: "قللي تعـالي يا شــاغلة بالي.. كوني حلالي على طول العمر.."

كنتُ أراقب المشهد من شرفة الشاليه التي أنزلُ فيها ـ وهي لا تبعد سوى أمتار قليلةٍ عنهما ـ وأتذكّر أجواءَ فيلم زوربا اليوناني، وأجزم أنّ أبا علي ونوري لم يسمعا بنيكوس كازانتزاكيس أو بموسيقى زوربا الشهيرة. أنظرُ إليهما وأستعيدُ في ذهني أداءَ أنطوني كوين الرائع، وابتسامتَه الساحرةَ وهو يرقص على رمل الشاطئ كما يفعل أبو علي الآن: فاردًا ذراعيْه على طولهما، ضاربًا الأرضَ بقدميْه العاريتيْن، مطلقًا بعضَ الشتائم والضحكات، ومِن خلفه أمواجُ البحر تشاركه فرحَه البرّيّ.

يلاحظ نوري اهتمامي بهما، فيتّجه نحوي من دون أن يتوقّفَ عن الغناء: "أصل المحبّة ضحكة ولعبة.. خلّينا صحبة يا عيني على طول العمر.." ثم يناولني كأسَه، مع ورقتيْ خسّ. ويطالبني بشربها "على الناشف." أرفعُ الكأس عاليًا تحيّةً له، ثمّ أدلقُ ما فيها داخل جوفي دفعةً واحدة، وأدفع بورقتَي الخسّ إلى فمي بسرعة للتّخفيف من لهيب النّار. يعانقني نوري بقوّة كأنّي قمتُ بعملٍ بطوليّ، وأرى أبا علي يلوّح لي بكأس العرق من بعيد، ثمّ يطلق صرخةً رهيبةً، قبل أن يستديرَ ويرمي بنفسه إلى مياه البحر. لم أستطع منعَ نفسي من الضحك، وأنا أراقب نوري وهو يركض ويتعثّر ويسقط على الأرض عدّة مرّات قبل أن يصلَ إلى الماء، فيرميَ بنفسه هو الآخر خلف صديقه، ثم يبدأان الغناء. وما هي إلّا لحظات حتى أراهما يخرجان ويتّجهان نحوي مباشرةً، فيسحباني من يديّ إلى البحر، من دون أن ينفعَ معهما صراخي الهستيريّ ومحاولاتي المستميتةُ للإفلات منهما. وتابعا سحبي ودفعي بقوّة. ثمّ حملاني وطوّحا بي في الهواء لأطير لأجزاءٍ من الثانية ـ ظننتُها دهرًا ـ قبل أن أرتطمَ بالماء وأنا غيرُ مصدّقٍ ما يحصل. وأحمدُ الله أنني لم أكن أحمل سلاحًا حينها، وإلّا لأطلقتُ النار عليهما من دون أنْ يرفَّ لي جفن، مع أنّ أبا علي ضمّني إلى صدره عند خروجي من الماء وقبّلني على خدّيّ وكتفيّ ثمّ قال وهو يربّت على ضهري بقوّة: "كس أخت اللي ما بيحبّك!" كان هذا أسلوبَه في الاعتذار. لكنني تابعتُ طريقي وأنا أرتجفُ من البرد والغضب، ولم أعرهما أيَّ اهتمام.

***

هكذا تعرفتُ إلى الصيّاديْن نوري وأبي علي. وكان تعارفًا عنيفًا إنْ صحّ القول. وهذا ما أعادني بذاكرتي إلى الفترة التي صدرت فيها روايةُ زوربا اليوناني بترجمتها العربيّة، وكيف انتشرتْ مثلَ النار في الهشيم بين أبناء جيلنا، وصار الجميعُ يريد أن يصبح زوربا. وباعتباري ابنَ عائلةٍ مثقّفة تهتمّ بالعلم والأدب، فقد قرأتُ الرواية بمجرّد صدورها، ووقعتُ في حبّ هذه الشخصيّة التي قلبتْ عالمي رأسًا على عقب وجعلتني أرى الحياةَ بطريقة جديدة. لكنّ الفرقَ بيني وبين أقراني أنني احتفظتُ بزوربا في داخلي، ولم أسمحْ له بالخروج وممارسة فوضويّته في حياتي الواقعيّة.

لم أكن منسجمًا في هذا مع أبناء جيلي الذين انطلقوا لممارسة "زورباويّتِهم" بشكلٍ انفجاريّ في كلّ سهرة، أو رحلةٍ، أو لقاءٍ، أو علاقةِ حبّ. وربما يكون السبب هو تربيتي البيتيّة المحافظة إلى حدٍّ ما؛ فهي التي جعلتْ منّي شخصًا جبانًا، عاجزًا عن التغلّب على ذاتي الأسيرة، على الرغم من الحمم البركانيّة التي كانت تتفجّر في داخلي طوال الوقت. والغريب أنني لم أندمْ لاحقًا، بل وجدتُ أنّ جُبني هذا (إنْ كان جبنًا بالفعل) هو الذي حماني من الانزلاق إلى متاهاتٍ رأيتُ غيري يذهب إليها ويدفع الأثمان - - علمًا إنّني اليوم لستُ ضدّ دفع الأثمان إنْ كان البديلُ هو الابتعادَ عن الحياة وطلبَ السلامة والاكتفاءَ بمراقبةِ ما يحصل من بعيد. وإلى يومنا هذا لا أعلم الآليّةَ الفكريّة التي التزمتُها وجعلتَني أُقنّنُ في استهلاك زورباويّتي. وقد نجحتُ بطريقةٍ ما، واكتفيتُ من زوربا بما يسعدُني ضمن دائرتي الاجتماعيّة الضيّقة، التي صارت تضيق كلّما تقدّمتُ في السنّ، إلى أن باتت لا تتّسع اليوم سوى لشخصين: أنا، وامرأة أحبُّها. ورغم أنّ هذا يتناقضُ مع زوربا "الفكرة" التي آمنتُ بها سابقًا، فإنّني لم أشعر فعليًّا بهذا التناقض. فالواقع أنّني قتلت "زوربا الآخرين" منذ زمن بعيد، لا كرهًا به، وإنّما خوفًا على "زوربايَ" منه. وها هو يفاجئني بوجوده في هذا المكان الموحش، متجسِّدًا بهذيْن الصيّادينْ. فأين المفرّ؟!

***

كنت أبحث عن مكانٍ هادئٍ من أجل التفرّغ للعمل في روايتي الجديدة، التي وضعتُ على المسوَّدة خطوطَها العريضة، وكتبتُ مقدِّمتَها وفصولَها الأولى، ثمّ توقّفتُ عن الكتابة لأسبابٍ لا مجالَ لشرحها الآن. فعرض عليّ أحدُ الأصدقاء المجيءَ إلى هذا الشاطئ. "المكان هناك هادئ في مثل هذا الوقت من السنة،" قال صديقي وهو يمدّ لي يدَه بمفتاح غرفته أو كما يحب أن يسمّيها "الشاليه." أخذتُ المفتاحَ وشكرتُه؛ فأنا في حاجة إلى الوجود في مثل هذا المكان شهرًا على الأقلّ ريثما أنهي المسوَّدةَ الأولى من الرواية. كنّا في شهر تشرين الثاني، وكان الشاطئُ مقفرًا فعلًا. ولم يخطرْ في بالي لوهلة أنّني، بعد يومين من وصولي، سألتقي شخصين لا أعرفُهما وسيرميان بي في مياه البحر ليلًا وهما يضحكان.

***

استيقظتُ صبيحة اليوم الثالث على صوتٍ ينده باسمي. فتحتُ البابَ لأجد أبا علي ونوري يحملان سلّةً مصنوعةً من القصب ومليئةً بالأسماك:

-  جلبنا لك هديّة أستاذ، قال أبو علي قبل أن أفتح فمي. وأضاف نوري:

- قجاج.                                                         

وفهمتُ أنّ القجاج نوع من الأسماك المشهورة الموجودة على طول شواطئ الساحل السوريّ، لكنّ أفضل وقت لصيدها هو بين تشرين الأول وكانون الأول. وهي لذيذة الطعم، وتحوي قيمةً غذائيّةً كبيرة، وتُطبخ بعدّة طرق. ثمّ سألني نوري إنْ كنتُ أحبّ الصيّاديّة. وانتهى الحديث بأن قبلتُ هديّتَهما التي هي بمثابة اعتذارٍ عمّا حصل في الأمس. "ولكنْ، كيف أعدّ وجبةً من هذه الأسماك؟!" كنت أتساءل بيني وبين نفسي حين أجابني نوري كأنّه سمعني:

- سنجهّز نحن كلّ شيء أستاذ. أنت اليوم ضيفنا على العشاء.

قبلتُ الدعوةَ وصافحتُهما. وانتهى اللقاء من دون أن أنطق سوى بكلمتين أو ثلاث كلمات، لكنّهما فهما أنني صفحتُ عنهما من ابتسامتي ومصافحتي لهما؛ حتّى إنهما شكراني مرارًا وتكرارًا وهما يبتعدان.

***

قضيتُ بقيّةَ اليوم في الكتابة. ولم أكن أتوقّف سوى لاستراحاتٍ قصيرةٍ أشربُ فيها القهوةَ وأدخّن، بينما أراقب أمواجَ البحر والنوارسَ القليلة التي ظهرتْ فجأةً في المكان. عند الثامنة مساءً بدأتْ تصلني رائحةُ الشّواء، وبدأتْ معها استغاثاتُ معدتي. أغلقتُ حاسبي المحمول، ولبستُ ثيابًا تصلح لبرودة المساء، ثم توجّهتُ إلى طاولة جاريَّ اللذيْن رحّبا بي أجملَ ترحيب. كانت الأسماك ممدّدةً فوق موقدٍ مصنوعٍ من الحجارة والطين، تَفصل بينها وبين الجمر شبكةٌ صغيرةٌ من الحديد، فوقها كمّيّةٌ من أغصان الغار والريحان. كانت الرائحة لا تُقاوَم؛ وكذلك مشهدُ الأسماك وهي تقْطر زيتًا مخلوطًا بالثوم والفلفل الحارّ. لم تكن هناك صيّاديّة، وذلك لعدم توفّر الأرزّ في المحلّات القريبة كما قالا لي. ولكنْ من سيعتب في مثل هذه الحالات؟!

كانت سهرةً لطيفة، غنّى لنا فيها نوري، ورقص أبو علي ووزّع شتائمَه يمينًا وشمالًا، وشربنا الكثيرَ من العرق. وهكذا صرتُ ضيفًا دائمًا على مائدتهما. وكي لا أكون ضيفًا ثقيلًا، فقد كنتُ أذهبُ إلى المتجر القريب وأشتري مونةً لأسبوعٍ كاملٍ من الخضروات والفاكهة والزيت والسكّر والقهوة وكلِّ ما يمكن أن يحتاجَه المرء. وببساطة، ومن دون اتفاق، أخذا هما على عاتقهما صنعَ الطعام، بينما تفرّغتُ أنا للكتابة.

***

في إحدى السهرات سألني نوري:

- ماذا تكتب أستاذ؟

- أكتب عن الحبّ، قلت وأنا أرسمُ بأصبعي قلبًا في الهواء.

ودار بيننا حوار ظريف، عرفتُ منه أنّ نوري عاش في فترة شبابه تجربةً مريعةً حين أُغرمَ بابنةِ الجيران التي تجاهلتْ مشاعرَه تجاهلًا تامًّا. ولم تنجحْ كلُّ أساليبه في استمالتها، حتّى اضطرَّ في نهاية الأمر إلى تهديدها بالانتحار إنْ لم تكلّمْه. لكنها لم تفعلْ. وكان لدى والده مسدّسٌ حربيّ، فسرقه نوري وذهب إلى بيت حبيبته. وشاءت الأقدارُ أن تفتح هي الباب. فقال لها: "أحبُّكِ!" ثم وضع فوّهةَ المسدّس في فمه، وضغط على الزناد. إلّا أنّ الطلقة لم تخرج. حاول ثانيةً، لكنّ الطلقة أبت الخروج! فشعر بالارتباك ولم يعرف ماذا يفعل. فما كان من الصبيّة إلّا أن سحبت المسدّسَ من يده وصوّبتْه إلى خصيتيْه، فخاف وهرب وهو يقفز كالأرنب هنا وهناك لتفادي الرصاصة إنْ خرجتْ هذه المرّة. وفعلًا سمع دويًّا هائلًا، وشعر بشيء يمرّ على مقربةٍ من أذنه، فاختلّ توازنُه، وارتطم رأسُه بدرفة الباب الحديديّة، فسقط أرضًا، والدمُ يفور من أنفه وجبينه. لقد ظنّ أنّه أصيب برصاصة، فأغمي عليه.

تخيّلتُ المشهد كأنّي أراه على شاشة سينما، وضحكتُ حتى كدتُ أقع عن الكرسيّ. في تلك الليلة شربتُ أكثر من المعتاد. وغنّيتُ مع نوري: "يا مسافرة في البحر جايي ودّعك.. حمّل سلامي للهوى وودّيه معك." ثمّ قمنا ورقصنا على رمال الشاطئ، واستقبلْنا أشعّةَ الشمس الأولى ونحن نسبح ونصرخ ونخبط في الماء كالمجانين.

***

هكذا كان يمرّ الوقت: في النهار أتفرّغ للكتابة والتأمّل، بينما جاراي مشغولان بتنظيف الشِّباك أو إصلاحِ الفلوكه أو بأمور أُخرى ذاتِ علاقةٍ بالصيد. وفي المساء - حين لا يذهبان إلى الصيد - كنّا نجلس حول المائدة، نأكل بنهم، ونشرب، ونضحك، ونطلق النكات (البذيئةَ منها بشكلٍ خاصّ). وعرفتُ أيضًا أنّ أبا علي، الستّينيّ، قد جرّب الزواجَ ثلاث مرّات، وخرج من تلك التجارب بحكمةٍ تقول: "الرجّال بلا مرا بياكل خرا!" وعندما رأى علاماتِ التعجّب ترتسم على وجهي، فاجأني وقال:

- أنا لم أقصد الزواج، وإلّا لكانت رائحتي وصلتْ إلى قبرص.

ثمّ انفجر ضاحكًا وأضحكنا معه. وعرفتُ أنه يصاحب فتاةً فقيرةً صغيرةَ السنّ، إلّا أنّه لا يريد "تجريب المجرَّب" والزواجَ للمرة الرابعة، إذ يكفيه ما دفع من أموالٍ عند كلّ طلاق. وعندما سألتُه إنْ كان قد رُزق بأولاد، قال:

- كس أخت هالحياة! سمكة حقيرة بحجم شبر تُنجب في كلّ بطنٍ آلافَ الأولاد، بينما أنا (كما تراني بحجم وقوّة ثور) عجزتُ عن إنجاب ولدٍ واحد.

ثمّ صمت لبرهةٍ وأضاف:

- لطالما تمنّيتُ أنْ تكون عندي بنت!

قال ذلك بصوتٍ يشبه الفحيح. ثمّ رفع كأسَ العرق ودلق ما فيها دفعةً واحدةً في جوفه، وتابع:

- كنتُ سأسمّيها ماريّا، وكنتُ سأغنّي لها كلَّ يوم.

وبدأ الغناء: "يا ماريّا.. يا مسوسحة القبطان والبحريّة.. يا ماريّا، يا طالعة من البحر، ردّي عليَّ.." وشاركناه الغناءَ إلى النهاية. ثمّ ران الصمتُ بيننا لبعض الوقت، ولم يكن يُسمع سوى هسيسِ النار قربنا وصوتِ أمواج البحر.

لم تكن حكايةُ أبي علي غريبةً أو مثيرةً، لكننّي شعرتُ بشيءٍ ثقيلٍ يضغط على صدري، وبغصّةٍ في حلقي، فامتنعتُ عن مجاملته ولو بحرف. حتّى نوري، الذي لا بدّ من أنّه سمع هذه الحكاية عشراتِ المرّات، بقي صامتًا يراقب ألسنةَ النار، وقد حبس مع الدمع المترقرق في عينيه الكثيرَ من الكلام.

***

في إحدى السهرات طلب منّي أبو علي أن أحدّثَه عن موضوع الرواية التي أكتبُها. تمنّعتُ في البداية، لكنّه ألحّ بطريقةٍ غريبة. خضعتُ لرغبته، ولخّصتُ له مضمونَ الرواية، من دون الخوض في التفاصيل. بقي يستمع وهو يُدخّن ويشرب لمدّة نصف ساعةٍ أو كثر، ولم يُقاطعْني إلّا حين قلتُ إنّ قيسًا (بطلَ روايتي) مارس الجنسَ مع حبيبته في البحر بينما كانا يسبحان. فرمقني بنظرةٍ متشكّكةٍ وسألني باسمًا:

- هل جرّبت ذلك، أستاذ؟

- لا، قلتُ باستهجان، مدافعًا عن نفسي كأن أحدًا قد وجّه إليّ تهمةً.

-  طريقة كلامك تدلّ على أنّك جرّبتَ ذلك، قال أبو علي بهدوء.

شعرتُ من جديد أنّني متَّهم، لكنني هذه المرّة تمالكتُ نفسي وقلتُ له:

- حسنًا، لقد جرّبتُ الأمر فعلًا، وعلى هذا الشاطئ بالذات، قبل عشرة أعوام.

ما إن لفظتُ آخرَ حرفٍ حتّى انفجر أبو علي ضاحكًا، واندفع نحوي يقبّلني ويشدّ على كتفيّ، قائلًا: "فحل يا استاذ؛ فحل!" ثمّ سألني إنْ مارستُ الجنس في الفلوكة وسط البحر. وعندما أجبتُه بالنفي، قال: "أدعوكَ إلى فعل ذلك." ثمّ بدأ يشرح لي لذّة ممارسة الجنس بالفلوكة وهي تتمايل مع الأمواج. واسترسل في الشرح والكلام، وعدّد لي أسماءَ النساء اللواتي مارس معهنّ الجنس. ثمّ أشار إلى الفلوكة المركونة على الرمال في الظلمة قائلًا بتفاخر: "إذا نظرتَ إلى جانبها ستجد رسمًا لسبع سمكات." وأضاف غامزًا: "وهو عددٌ قابلٌ للزيادة." ثمّ انفجر ضاحكًا كعادته.

في تلك الليلة سمعتُ من الكلمات البذيئة ما لم أسمعْ به في حياتي كلّها. وقد حاولتُ، فيما بعد، الاستفادةَ من حكايات أبي علي ومن شخصيّته، ونجحتُ في تعديل أحد خطوط الرواية، وأدخلتُ فيها شخصيّةً جديدةً حمّلتُها حكاياتِه تلك، وتجنّبتُ ذكرَ الكلمات البذيئة والألفاظ النابية حرصًا على مشاعر القرّاء.

***

مرّت الأيّام بسرعة، وأنجزتُ خلال شهر واحد ما لم أنجزْه طوال حياتي في المدّة ذاتها. وأصبحتْ روايتي تفتقر إلى مراجعةٍ أخيرةٍ فقط، فتنقيحٍ، قبل أن أدفعَها إلى النشر. في ليلتي الأخيرة، هيّأ نوري طاولةً فاخرة، وفاجأني بأكلة الصيّاديّة التي وُعدتُ بها وكنتُ قد نسيتُ أمرَها. و رفع أبو علي ونوري كأسيْهما تحيّةً لي. وشربتُ أنا أيضًا نخبَهما "على الناشف" كما أرادا. وفي ساعات الفجر الأولى كنّا نعانق أمواجَ البحر، والقمرُ فوقنا يفيض علينا بضيائه البهيّ.

***

بعد عدّة أشهر من صدور الرواية، وصلتني مع صديقي صاحب الشاليه رسالةً من أبي علي. كانت عبارةً عن ورقةٍ نُزعتْ من دفترٍ مدرسيّ. وقد بدأ أبو علي رسالتَه من دون مقدّمات:

"انتهيتُ من قراءة روايتك قبل عدّة أيّام. وكنتُ أنتظر أن ترسل إليّ نسخةً منها هديّةً، لكنّك لم تفعلْ! قرأها نوري أيضًا. وأظنّكَ تستغرب الآن أنّنا نُحْسن القراءة. أتخيّلكَ مندهشًا وأنت تقرأ هذه الكلمات. وربّما تتساءل: لماذا لم تسألْنا عن تحصيلنا العلميّ؟ أو كيف نفكّر؟ أو كيف نحبّ أو نكره؟ وهذا، يا عزيزي، لأنّك لم ترنا إلّا من خلال الصورة التي رسمتَها في ذهنك عن الصيّادين كما تقرأ عنهم في الكتب والروايات. وكي لا نخيّبَ ظنّك، فقد تواطأْنا مع صورتك تلك، وتركْنا لك حرّيّةَ التصرّف والسلوك والتعامل معنا.

"قرأتُ ما كتبتَه عنّي، أو عن الشخصيّة التي رسمتَها في روايتك متأثِّرًا بي. ولاحظتُ أنّكَ لم تستطع إخفاءَ رأيكَ أو على الأقلّ انطباعاتك الشخصيّة. واستأتُ كثيرًا من ذلك لأنّك أسأتَ إلى الساعات والأيّام الجميلة التي قضيناها معًا. قد يكون بدر منّا بعضُ التصرّفات التي لم تعجبْك، أو لا تنسجم مع مستواك الفكريّ، لكننا كنّا نتصرّف بعفويّةٍ ومحبّة وثقة، وقد فرّطتَ بذلك كلِّه بجرّةِ قلمٍ واحدة!

"النساء اللواتي حدّثتُكَ عنهنّ هنّ صديقات وحبيبات وعشيقات. هنّ جزءٌ من روحي، وهنّ من يبقينني متوازنًا ولا أفكّر في الانتحار. وأظنُّكَ نظرتَ إليهنّ كأنّهنّ عاهرات... أو هذا ما رشح من روايتك على الأقلّ.

"أخيرًا: اسمُ الرواية، سبع سمكات، غير موفّق في رأيي المتواضع؛ فهو لا يوحي بالمضمون، ومأخوذ عن تفصيل بسيط في الرواية من الواضح أنّك أقحمتَه اقحامًا في النصّ. والسلام."  

***

يصعب كثيرًا التعبيرُ عن مشاعري لحظةَ انتهائي من قراءة هذه الرسالة. شعرتُ في البداية بغضبٍ شديد: إذ "كيف يتجرّأ على ذلك؟!" وبعد برهة، شعرتُ أنني لصٌّ قُبض عليه بالجرم المشهود. ثم دخلتُ في حالة حزن، وشعرتُ بالذنْب. وبعد قراءتي الثالثة لها بكيتُ بصمت. لم أعرف ماذا أفعل أو كيف أردّ. لذا قرّرتُ التمهّلَ كي لا أتفوّه بشيءٍ أندمُ عليه. لكن شيئًا في داخلي كان يريد الهروب.

وهذا ما حصل في النهاية: لقد هربتُ، وصرتُ أؤجّل الردَّ يومًا بعد يوم، إلى أنْ شعرتُ أنّ الأمر لا يستحقّ الردّ، وأقنعتُ نفسي أخيرًا أنّ من الأفضل أنْ أزورَه يومًا وأتكلّمَ معه وجهًا لوجه. إلّا أنّ هذا لم يحصلْ أيضًا. ويبدو أنّ خطّتي قد نجحتْ إلى درجةِ أنّني نسيتُ الرسالةَ بعد عدّة أشهر، ولم تعدْ تقضّ مضجعي كما في الأيّام الأولى.

وهكذا مرّت الأيّام. إلى أنْ رنّ جوّالي بعد عام ونصف العام، وكان نوري على الخطّ يخبرني أنّ أبا علي مات. بقيتُ صامتًا لبعض الوقت ونوري يكرّر المرّةَ تلو المرّة: "ألو .. سامعني أستاذ .. ألو .. ألو ..." ثم أغلقتُ جوّالي وانخرطتُ في نوبة من البكاء.

***

بعد حوالي الشهر ركبتُ سيّارتي، وتوجّهتُ إلى ذلك الشاطئ حيث تعارفْنا. ركنتُها على طريق الإسفلت، وقطعتُ المسافةَ القصيرة المتبقّية مشيًا على قدميّ. كان الشاطئ مُقفرًا كما عرفتُه. وصلتُ إلى أمام غرفة أبي علي. طرقتُ الباب. ناديتُ باسم نوري. لكنْ لا مُجيب. جلستُ على الكرسيّ الخشبيّ الذي كنتُ أجلس عليه عادةً، ودخّنتُ على مهل.

بعد ساعة، رأيت فلوكةً تشقّ مياهَ البحر. عرفتُ أنّ نوري قادم، فمشيتُ إلى الشاطئ ووقفتُ أنتظره. وحين اقتربَ إلى المسافة التي ميّزني بها، لوّح لي بيده عدّة مرّات، وصرخ بأمرٍ منعتني أصواتُ الأمواج والرياح من سماعه. حين وصل، قفز إلى الرمال واحتضنني ثمّ بكى، وأبكاني معه. وبعد دقائق قليلة كنّا في المقبرة القريبة نقف عند قبر أبي علي صامتيْن لا ندري ما نقول.

حين عدنا إلى الغرفة عرفتُ أنّ أبا علي مات مُتأثّرًا بسرطان الرئة. وعرفتُ أيضًا أنّه اختار أن يعيش الأيّامَ الأخيرةَ من حياته على طريقته، ورفض أن يدخل في دوّامة العلاج الكيميائيّ، كما رفض العملَ الجراحيّ. في تلك الفترة تمامًا اقتحمتُ حياتَهما، وشاركتُهما يوميّاتِهما، من دون أن أدري أنّ الموت كان رابعَنا طوال الوقت!

***

استبقاني نوري ساعةً إضافيّةً، وأصرّ على أن نتناولَ الغداء معًا على الطاولة نفسها وفي المكان ذاته. ثمّ جلسنا بعد الغداء نتحدّث عن الصيد والبحر، وعن مشاكل الحياة، ولم نتطرّقْ إلى الرواية أو الرسالة. وأخيرًا، عند مصافحتي إيّاه، معلنًا عزمي على الرحيل، لفت انتباهي شيءٌ جديد وجدتُه على جانب الفلوكة. فذهبتُ إليها، ورأيتُ تحت السمكات (وقد صارت إحدى عشرة سمكة) مكتوبًا بخطّ أحمر طفوليّ: "أبو علي زوربا." عرفتُ أنّ نوري هو مَن كتب هذه الجملة بعد رحيل صديقه وبعد قراءته الرواية. فابتسمتُ والدموعُ في عينيّ وأنا أتخيّل أبا علي وهو يقول لي: "كس أخت اللي ما بيحبّك!" وأحسستُ أنّ زوربا الذي في داخلي يشقّ صدري ويخرج منه. فنظرتُ إلى نوري الواقف قربي ثمّ غمزتُه، قبل أنْ أركض بكلِّ ما أوتيتُ من قوّة وأرمي بنفسي (وأنا بكامل ملابسي) في مياه البحر.

اللاذقيّة

   

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).