على مَن تفاءل ذاتَ يوم بأنّ العالمَ الافتراضيّ أكثرُ حريّةً من العالم الواقعيّ أن يعيدَ النظرَ في تفاؤله. لا أتحدّثُ هنا عن تسلّل القمع الرسميّ العربيّ إلى ميدان الفيسبوك والمدوَّنات، بل أعني تحديدًا المجالَ الإنترنتيّ الذي يَنْشط فيه أنصارُ فلسطين. وأحيل بشكلٍ أخصّ على حادثتيْن: الأولى هي إزالة "غوغل بلاي" للتطبيق الهاتفيّ الذي أصدرتْه حملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان؛ والثانية هي إعلانُ وزيرة العدل في كيان العدوّ أنّ موقعَ فيسبوك وافق على 95% من الطلبات الرسميّة الإسرائيليّة بإزالة مضامينَ "تحرِّض على إسرائيل."
وفي التفاصيل أنّ حملة المقاطعة في لبنان، بعد عملٍ مضنٍ استغرق أعوامًا، أنشأتْ في الذكرى 68 لاغتصابِ فلسطين تطبيقًا هاتفيًّا مميّزًا بعنوان "قاطعوا." هذا التطبيق سهلٌ وسلسٌ: فبمجرّد أن تكتبوا على هاتفكم النقّال عنوانَ الشركة، يخبرُكم إنْ كانت تدعم الكيانَ الصهيونيَّ أو لا، وكيف يأتي الدعمُ إنْ حصل، وذلك وفق معاييرَ علميّةٍ وواضحةٍ ومدروسةٍ. وقد حصرْنا الشركاتِ الداعمةَ للعدوّ بـ 41 شركةً كبرى، ووثّقنا أقوالَنا بمعلوماتٍ مستقاةٍ من مواقع هذه الشركات نفسِها أو من دوريّاتٍ غربيّةٍ بارزة، وأحيانًا من مصادرَ إسرائيليّةٍ أيضًا. وتقدّمْنا بطلب نشر تطبيقنا إلى شركتيْ "آبل" و"غوغل." لم يصلْنا ردٌّ من الشركة الأولى حتى اللحظة، رغم مرور شهورٍ على طلبنا. أمّا شركة غوغل فأنزلت التطبيقَ، لكنّها أزالته قبل أسابيع، بإيعازٍ من جهةٍ ما على ما يبدو، وأرفقتْ ذلك برسالةٍ إلكترونيّةٍ موجَّهةٍ من "فريق المراجعة في غوغل بلايْ" إلى مصمِّمة التطبيق ومنتجتِه، شركة "بوستراي،" تزعم فيها أنّ تطبيقنا ينتهكُ أحدَ معايير غوغل، باستخدامه "خطابَ كراهية" (Hate Speech).
أما كيف تشْرح غوغل "خطابَ الكراهية" فكالآتي: "لا نسمحُ بترويج الكراهية ضدّ مجموعاتٍ من النّاس على أساسِ عِرْقهم، أو أصلِهم الإثنيّ، أو دينِهم، أو عجزِهم (disability)، أو نوعِهم الجنسيّ (جندرِهم)، أو عمرِهم، أو وضعِهم كمحاربين قدامى، أو توجُّهِهم الجنسيّ/هويّتهم الجندريّة."(1)
وقد رددْنا على فريق غوغل بلايْ برسالةٍ مماثلة، شرحنا فيه مفهومَ "عزْل إسرائيل" عبر المقاطعة العالميّة، وشدّدنا على أنّ سياسةَ العزل:
"ليست سياسةً عنصريّةً، ولا خطابَ كراهية. بل إنّ العزلَ سياسةٌ مدنيّةٌ تهْدف إلى جرّ كلّ نظامٍ يخالف القانونَ الدوليَّ والأعرافَ الإنسانيّةَ إلى الانصياعِ لها... ولا يَخفى عليكم أنّ ’إسرائيل‘ قامت على أنقاض مئاتِ البلداتِ الفلسطينيّة التي طُهّرتْ عرقيًّا من سكّانِها الأصليين سنة 1948؛ وهو ما وثّقه مؤرِّخون كبارٌ، وعلى رأسهم الباحثُ الإسرائيليُّ المعروف إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقيّ في فلسطين. وأن نطالِبَ الشركاتِ بوقف دعمِها لـ ’إسرائيل‘ فذلك لا يعني بتاتًا أنّنا ضدّ اليهود مثلًا؛ على العكس: نحن من دعاة بناءِ دولةٍ ديمقراطيّةٍ عَلمانيّةٍ على كاملِ فلسطين التاريخيّة، يعيش فيها جميعُ المواطنين على قدم المساواة، لا فرقَ بين فردٍ وآخر، ولا بين معتَقَدٍ وآخر. إنّ ما نؤْمن به هو نقيضُ ما تؤْمن به العقيدةُ العنصريّةُ الصهيونيّةُ التمييزيّة، فأين نحن من ’خطاب الكراهية‘؟"(2)
غير أنّ تصرّفَ شركة غوغل دفعني إلى محاولة التعرّف إلى شيءٍ من تاريخها القريب مع تطبيقاتٍ أخرى في ميدان الصراع العربيّ ــــ الإسرائيليّ. ومن بحثٍ سريعٍ اتّضح لي ما يأتي:
1) أنها أزالت لعبةَ Gaza Man (رجُلُ غزّة). واللعبة من إنتاج فلسطينيّين، وتتحدّث عن معركةٍ تدور رحاها بين مقاتلٍ فلسطينيٍّ ملثّم وقوّاتٍ معاديةٍ مدجّجةٍ بالأسلحةِ الجويّةِ والبرّيّة. فبعد ثلاثة أيّام من "رفْع" غوغل بلايْ لهذه اللعبة، عمدتْ غوغل إلى إزالتها بدعوى التحريض على "أمّةٍ محدّدة." جاء ذلك، على الأرجح، بعد أن اعتبرها الإسرائيليون والإعلامُ الإسرائيليّ لعبةً "عدائيّةً."(3)
2) أنّها أزالت، من مخزن تطبيقات غوغل بلايْ، لعبة Rocket Pride (فخرُ الصواريخ)، وهي من إنتاج شركة Best Arabic Games (أفضلُ الأفلامِ العربيّة)، وفيها يحاول اللاعبُ أن يُحْبطَ مساعي نظام "القُبّة الحديديّة" الصاروخيّ الإسرائيليّ.(4)
لكنْ، في المقابل، أزالت غوغل أيضًا لعبةَ Iron Dome (القُبّة الحديديّة) من مخزن تطبيقاتها. واللعبة، كما يدلُّ اسمُها، محاولةٌ لإسقاط الصواريخ "التي تطْلقها [حركةُ] حماس." كما أزالت ألعابًا أخرى معاديةً للشعب الفلسطينيّ ومقاومتِه، مثل: Bomb Gaza (أقصفْ غزّة)، وفيها يُطلب من اللاعب قتلُ الإرهابيّين، لكنْ من دون إيذاء المدنيّين (!)؛ وGaza Assault (الهجومُ على غزّة)؛ و Whack the Hamas (اضربْ الحمساويَّ).(5)
قد يظنّ قرّاءُ المقطع السابق أنّ غوغل حياديّة أو منْصفة، بمعنى أنّها تعامِل "الطرفيْن" على قَدم المساواة. لكنّ هذا الظنّ وهْمٌ: أوّلًا، لأنّ مساواةَ المعتدي المحتلّ بالمقاومِ الخاضعِ للاحتلال انتصارٌ (لاأخلاقيٌّ) للطرف الأول. وثانيًا، لأنّ غوغل بلايْ مازالت تستضيفُ لعبةً أُخرى لا تختلفُ عن لعبة "القبّة الحديديّة" إلّا لجهةِ إغفالِ صانعيها، في التعريف بها، ذِكْرَ اسمِ "العدوّ،" أيْ غزّة وحركةِ حماس؛ عنيْتُ لعبة Iron Dome – Missile Defense (أي القبّة الحديديّة ــــ الدفاع الصاروخيّ).(6) للتذكير: "القبّة الحديديّة،" ولو لم تُذكرْ كلمتا "حماس" أو "غزّة" كما ذُكرتا في تعريف اللعبةِ الأولى Iron Dome، هي اسمُ نظام دفاعٍ جوّيٍّ صاروخيٍّ إسرائيليّ، تمّ تطويرُه في السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد العام 2011، ويهدف إلى إسقاط صواريخِ المقاومة الفلسطينيّة، وخصوصًا صواريخ القسّام. وعليه، فإنّ صانعَ اللعبة الثانية "تحايَلَ،" في الواقع، على غوغل وعلى الجمهور، لأنّ هدفَ اللعبتيْن واحد: التحريضُ على صواريخ المقاومة، وعلى الشعبِ الفلسطينيّ في غزة!
***
أمّا في شأن العلاقة بين العدوّ وشركة فيسبوك، فلعلّ بعضَكم تابَعَ، عبر وسائل الإعلام، اللقاءَ الذي جرى، قبل أيّام، بين ممثّلِين عن الطرفيْن. وملخَّصُه، في كلّ حال، أنّ وزيرَي الداخليّة والعدل الإسرائيلييْن اجتمعا بوفدٍ من الشركة، واتّفقا (بحسب مكتب وزير الداخليّة) على تشكيل فريقيْن لمراقبة المضامين الفيسبوكيّة التي "تحرِّضُ على العنف،" ومن ثمّ إزالتِها. العدوّ يرى أنّ منبعَ "الإرهاب" ضدّه هو المنشوراتُ الداعمةُ للمقاومة على وسائل التواصل الاجتماعيّ (فيسبوك وتويتر بشكل خاصّ)، لا 68 عامًا من القتلِ والتهجيرِ والنكباتِ المستمرّة. وقالت وزيرةُ العدل، ايليت شاكيد، في مؤتمرٍ صحفيٍّ بعد الاجتماع: "مثلما أنّ تسجيلاتِ الفيديو التي يبثّها تنظيمُ داعش تتعرّضُ للمراقبةِ والإزالةِ من الشبكة العنكبوتيّة، فإنّنا نريدُهم [المقصود المسؤولون عن فيسبوك وشبكاتِ التواصل الاجتماعيّ الأخرى] أن يتّخذوا الإجراءَ نفسَه ضدّ المنشورات الفلسطينيّة التي تحرِّضُ على الإرهاب."(7) الأخطر أنّ شاكيد كَشفتْ أن إسرائيل قدّمتْ خلال الأشهر الأربعة الأخيرة 158 طلبًا إلى فيسبوك لإزالة "المضامين التحريضيّة،" و13 طلبًا إلى شركة يوتيوب، وأنّ فيسبوك وافقتْ على 95% من الطلبات، في حين وافقتْ يوتيوب على 80%!(8)
فسيبوك وَصفت الاجتماعَ بـ "البنّاء،" وأكّدتْ أنّ "التطرّفَ الأنترنتيّ لا تُمْكن مواجهتُه إلّا بشراكةٍ قويّةٍ بين صنّاع القرار، والمجتمعِ المدنيّ، والأكاديميا، والشركات..." وأوضحتْ أنْ "لا مكانَ للإرهابيّين أو للمضامينِ التي تروِّج للإرهاب على الفيسبوك."(9)
والآن، ما هي الملاحظات التي يمكن أن يَخْرج بها القرّاءُ بعد تصريحات فيسبوك وشاكيد ومكتبِ وزيرِ الداخليّةِ الإسرائيليّ؟
أولًا، إنّ فيسبوك خَضَعتْ لابتزاز الحكومة الإسرائيليّة وتنمُّرِها. نتساءل بالمناسبة: هل توافقُ شركةُ فيسبوك على أن تلتقي وفدًا من حكومة حماس، وأن تَعِدَها بحذفِ كلِّ ما يحرِّضُ على الإرهاب الإسرائيليّ ضدّها وضدّ قطاع غزّة ومدنيّيه وأطفاله بشكلٍ خاصّ؟ هل ستحذف منشورًا إسرائيليًّا يحرِّض على القضاء على أمين عامّ حزبِ الله، أو أمين عامّ حركة الجهاد الإسلاميّ مثلًا؟
ثانيًا، لقد خضعتْ فيسبوك لتعريفٍ إسرائيليٍّ استعماريٍّ للإرهاب، وماهتْه بالمقاومة الوطنيّة، التي هي حقٌّ إنسانيٌّ مشروع؛ بل إنّ المادّة 51 من ميثاق الأمم المتحدة نفسِه صرّحتْ بالآتي: "ليس في الميثاق ما يُضعف أو ينقص الحقَّ الطبيعيَّ للدول، فُرادى أو جماعاتٍ، في الدفاع عن أنفسها، إذا اعتدت قوّةٌ مسلّحةٌ على أحد أعضاءِ الأمم المتحدة..."(10)
ثالثًا، ألا يقدِّم الاتّفاقُ الإسرائيليُّ ــ الفيسبوكيُّ إلى الكيان الصهيونيّ تبريرًا إضافيًّا (قد لا يحتاجُه أصلًا) لملاحقة الفسابكة "المحرِّضين" ضدّه؟ الجديرُ ذكرُه في هذا الصدد أنّ العدوّ داهم في ربيع العام 2015 منزلَ الشاعرة الفلسطينيّة دارين طاطور (من بلدة الرينة داخل فلسطين المحتلّة عام 48)، وقاضاها بحجّة نشرِ بوستاتٍ عبر الفيسبوك والتحريضِ على الإرهاب وكتابةِ شعرٍ تحريضيّ.(11) كما أنّه عمد، بين العاميْن 2011 و2015، إلى اعتقال 426 فلسطينيًّا بتهمة التحريضِ على وسائل التواصل الاجتماعيّ.(12)
***
هل يعني ذلك كلُّه أنّنا بتنا نخْضع لكبتٍ من نوعٍ مختلف، تمارسُه دولةُ العدوّ في المجال الانترنتيّ، وتتواطأ معها وسائلُ التواصل الاجتماعيّ بشكلٍ أو بآخر؟
هذا ما يبدو عليه الأمرُ. وهو ليس بالواقعِ الجديدِ في كلّ حال؛ ولكنّ وعيَنا به ــــ وبهذه الحدّة ــــ هو الجديدُ ربّما. فالفضاءُ الإنترنتيّ يزدادُ خطورةً، ولاسيّما في مجال مقاطعة الكيان الصهيونيّ. والحال أنّنا بتنا إزاء ما يُشْبهُ "كوْنًا افتراضيًّا" متناميًا معاديًا للسياسات الإسرائيليّة: كوْنًا يَجمع أنصارَ فلسطين في العالم، عبر الفيسبوك والتويتر واليوتيوب والسكايْب والواتسآب وتطبيقاتٍ أخرى، ويساعدُهم على وضع التكتيكات والإستراتيجيّات المشتركة، بما يقلقُ العدوَّ، ويقضّ مضجعَه، إلى حدّ اضطرارِه إلى صرفِ ملايين الشيكلات، وتشكيلِ أقسامٍ وزاريّةٍ خاصّةٍ لمحاربتهم، بل إلى تهديدِهم بـ "الاغتيالاتِ المدنيّةِ الموجّهة."(13)
هل يعني أنّنا أمام مؤامرة "فضائيّة" لا نملك إزاءها إلّا الندبَ، والشعورَ بالشفقة على أنفسنا؟
بالتأكيد لا. فما الذي يمنعُنا من محاورة المسؤولين عن وسائل الاتصال الاجتماعيّ، وإحراجِهم، ومحاسبتِهم أمام العالم الذي يزعمون أنه بات أكثرَ حريّةً بسببهم؟ ما الذي يمنعُنا من أن نتقدّم إلى غوغل مثلًا بطلب إزالة هذه اللعبة الصهيونيّة أو تلك، أو إلى فيسبوك بطلب حذف هذا المضمون "التحريضيّ" (الفاشيّ) الإسرائيليّ أو ذاك؟
إنّ عالمَ التكنولوجيا يَخدم أعداءَ العدالة، ولكنّه قد يَخدم أنصارَها أيضَا. وأنصارُ فلسطين قادرون على إحراج خصومهم ومحاسبتهم، وقادرون أيضًا على إعادة نشْر الممنوع بطرقٍ متعدّدة (يمكن الوصولُ، مثلًا، إلى تطبيق "قاطعوا" من موقع حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" مباشرةً، ومن دون اللجوء إلى التزلّف إلى شركة غوغل أو غيرِها).(14) وهم يَمْلكون من عناصر القوة ما يشكّلُ أرضيّةً صلبةً للنموّ: معرفةً، وحماسًا، وإيمانًا بالقضيّة، وشبكةَ اتصالاتٍ جيّدةً في أربع رياحِ الأرض تقريبًا.
"إنّ نضالنا ضدّ المشروع الصهيونيّ قد يستمر ّمئةَ عامٍ أخرى،" كما قال الدكتور جورج حبش. وهو نضالٌ يمتدُّ، يومًا بعد يوم، على وسع الأرض، وفي الفضاء.
بيروت