دور المعجم العربيّ الحديث في تجديد اللغة ومقاومة التجزيء (ملفّ)
15-01-2016

          

لكي تستطيع اللغةُ القيامَ بكلّ الوظائف التي تقترن بها، يَلزم أن تتوفّرَ لها مجموعةٌ من الشروط؛ وإلّا تراجعتْ على مستوى الواقع، واختفى الكثيرُ من ألفاظها لدى مستعمليها، لتحلّ مكانَها لغةٌ أخرى ذاتُ إمكانيّاتٍ تداوليّةٍ أقوى. والعربيّة لا تشذّ عن هذه القاعدة.

ما تعرفه العربيّةُ من مشاكل يعود، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى أزمات الدول العربيّة على مختلف المستويات. ووسط هذه الأزمات، فإنّ اللغة غالبًا ما تُدرَجُ في خانة "الكماليّات،" وتتحوّل إلى قضيةٍ "يُرجأ" أمرُ الاشتغال بها إلى ما بعد تحقيق "الضروريّات." هذا في أحسن الحالات.

أمّا في أسوإها، فيتحوّل تعويقُ اللغة العربيّة إلى هدفٍ تعمل هذه الجهةُ أو تلك على تحقيقه، رغبةً في إعطاء الأولويّة إلى لغةٍ أخرى من أجل تحقيق سياساتٍ محدّدة.

فإذا كانت الحالة الأولى تعبيرًا عن غياب الإرادة السياسيّة لإخراج اللغة العربيّة من أزمتها، فإنّ الحالة الثانية تجسيدٌ للرغبة في تقليص حيّز وجودها، وإدخالِها في صراع مع اللغات الوطنيّة الأخرى، وقلبِ التمثّلات الإيجابيّة المرتبطة بها إلى تمثّلاتٍ سلبيّة.

 

الرؤية المركّبة

تتعدّد الاقتراحاتُ الراميةُ إلى النهوض باللغة العربيّة، لكنّها جميعَها ستظلّ بلا جدوى ما لم تُدْرجْ ضمن خطّةٍ شاملةٍ ترمي إلى ضمان جودة التعليم، وتفسح المجالَ أمام اللغة العربيّة في وسائل الإعلام بدل محاربتها، كما هو الشأن اليوم في دولٍ عربيّةٍ كثيرة.

وتجربة المغرب في هذا الإطار تثبت ذلك. فوزيرُ التربية الوطنيّة والفنون الجميلة والشبيبة والرياضة، محمد بنهيمة، كان معروفًا بمعاداته للتعريب، ولم يكد يتولّى منصبه في الستينيات حتى انخرط في مشاريع معادية لكلِّ ما له علاقة باللغة العربيّة. يقول عبد العزيز بنعبد الله، وهو أحدُ الشهود على تلك المرحلة:

إنّ أية لغة، لكي تجد لها موقعَ قدمٍ في مجتمعٍ ما، يَلْزمها أن تحاطَ بتشريعاتٍ تَضْمن لها الحمايةَ والاستعمالَ في مختلف المجالات. كما يَلْزم أن يكون ذلك في إطار الاستمراريّة من أجل خلق تراكمٍ يؤدّي إلى تجذيرها في هذه المجالات.

"...خلَف الدكتور محمد بنهيمة، الذي شغل منصبَ الوزير الأول، زميله يوسف بلعباس على رأس وزارة التربية، وكان من خصوم التعريب. فانطلق في حركةٍ معاكسةٍ لما بدأتُ أمارسه في معهد التعريب المغربيّ، حيث عرض عليّ أن أساعده في هذا المجال، فرفضتُ لأنّ منهجي كان مغايرًا لمنهجه. وقد حاول الاستعانة بجلالة الحسن الثاني لحملي على القبول، ولكنّني تشبّثتُ بموقفي، ولا سيّما أنّ العاهل الكريم أبى التدخّل شخصيًّا في ذلك. فلم يكن من السيّد الوزير إلّا أن عمد إلى عزلي عن المعهد وحده، لأنّ وجودي على رأس مكتب التعريب كان بمرسومٍ ملكيّ سامٍ."

إنّ أية لغة، لكي تجد لها موقعَ قدمٍ في مجتمعٍ ما، يَلْزمها أن تحاطَ بتشريعاتٍ تَضْمن لها الحمايةَ والاستعمالَ في مختلف المجالات. كما يَلْزم أن يكون ذلك في إطار الاستمراريّة من أجل خلق تراكمٍ يؤدّي إلى تجذيرها في هذه المجالات. ويَظْهر أنّ هذه الإرادة لم تتوفّرْ بعد، في المغرب على الأقلّ: فما قام به الوزير بنهيمة في الستينيّات يقوم به، اليومَ، وزيرُ التعليم الحاليّ، الذي انقلب على تعريب المواد العلميّة من دون إخبارٍ مسبّقٍ يؤدّي إلى فتح نقاشٍ في الموضوع، ومن دون استشارة رئيس الحكومة، الذي يُفترض أن يصادقَ على مثل هذه القرارات الخطيرة التي ترهن مستقبلَ الأجيال المقبلة.

ويمكننا أن نقول، بناءً على مثل هذه الإجراءات الارتجاليّة، انْ لا وجودَ في محيطنا العربيّ لما يُسمّى في الدراسات اللسانيّة "تخطيط الوضع،" أيْ حماية اللغة العربيّة وضمان قيامها بوظائفها في مناخٍ سليم. الأمر يتطلّب قيامَ المثقفين بنشر الوعي بأهمّيّة المكوّن اللغويّ في تحقيق استقلال الذات والتنمية الحقيقيّة، وإبرازِ قيمة اللغة العربيّة وإمكانيّاتِها التي خوّلتْها أن تكون من بين اللغات الستّ الأولى عالميًّا.

وتحرّكُ المثقفين يجب أن يوازيَه تحرّكُ المجتمع المدنيّ، من خلال خلق إطاراتٍ تدافع عن اللغة العربيّة وعن الثقافة المرتبطة بها، لتتحوّل هذه الإطاراتُ فيما بعد ــــ ومن خلال التنسيق فيما بينها ــــ إلى جماعاتِ ضغطٍ يُقيم لها رجلُ السياسة الاعتبارَ، وتثنيه بتحرّكاتها عن تمرير سياساته المعادية للعربيّة.

 

اللغة في ذاتها: ضرورة المعجم

هذه الإجراءات ضروريّة لتوفير المناخ السليم للغة لكي تمارس وظائفَها من دون تعثّر. لكنّها وحدها لا تكفي. بل يجب كذلك الاشتغالُ على اللغة العربيّة في ذاتها، وذلك من خلال ما يأتي: تبسيطُ قواعدِها وتقريبُها من المتعلّمين بطرقٍ بيداغوجيّةٍ مبتكرة؛ وتوفيرُ المصطلحات الجديدة التي ترتبط بمختلف القطاعات؛ والترجمةُ منها وإليها لإغنائها بالألفاظ والأساليب؛ وإكسابُها المرونةَ اللازمةَ التي تضمن لها الحضورَ القويّ.

في هذا الإطار تَطرح المعجماتُ نفسَها ضرورةً ملحّةً لتمكين اللغة العربيّة في الوقت الراهن. وقد يُفهم من الحديث عن المعجم أنّه إجراءٌ تقنيٌّ يرتبط بشرح معاني الكلمات لا غير، لكنّ المسألة لا تقتصرعلى اللغة وحدها، بل لها امتداداتٌ ذاتُ علاقةٍ بالتاريخ والهويّة وبمختلف القضايا المرتبطة بكلّ ما يحيط بنا. المعجم، عندما تَحْكم تأليفَه رؤيةٌ بعينها، لا يقف عند حدّ الوصف، بل يساهم في بناء التصوّرات حول الذات والآخر والعلاقةِ بينهما. لذلك نقول إنّ مَن يصنع العالمَ هم واضعو المعجمات والموسوعات! وربما ظنّ البعضُ أنّ ذلك أصبح الآن متجاوَزًا،على اعتبار أنّ شبكة الأنترنيت قد أزاحت المعجماتِ الورقيّة وأخذتْ مكانها، لكنّ ما يجب ألّا ننساه هو أنّ هذه المعجمات الورقيّة هي من محتويات الأنترنيت الأساسيّة.

 

المعجم والسياسة

لقد راهنتْ جهاتٌ عدّةٌ على تجييش الإثنيّات والأعراق والثقافات المتنوّعة التي ظلّت متساكنةً في مختلف الدول العربيّة، من أجل تحويلها إلى نعراتٍ من خصائصها التعصّبُ والتطرّفُ، بدلًا من الإبقاء عليها في وصفها غنًى وتنوّعًا. وقد كان المدخلُ إلى تحقيق ذلك سياسيًّا في مرحلةٍ من المراحل، لكنّه انتقل فيما بعد ليتمّ الاشتغالُ عليه ثقافيًّا وحضاريًّا ولغويًّا. وهذا ما نلاحظه في "مخطّط برنارد لويس،" الذي اقترَح على صنّاع القرار في الغرب تشجيعَ الجماعات والإثنيّات والأقليّات الدينيّة والمذهبيّة، من أجل تأزيم الأوضاع في دول العالم العربيّ الإسلاميّ لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ معلومة.

هذا الخطاب ذو الأهداف السياسيّة يعمل على فصل هذه الأقلّيّات عن الثقافة العربيّة، ويعمل على "تذكيرها" بأصولٍ وهميّة. وهو يعمل أيضًا على خلق العداء بين بعض أصحاب اللغات الجهويّة واللغةِ العربيّةِ داخل البلد الواحد، وعلى فصل العامّيّات عن اللغة العربيّة الأمّ اعتمادًا على تحليلاتٍ هشّةٍ تذهب إلى كون العاميّات لغاتٍ مستقلّةً بذاتها. وهذا ما يتمّ سحبُه كذلك على اللهجات الأخرى، فيجري "تطهيرُها" من الألفاظ العربيّة التي انتقلتْ إليها نتيجةً لآليّة الاقتراض الطبيعيّة طوال التاريخ. والهدف النهائيّ من هذه العمليّات كسرُ الجسور الثقافيّة بين مختلف مكوّنات المجتمع العربيّ الواحد من خلال اللغة، تمهيدًا لتحويل الكيان الواحد إلى كياناتٍ متصارعة.

لقد راهنتْ جهاتٌ عدّةٌ على تجييش الإثنيّات والأعراق والثقافات المتنوّعة التي ظلّت متساكنةً في مختلف الدول العربيّة، من أجل تحويلها إلى نعراتٍ من خصائصها التعصّبُ والتطرّفُ، بدلًا من الإبقاء عليها في وصفها غنًى وتنوّعًا.

لمواجهة هذه الأهداف السياسيّة التي تمرّ عبر اللغة والثقافة، يَلْزم الانطلاقُ ممّا هو لغويّ وثقافيّ كذلك. وهنا يأتي دورُ المعجمات التي قصدناها، والتي يجب أن تقوم على منطلقاتٍ اتصاليّة بدلًا من تلك المنطلقات الانفصاليّة التي تعتمدها السياساتُ المذكورةُ أعلاه.

المطلوب، إذن، هو تأليفُ معاجم لغويّة تربط الألفاظَ العربيّةَ الفصيحة بما هو متداولٌ في كلّ مجتمعٍ عربيّ على حدة، من لغاتٍ وعامّيّاتٍ ولهجات، عربيّةٍ وغيرِ عربية، وإبرازُ ذلك من خلال الأمثلة والاستشهادات، وردُّ العامّيّ إلى الفصيح. والهدف: خلقُ متخيَّلٍ لغويّ ثقافيّ مشترك، تجد فيه كلُّ مكوّنات المجتمع المختلفة ذاتَها وذواتِ الآخرين جنبًا إلى جنب.

إنّ هذا النوع من المعاجم هو وحده القادرُ على الصمود في وجه هذه السياسات التجزيئيّة، إذ سنكون إزاء معجمٍ عربيّ مغربيّ، وآخر عربيّ لبنانيّ، وثالث عربيّ مصري... إلخ. وكلُّ واحدٍ من هذه المعاجم يَستحضر التراثَ اللغويَّ العربيّ؛ لكنّه يضيف إليه الرصيدَ اللغويَّ المتداولَ في كلّ مجتمعٍ عربيٍّ على حدة، أكان عامّيًّا أمْ منتميًا إلى لهجاتٍ أخرى، فتُستخرج عناصرُ الالتقاء بينه وبين الموروث العربيّ الفصيح.

هكذا يتم تأصيلُ اللغة العربيّة أكثرَ ممّا هي عليه، وتُقطَع الطريقُ على مَن يسخِّر اللغةَ لأهدافٍ سياسيّةٍ لاوطنيّة، ويعمل على تهميش لغة الضاد ومحاصرتها في الواقع والأنفس في مختلف الدول العربيّة.

المغرب

 

 

رشيد الإدريسي

 أستاذ بجامعة الحسن الثاني، الدارالبيضاء.دكتوراه في مناهج النقد الحديث. له أبحاث ودراسات في النقد الحدي، والسرد العربيّ. له مقالات عديدة عن الوضع اللغويّ والثقافيّ في المغرب والعالم العربيّ.