النظام الصحي العالمي والتعامل مع الأزمات
28-03-2020

 

لكلّ زمنٍ خصوصيّاتُه، ولكلّ حربٍ عتادُها.

كان لا بدّ من أن تؤتي دراسةُ علم المخاطر والطوارئ ثمارَها، وتتعدّى النظريّاتِ الأكاديميّةَ والمهنيّةَ إلى حيّز الإبداع العمليّ والتنفيذيّ، وإلى حيّز المساءلة، فتَطرحَ في الأوقات العصيبة الراهنة السؤالَ الآتي: هل تنبغي إعادةُ النظر في طريقة إدارة الأنظمة للطوارئ، بعد فشلها الذريع في منع تفشّي الوباء؟

أكثريّةُ العاملين ضمن المنظومة العلميّة تنبّأتْ بتداعيات كورونا، وما زالت تسائل أصحابَ القرار والموارد. غير أنّ هؤلاء ما فتئوا يتعاملون مع هذا الوباء وكأنه كابوسٌ سيمضي قبل أن نعودَ بعده إلى "الأيّام الخوالي."

لقد وَضَعَنا الوباءُ أمام عجائبَ لا يمكن استيعابُها، ما يدفعنا إلى أن نطرح سؤالًا ثانيًا: كيف استنفد هذا الوباءُ إمكانيّاتِنا كافّةً بحيث وضَعَ الدولَ والحكومات في مستنقعٍ واحد، يتنافس فيه غنيُّها وفقيرُها على الكمّامات وأجهزةِ التنفّس والقفّازات وكافّةِ المعدّات الأساسيّة لحماية الجسم الطبّيّ؟!

نحن بالطبع أمام وضع خطير، عناوينُه الرئيسةُ: حمايةُ المرضى والمجتمع، وحمايةُ الجسم الطبّيّ، وعدمُ أخذ النظام الصحّيّ إلى مرحلة الاستنزاف بما يهدِّد الوضعَ العامَّ والمجتمعَ. من هذا المنطلق تأتي مسؤوليّةُ المواطن الأساسيّة باتّباع التعليمات للمساهمة في الحدّ من انتشار الوباء. وهذا أمرٌ يجب عدمُ الاستخفاف به مطلقًا. ويوازيه في الأهميّة إجراءُ الفحوص اللازمة للحالات المشتبَهِ فيها من دون انقطاع، والتشخيصُ من دون توقّف، كي نستطيعَ تحديدَها والسيطرةَ على الوباء وانتشارِه، بفعّاليّةٍ وسرعةٍ، وبأقلّ خسائر ممكنة.

 

نحن أمام وضع خطير، عناوينُه الرئيسةُ: حمايةُ المرضى والمجتمع والجسم الطبّيّ

***

في الجانب المشرق من الصورة، تتجلّى أكثرُ تداعيات الوباء إيجابيّةً في اندفاع أفراد الجسم الطبّيّ إلى ممارسة مهامّهم على الرغم من الخوف من هذا الوباء ومن العدوى. إنّ عدمَ سماعنا أيَّ رفضٍ لمزاولة المهنة مدعاةٌ للفخر والكبرياء، خصوصًا في جوٍّ مليءٍ بالتشرذم وندرة الإمكانيّات. ولا تفوتنا هنا ملاحظةُ أنّ هذا الجسم ليس مُعَدًّا لمواكبة وباءٍ بهذا الحجم، خصوصًا في خضمّ وضعٍ اقتصاديّ يتهاوى كلعبة الدومينو. ولا يزال "القيّمون" يتكلّمون ويخطّطون لأسابيع، بينما الوضعُ السيّئ الراهن قد يتعدّى الأشهرَ أو السنة.

وفي الجانب المقابل، فقد بات معروفًا أنّ المعطيات العلميّة عن الوباء تتغيّر يوميًّا، ويجب التعاملُ مع هذا التغيير بشكلٍ ممنهجٍ وعلميّ. ويمكن تفسيرُ غياب "الخطط الاستباقيّة" بملاحظة توظيف العلم في خدمة استراتيجيّات الأنظمة السياسيّة التي أمضت عقودًا من الزمن في تجهيز نفسها عسكريًّا، متناسيةً تزويدَ القطاع الصحّيّ بما يلزم لمواجهة المخاطر. والمؤسف أنّ هذه الأنظمة ما زالت تُمنّي النفوسَ بأن ينتهي هذا الوباءُ قريبًا، ضاربةً بعرض الحائط الحقائقَ الميدانيّةَ حول الانتشار والعدوى المتصاعديْن. وهذا سلوكٌ غيرُ مسؤول، يضع الجسمَ الطبّيَّ بأكمله في عين العاصفة، من دون أيّ صيانةٍ أو حماية. وهو ما يشبه إرسالَ الجنود إلى المعركة من دون ذخيرةٍ أو عتاد!

***

الدرس الأساس الذي يمكن استخلاصُه حتى الآن يفيد بأنّ "استراتيجيّة العزل" التي اتُّبِعت أحيانًا أدّت إلى نتائجَ ناجحة. لكنْ بات من المسلَّمات أن يستنفدَ تصاعدُ هذا الوباء ما يستطيع النظامُ الصحّيُّ الحاليُّ تحمّلَه، ما قد يؤدّي إلى الفشل في حماية البعض من الموت إنْ لم تغيِّر الحكوماتُ أولويّاتها. وهذا يقتضي خلقَ مناخٍ جديدٍ يَدعم القطاعَ الصحّيَّ انطلاقًا من أنّه أولويّةٌ توازي الدفاعَ عن الوطن، ويقتضي - من ثمّ - رصدَ كلّ الإمكانيات لتحقيق الأمان الصحّيّ للمجتمع.

إنّ استمرارَ النظام الصحّيّ في مواجهة تصاعد الوباء أمرٌ أساسٌ لاستمرار المجتمع. وهذا يعني ضرورةَ تأمين العناية الطبّيّة بشكلٍ ممنهجٍ لكافّة الحالات، وإلّا فنحن سائرون بسرعةٍ رهيبةٍ نحو "وباءٍ بلا سيطرة،" ونحو وضعٍ صحّيٍّ واجتماعيٍّ عامّ ينافس الوباءَ في خطورته!

ما لا شكّ فيه أيضًا أنّ هذه الخطورة ستزداد لتصل إلى العمق الاقتصاديّ، المحلّيّ والعالميّ، وستؤثّر سلبًا في الدول الفقيرة. بل لن تستطيع الدولُ الكبرى نفسُها التهرّبَ من ذلك، وإن استخدمتْ سياسةَ "تأجيل الخطر" حتى الآن.

 

 الأنظمة الصحّيّة في العالم ليست جاهزةً لاستيعاب هذا الوباء أو غيره

 

لقد بدا واضحًا أنّ العالم يستفيق، بشكلٍ بطيءٍ ومتأخّر، من تداعيات هذا الوباء. ولن يكون ما قبل الوباء كما بعده، وقد يعود إلى الانتشار في الموسم القادم وما بعده، ما لم يتمّ إيجادُ العلاج الأكيد واللقاح المجدي. زِد على ذلك إمكانيّة ظهور أوبئةٍ جديدة، بالخطورة نفسها، أو أكبر. لذا ينبغي التذكيرُ دومًا بأنّ الأنظمة الصحّيّة في كلّ أنحاء العالم ليست جاهزةً لاستيعاب هذا الوباء أو غيره، على الرغم من محاولة المؤسّسات والكوادر الطبّيّة - بكلّ ما أوتيتْ من قوّةٍ وعزم - ردعَ التداعيات الخطيرة.

***

ما تقدّم يضعنا أمام أولويّاتٍ لا مفرَّ منها لاستعادة زمام المبادرة والتقدّمِ سريعًا نحو مستقبلٍ أفضل للإنسانيّة. ويتمّ ذلك عبر:

- الحوكمة الرشيدة، وإدارة المخاطر على الصعيديْن الحكوميّ والاجتماعيّ.

- إعادة النظر في الهيكلة الماليّة للأنظمة والحكومات، وإعطاء النظام الصحّيّ ونظام التعليم والأبحاث والتدريب المستمرّ المواردَ الأساسيّةَ لمواجهة التحدّيات.

- تطوير شبكة الأمن والأمان الاجتماعيّة، لكونها الرديفَ الأوّلَ للنظام الصحّيّ، والمساعدَ الأساسَ في تطوير المسؤوليّة الاجتماعيّة.

- تحديد إمكانيّات النظام الصحّيّ الحاليّ وإمكانات تحمّله قبل الوصول إلى مرحلة الاستنزاف الخطير.

- تفعيل الشراكة بين القطاعيْن العامّ والخاصّ.

- مساندة أفراد الجسم الطبّيّ والمساعِد، وتطويرهم وتدريبهم، وتأمين سُبُل حمايتهم، لكونهم خطَّ الدفاع الأوّل عن النظام الصحّيّ وأمان المجتمع.

- ترشيد الإنفاق على النظام الصحّيّ من ناحية المُعِدّات والتجهيزات الطبّيّة الملائمة.

- التوجّه نحو نظام التغطية الصحّيّة الشاملة بكافّة عناصره (الوقاية، الرعاية المبكّرة، الرعاية الأوّليّة، نظام الإحالة).

- دعم قسم العلاج النفسيّ وتطويره، وتقديم خدماته إلى المرضى والطاقم الطبّيّ.

- المثابرة على إيجاد لقاحاتٍ وحلولٍ علميّة، ومتابعة الاحتياط والتحضير لمواجهة أوبئةٍ أخرى.

***

لقد وضعَنا هذا الوباءُ أمام واقعٍ حتميّ، هو أنّ على الأنظمة السياسيّة والصحّيّة والاجتماعيّة أن تضع نصب أعينها استراتيجيّةً مستقبليّةً، وذلك بتوجيه الاستثمار وإرشادِه في كافّة المجالات كي نستطيعَ مواجهةَ التحدّيات والمخاطر المستقبليّة.

فلوريدا

 

مراجع

علي الحاج

 عمل خلال 35 سنة مديرًا تنفيذيًّا لعدة أنظمة صحّيّة في الولايات المتحدة ولبنان. أنهى دراساته في علم النفس التربويّ، وإدارة الرعاية الصحّيّة، وقانون حقوق الإنسان، في جامعات ويْن ستيْت وميشيغين وسيْنت توماس. وهو اليوم عضوُ المجلس التنفيذيّ لاتحاد المستشفيات العربيّة، ورئيسُ اللجنة التنفيذيّة لمستشفى طيبة في الكويت، ورئيس ومدير عامّ مجلس فيريتاس للعلوم والأبحاث والتنمية.