الوجهُ الآخر لمكيافللي
17-09-2016

 

اشتُهر الكاتبُ والمفكّر السياسيُّ الإيطاليّ نيكولاي مكيافللي (1469 ــــ 1527) بكتابه الأمير، الذي كان السببَ الرئيسَ في "سوء سمعته"؛ فمنه اشتُقَّ مصطلحُ "المكيافيلليّة،" المرادفُ لـ"فصل السياسة عن الأخلاق،" ولمبدإ "الغاية تبرِّر الوسيلة." ومن نصائح مكيافللي للأمير: "من الخير أن تتظاهرَ بالرحمة، وحفظِ الوعد، والشعورِ الإنسانيِّ النبيل، والإخلاصِ، والتديّن، وأن تكون فعلًا متّصفًا بها. ولكنْ عليك أن تعدَّ نفسَكَ، عندما تقتضي الضرورةُ، لتكون متّصفًا بعكسها". أما الفضيلة عنده فهي "فضيلةُ الأقوى." وأمّا الأمير الحاذق فهو مَن يتقن تقليدَ الثعلب والأسد: فـ"الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلبُ لا يتمكّن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب. ولذا يتحتّم [على الأمير] أن يكون ثعلبًا ليُميّز الفخاخَ، وأسدًا ليُرهب الذئابَ..."(1)

غير أنّ الكتاب المذكور، بحسب أرنستو لاندي، "يقدّم أقلَّ قدْرٍ ممكنٍ من التعبير عن حقيقة أفكارِ [مؤلِّفه]."(2) فقد استدلّ دارسو مكيافللي من خلال قراءة كتبه الأخرى ـــــ أي الخطب، والمقالات، وتاريخ البندقيّة ـــــ على أنّه كان إنسانيًّا وجمهوريًّا.

ثم إنّ الباحثين لم يهتمّوا كثيرًا بأشعار مكيافيللي وسيرته. فالحق أنّ بعضَ نصوصه الشعريّة المتفرّقة تُظهر عكسَ المشاعر التي يوحي بها كتابُ الأمير. خذْ هذا المقطعَ من قصائد الحمار، وهو شهادةٌ على مكيافللي الآخر، الخائفِ، المغتربِ، غيرِ المحظيّ، غيرِ المقرَّبِ من السلطة:

آملُ، والأملُ يزيد من عذابي.

أبكي، وبكائي يُغذّي قلبي المبتلى.

أضحكُ، وضحكاتي لا تسرُّني.

أحترقُ، ولا تبدو عليّ علاماتُ الاحتراق.

أخشى، وأخافُ ممّا أراه وأسمعُه.

كلُّ الأشياءِ تحملُ إليّ ألمًا جديدًا

آملًا أبكي، أضحكُ وأحترق

وأخافُ ممّا أسمع وأرى.(3)

ففي أشعار مكيافللي غير المكتملة، قصائد الحمار، التي كتبها في العام 1517 بعد سنة من كتاب الأمير، ردًّا على إقصائه عن الحياة السياسيّة ونفيه،(4) يَستبدل حنقَه وانتقاداتِه اللاذعةَ للعامّة في الأمير بهجومٍ واضحٍ على عائلة "مديتشي" الحاكمة ("الأطبّاء" بالإيطاليّة)، التي يتّهمها بأنّها أسّستْ سلطتَها اعتمادًا على سذاجة الشعب الفلورنسيّ:

كما نصدِّق دومًا مَن يعدُنا بالسعادة،

آمنّا بـ"الأطبّاء."

لكنْ، بثقتنا بهم،

حُرمنا الصحّةَ.

وحدها هذه الشرذمةُ

تتمتّع وتحيا من مرض الآخرين

وتعاستِهم.(5)

ثمّ يكمل نقدَه اللاذعَ لزمنه ولحكّامِ عصره، مستوحيًا كتاب الحمار الذهبيّ من تأليف Apulée، بهدف تعرية الانحلال والفساد الذي كان ينخر الأنظمةَ السياسيّةَ، مستهدفًا بشكلٍ أساسٍ الطبيعةَ الإنسانيّة:

هذا "الحمار" يجب أن يصلَكُم

لكي تكتشفوا مدى فساد هذا العالم

لأنّني أتطلّعُ إلى أن يرسمَه لكم بالكامل

قبل أن يقضم عصاهُ ولجامَه.(6)

هذه القصائد الساخرة، المعاصرة لكتابه، الخطابات، تشكّل، بحسب ساندرو لاندي، وهو أحدُ كبار المتخصّصين المعاصرين بفكر مكيافللي وحياتِه، ما يمكن اعتبارُه "النصَّ الفلسفيَّ الأكثرَ عمقًا بين كتابات مكيافللي."(7) فللشعر هنا وظيفةُ كشفِ حجاب العالم وطبيعتِه، والإعلان عن مستقبله المتوقّع.

كما يسعى مكيافللي، من خلال بعض أشعاره، إلى اكتشاف عيوب الإنسانيّة ونقائصها؛ فإذا بها غيرُ جديرةٍ بمنافسة الطبيعة الحيوانيّة نفسِها:

حياةُ الإنسانِ أكثرُ هشاشةً

أكثرُ رغبةً، أكثرُ مخاوفَ، أكثرُ ارتباكًا

وأكثرُ اصابةً بداءِ الكَلبِ

منْ كلِّ أصنافِ الحيوانِ...

فالخنزيرُ لا يعذّبُ أخاه الخنزير،

والغزالُ لا يفترسُ غزالًا.

وحده الانسانُ يقتلُ الإنسانَ

يصلبُهُ، يسلخُ جلدَهُ.

فأنتم أيّها البشر

لا تكفيكم ما توفّره لكم الطبيعةُ،

فتغوصون في أعماقِ المحيطاتِ

لعلَّكم تَشْبعون منْ أسلاب حروب الإنسان.(8)

 

في قصائد الحمار يتنكّر مكيافللي لمفهوم "فضيلة الأقوى" الذي شكّل إحدى أهمّ أطروحاته في الأمير. وبلسان خنزيرٍ برّيّ، يبثُّ رسالته المشمئزّة ممّا آلت إليه البشريّةُ: "نحن الحيوانات الأصدقاءُ الأفضلُ للطبيعة، التي تزوّدنا بكمٍّ هائلٍ من الفضيلة. أما أنتم، أيها البشر، فيتوجّب عليكم شحذُها منّا."(9)

هذه انعطافةٌ تشاؤميّةٌ من مكيافللي؛ فعالمُ الإنسان، في رأيه، أصبح أوهنَ من أن يَبعث على الأمل بنهضةٍ وشيكة. وإزاء هذا العجز عن التغيير، وبحثًا عن مسربٍ زمنيٍّ قادمٍ أكثر ملاءمةً، فضّل مكيافللي أن يتقنّع بوجه حمار، وهو رمزٌ متعارفٌ عليه للامبالاة والصبر: "إلى أن تُظهرَ لك النجومُ فرصَكَ السانحة، سيكون عليك التخفّي تحت جلدٍ آخرَ لكي تتمكّن من زيارة هذا العالم."(10)

هذا هو الوجهُ الآخرُ لمكيافللي المُرهصِ بالحداثة وولادةِ عصر التنوير بعد أكثر من قرنين من وفاته.

  

 سياسيّ لادينيّ يحلم بالخلود

يصف المؤرّخُ الإيطاليّ Delio Contimori موقفَ مكيافللي من الأديان بأنّه "متناقضٌ ومبهم." بعضُ المرويّات عن ظروف موت مكيافللي تؤكّد لادينيّتَه، إذ يروي ثلاثةٌ ممّن حضروا ساعاتِ احتضاره الأخيرة أنّه شاهد حلمًا: "لقد رأى مجموعةً من الأشخاص بثيابٍ رثّةٍ، مظهرُهم بائسٌ وحزين. ورأى بعدَهم مجموعةً أخرى، مؤلّفةً من رجالٍ بمظهر النبلاء الرصينين، وهم يتحدّثون بأبّهةٍ ووقار." من بين المجموعة الثانية استطاع مكيافللي أن يتعرّف إلى كبار عقول العصور القديمة، ومن بينهم أولئك العظماءُ الذين كان يُجري معهم حواراتِه الليليّة المتخيّلة. لذلك أراد معرفةَ هويّاتهم، فأجابته المجموعةُ الأولى: "نحن القدّيسون والأتقياء ذاهبون إلى الجنّة." أمّا المجموعة الثانية فردّت بالقول: "نحن معذَّبو الجحيم." ففضّل مكيافللي الذهابَ إلى الجحيم، بهدف النقاش في السياسة، على دخول الجنّة والإصابة بالملل. ويعلّق لاندي على حلم مكيافللي قائلًا:

"إذا صحّت هذه الرواية، فهي تؤكّد بشكل أساسيّ أنّ مكيافللي قد استغلّ الفرصة التي وفّرها له حضورُ شهوده، لكي يحيا ما بعد موته على شكل أسطورة؛ أسطورةِ مكيافللي اللادينيّ الذي سيكون بمقدوره لاحقًا أن يغذّي، طوال عصورٍ متتاليةٍ، المكيافلليّةَ ومعارضةَ المكيافلليّة. فهذا الحلم المتّسم بنوع من الزندقة أو الإلحاد لا يشي بشيء عن المضمون الحقيقيّ لمعتقدات مكيافللي، وإنّما يتكفّل حصرًا بإلقاء الضوء على موقفه من الموت وتعطّشه للخلود."(11)

الأسطورة استمرّت فعلًا، ومعها التأويلاتُ المتعدّدة. ففي العام 1924، اختار الفاشيّ بنيتو موسوليني كتابَ الأمير موضوعًا لرسالته للدكتوراة، مطلقًا على الكِتاب صفةَ "ملازم رجُل الحكْم،" وعلى مؤلِّفِه لقبَ "الأمين العظيم." وها هو مواطنُه، المفكّرُ الشيوعيّ أنطونيو غرامشي، الذي قضى بعد خروجه من سجون موسوليني، يبتكر تأويلًا "للأمير الحديث" لمكيافللي، الذي يجسّده في الحاضر، بحسب رأيه، الحزبُ الشيوعيُّ الإيطاليّ.

***

 لقد أسفرت الكتاباتُ الشعريّة غيرُ المكتملة، فضلًا عن أجزاء من سيرته، عن وجهٍ آخرَ لمكيافللي: وجهٍ أكثرَ إحساسًا وضِيقًا بالعالم، وما يعانيه الإنسانُ من ظلم أخيه الإنسان. وما أشدّ راهنيّةَ مكيافللي في عباراته الشعريّة الغاضبة والممتلئة نقمةً؛ لكأنّه يصف المشهدَ الآن وفي الحاضر، ولكنْ في الشرق، لا في روما أو فلورنسا.

بيروت

 

1- للحديث عن كتاب الأمير اعتمدنا بشكل أساس على مؤلَّف فاروق سعد: نيقولو مكيافللي: تراث الفكر السياسيّ قبل الأمير وبعده (بيروت: دار الجيل، 2002)، من ص 51 إلى 201.

2- لاندي أرنستو، "مكيافللي" في: موريس كرانستون وآخرون: أعلام الفكر السياسيّ (بيروت: دار النهار، 1991)، ص 40.

3- Machiavel, Œuvres, éd. C. Bec (Paris : Laffont, 1996), p. 1094

4 ـ اتُّهم مكيافللي بالتآمر على النظام في البندقيّة، وبالعمل على إقامة حكمٍ جمهوريٍّ بديل، فأُلقي عليه القبضُ، وحُكم عليه بالنفي إلى الريف التوسكانيّ. هناك، شرع في كتابة الأمير سنة 1513، وقد أهداه إلى الأمير الحاكم آنذاك، لكنّ الأخير لم يطّلعْ عليه خلال حياة مؤلِّفه.

5- المرجع نفسه،  ص 1033-1060.

6- المرجع نفسه،  ص 1036 .

7- Landi Sandro, Machiavel, Ellipses (Paris, 2008), p. 181

8- المرجع نفسه، 1059.

9- 183 Landi Sandro, op cit, p

10- المرجع نفسه،  ص 183 .

11- المرجع نفسه،  ص 248.

علي مزيد

كاتب لبنانيّ يعيش في سويسرا. حائز دكتوراة في العلوم السياسيّة من جامعة ليون.