ضيفٌ من الوادي
28-05-2016

 

ــ  الله يساعدنا عَ هَالليلة يا مَرا...

قالها جدّي وهو يحاول جاهدًا إغلاقَ الباب خلفه؛ فالريح في الخارج في مهرجانٍ صاخب منذ الصباح الباكر.
جحافلُ من الغيوم السود تتدافع في السماء منذرةً بطوفانٍ عظيم، ما دفع الفلّاحين إلى الخروج من أكواخهم علَّهُم يسدّون ــــ بما تيسَّر ــــ ما بدا من ثغراتٍ في الجدران المتصدّعة.
بين الحين والآخر تتناهى إلى السَمْع قرقعةُ لوحٍ من الصفيح، وقد ضاقت به الأرضُ فأسلمتْه إلى العاصفة كي تعربد على صفحته ما شاءت. وعلى مقربة، ينطلق كلبٌ في عواءٍ محمومٍ لا ينتهي.

جدّتي، وعلى غير عادتها، عمدت إلى مسبحتها قبل حلول المساء، فتكوّمتْ على طرّاحة قرب الموقد، تتلو الصلاة، وتعيد ما تفلّت من حبّات السبحة، والحُبَيباتُ الصغيرة لا تنتهي. وأَنّى للصلاة أن تنتهيَ وجدّتي نهبٌ لدويّ الرعود، ولهمهمات جدّي؟

ــ  قومي شيلي المَيّ من الأرض.

فتقوم جدّتي على أربع ٍلتمسح ما تقطّر من مياه السقف وحوّل أرضَ البيت إلى سَواقٍ راحت تنساب كأفاعٍ صغيرة ٍ بين الأثاث.

وتقول جدّتي بتأفّفٍ:

ــ  كان لازِم تغيِّر تراب السقف قبل الشتي.

فينهرها جدي: "وشو فهّمِكْ بالسقف؟"

تزمّ جدّتي فمها، وتعود إلى مسبحتها.

تكاثفت البروقُ، وتلتها الرعودُ، فهرعتُ نحو جدّتي أحتمي في كنفها، وأردّد وراءها: "قدّوسٌ... قدّوسٌ... قدّوس."

وكمجوسيٍّ صميم، راح جدّي يطعم النارَ أروماتٍ دهريّةً من التوت، مترحّمًا على زمنٍ كان للتوت فيه ما كان من الإجلال والتقدير.

ومن موقعه قرب النار بدا وجهُ جدّي المدوّر كرغيفٍ طازجٍ خرج لتوّه من اللهيب. وراح يحدج جدّتي من تحت حاجبين كثّين بنظراتٍ لها ألفُ معنًى ومعنًى. أوَليست هي مَن أشار عليه بترك عنزته الأثيرة "محبوبة" في الحظيرة الخارجيّة ليلةَ الصقيع تلك، فنفقت من البرد في الصباح التالي؟ وكان سبابٌ، وكان حزنٌ، وليس لمصاب جدّي من عزاء.

في الخارج، توقف هطلُ المطر، وتعالى هديرُ السواقي، وتبدل عواءُ الكلب إلى ما يشبه التوسّل وهو يحاول الالتصاقَ بالباب من الخارج علّ البابَ يُفتح ويحظى ببعض دفء.

في هذه الأجواء المدلهمّة، طرقتْ سمعَنا ضجّةٌ. هبّ جدّي واقفًا. وضع معطفًا قديمًا على كتفيه، وأمسك بعصًا غليظة، وخرج وهو يردّد:

ــ  السايب إجا عا العنزة وهدّ الحيط.

عاجلتُ جدّتي بالسؤال: "شو السايب يا ستّي؟"

فهمستْ في أذني: "هيدا الضبع. سْكُوت!"

سددتُ فمي، وأغمضتُ عينيّ، ودفنتُ جسمي تحت اللحاف، لاعنًا إصراري على النوم عند جدّتي تلك الليلة رغم تمنّع الأهل.

إنّه الضبع، نجمُ أحاديث القرويين حول مواقد الشتاء. وإنْ خبَت أخبارُه، مدّته المخيّلةُ الشعبيّةُ بما لم يحلم الضبعُ نفسُه بمثله من المكر والسطوة. ولن أنسى ما انطبع في ذاكرتي وأنا طفلٌ من أنّ هذا المفترس الجبّار، إذا أعيته الحيلةُ، لجأ إلى بوله يبلّل به ذنبَه ويرشّ على الإنسان من ذاك السائل العجيب، فيصبح الرجلُ بلا حول ولا قوّة، فيسير خلف الحيوان إلى عرينه حيث النهاية المحتومة.

كنتُ غارقًا في هذه الخواطر المخيفة عندما ارتجّ البابُ ودخل جدّي مرهقًا وقد غطّته الأوحالُ حتّى أخمصيه. ارتمى قرب الموقد يجفّف أوصاله، مغمغِمًا باللعنات. لقد تبع الوحشَ حتّى فم الوادي، وانتزع منه الغنيمة بعد جهد جهيد. وزيادةً في الاحتياط، وضعها في الخارج على مقربة خطوات من شبّاك المنزل.

هناك، ملتصقًا بجدّتي، ملتفًّا بلحافٍ صوفيٍّ سميك، رحتُ أصيخ السمع لأفهم كُنْهَ الحوار بين العجوزين. كان واضحًا أنّ جدّتي فخورة بجدّي إلى أبعد الحدود، وقد ارتسمتْ على فمها ابتسامة ماكرة، وفي نفسها من زوجها أشياء. ولكنّها وأدتْ بعض أمنيات، وقامت لتصنع كوبًا ساخنًا من الشاي للعجوز البطل.

لكنّ البطل لم تُكتب له الراحة في تلك الليلة. فما كاد الدفءُ يسري في عروقه حتى هبّ واقفًا من جديد، متأهّبًا للمعركة الفاصلة؛ فضيف الوادي يأبى الهزيمة، وقد أعاد الكرّة.

وبعد زمنٍ غير يسير، عاد جدّي في حالةٍ مزرية: مبلّل الأسمال ممزّقها، مبعثر الشعر، وقد لطّخت الوحولُ وجهه، وأدمت أطرافَه الأشواكُ. لكنّ بريقًا في عينيه كان كافيًا ليزيد فخرَ جدّتي فخرًا.

هذه المرّة، إزاء تصميم الوحش، كان لا بدّ من تدبيرٍ استثنائيّ: على كتفه، حمل جدّي ما تبقى من أشلاء العنزة، وصعد إلى السطح، حيث أودعها بمأمنٍ هناك. ونزل إلى البيت في هيئته المزرية تلك.

أمّا جدّتي فقد همّت بالماء الساخن تزيل الوحولَ عن جسده المرهق وتنظّف جروحَه المبعثرة.

وساد السكون، وعادت الجدّة إلى فراشها قربي، وراح جدّي يحتسي الشايَ، ويرسل في فضاء الغرفة سحابةً من دخان لفافةٍ من تبغٍ بلديٍّ أعدّها احتفالاً بالنصر المبين. وبين الحين والآخر يهمس لجدّتي:

ــ  أوعى يسمع الصبي!

ولكنّني سمعتُ وفهمتُ أيضًا: لقد عاد الوحش، وها هو الآن يدور حول البيت يبحث عن ضالّته، تستفزّه رائحةٌ نتنةٌ منبعثةٌ من مكانٍ ما، ويدفعه جوع ٌ أبديٌّ لا يُشبع.

لا أذكر متى غاب عن أذنيّ وقعُ قوائم الوحش على الحصباء في الخارج، ولكنّني أذكر جيّدًا وجهَ جدّي وقهقهتَه المدوّية عندما طلبتْ منه جدّتي، نزولًا عند رغبتي طبعًا، أن يُبعد السلّمَ الخشبيّ عن جدار البيت.

لبنان

باسم عون

كاتب لبناني من صيدا. ومهندس معماري ومجاز في التاريخ.